جانب الموصل الأيسر يستعيد سرّ الحياة بعد الخلاص من داعش

أصوات الحرب ما زالت حاضرة وبقوة في الجانب الأيسر الذي لا يفصله سوى نهر دجلة عن الجانب الأيمن حيث تدور أشرس المعارك بين القوات العراقية ومقاتلي تنظيم داعش المتطرف منذ 19 شباط (فبراير) الماضي، وبالرغم من ذلك فان الجانب المحرر يستعيد الحياة عبر العودة التدريجية للخدمات الأساسية.

ما أن انتهى شهر العسل في الأحياء المحررة حتى استفاق السكان المحليون هناك على مشكلات متفاقمة تتعلق باستمرار الحياة، ثمة حاجات ملحّة للماء والكهرباء والوقود وفتح الطرق.

كان الماء ومن دون منازع التحدي الأكبر للسكان المحليين، فطوال الأشهر الستة الماضية وفي سابقة لم تحدث منذ عقود لجأوا الى الآبار للحصول على الماء بالرغم من أن النهر يقسم المدينة الى جزأين، وذلك بعد توقف المشاريع الخمسة التي تغذي الجانب الأيسر عن العمل.

“من ماء البئر إلى الماصولة”

عندما انطلق ماراثون الصيانة بعد أسبوعين من انتهاء المعارك، كان طارق فتحي واحد من مئات الآلاف يقفون في طوابير طويلة أمام الآبار للتزود بالماء في الجناب الشرقي للمدينة.

كلما دخل فتحي الى المنزل بيده غالون مملوء بالماء ألقى نظرة على انبوب الماء وتحسر.

يقول لـ”نقاش” ان عدم وجود الخدمات الملحة سرعان ما نغص علينا الأجواء الاحتفالية بالتحرير والخلاص من المتطرفين، ننفق الان على شراء ماء الشرب المستورد من إقليم كردستان نحو عشرين دولارا شهريا وهو مبلغ كبير قياسا بمستوى الدخل الحالي، وهناك عائلات فقيرة تشرب ماء البئر المالح.

ويؤكد ان استخدام الماء من النهر او الآبار لأغراض الشرب والاستعمال المنزلي تسبب بانتشار امراض جلدية وغيرها، خاصة لدى الأطفال ويضيف “نخشى ان يصيبنا الجرب او الحساسية المزمنة”، يتوقف قليلا ليحك ظهره بطريقة مسرحية، ليكمل متبسما: “هذا ما يفعله بنا الماء غير المصفى والمعالج، نحك طوال اليوم”.

بالرغم من ذلك لم يكن أمام السكان المحليين خيار آخر، لقد حرمتهم الحرب الدائرة على الضفة اليمنى من الوصول الى نهر دجلة والإفادة من مياهه العذبة الا من خارج المدينة، لذا صار في كل شارع تقريبا ثمة بئر او أكثر بحسب الكثافة السكانية، بل ان عملية حفر الآبار صارت مهنة إذ تكلف عملية حفر البئر الواحدة نحو (700) دولار ، يتكفل بدفعها ميسورو الحال او بمساهمة من أبناء الحي.

هذه المعاناة التي استمرت نحو ستة أشهر بدأت تنتهي في معظم الجانب الشرقي للمدينة بعد تشغيل مشروع ماء (الكبة) الذي يغذي (60) في المئة من هذا الجانب فضلا عن تشغيل المشاريع الأربعة الأخرى أيضا، بحسب ما أعلن لـ”نقاش” مدير ماء نينوى مرعي قلندر.

يقول قلندر “لقد كنا امام تحدٍ كبير وكان علينا ان نعمل بيدٍ واحدة بسبب ضعف الإمكانات المتوفرة، لكننا كما ترون – يشير الى تدفق الماء من الانابيب – نجحنا في إيصال الماء الى جزء كبير من المنازل ونحن في طريقنا للتشغيل بالطاقة القصوى”.

وهذا ما أكده بعض السكان في احياء متفرقة لـ “نقاش” اذ عبروا عن فرحهم بوصول الماء إليهم حتى وان لم يكن باستمرار، اما الخبر غير السار ان بعض الأحياء لم يصلها الماء بعد، لان عملية الضخ كشفت أضراراً كبيرة في شبكة التوزيع بسبب القصف والمعارك التي دارت رحاها بين القوات العراقية ومقاتلي “داعش” المتطرفين، وقد غرقت الشوارع بالماء المتدفق من الأنابيب الناقلة بينما ما يزال طارق فتحي وجيرانه يقفون في طوابير أمام البئر.

أول مصباح بعد التحرير

بعد معضلة الماء تأتي الطاقة الكهربائية من ناحية الأهمية، وفيها إشارة أوضح لعودة الحياة الى المدينة. المشكلة ان الاضرار التي لحقت بشبكة توزيع الطاقة الكهربائية كبيرة جدا وهي تحتاج الى جهد مزدوج لمحطات التوليد وشبكات التوزيع.

المهندس احمد سعيد في شركة توزيع الكهرباء يقدر حجم الأضرار في الشبكة بأكثر من خمسين في المئة فقد تقطعت الأسلاك وأعطبت المحولات الناقة للطاقة بالقصف والتفجير والاشتباكات، كما سقطت ودمرت مئات الأعمدة والأبراج، لذا نحن نقوم بعمل استثنائي منذ أربعة أشهر.

ويضيف “في الأسبوعين الماضيين أوصلنا الكهرباء على سبيل التجربة لعدد من الأحياء وانرنا الشوارع الرئيسة، لقد كان إنجازا مهما نفتخر به، لم تكن مجرد مصابيح إنما كانت رسالة بعودة الحياة، والآن نغذي الكثير من الأحياء بـ (12) ساعة يوميا”.

محمود سالم من سكان حي الحدباء يقول، ان الكهرباء وصلت حيهم قبل عشرة أيام، لكن الخط الناقل للطاقة الخاص بمحلتهم معطوب بسبب إطلاقات نارية، وان فرق الكهرباء تعمل حاليا لصيانته.

لقد عاد الماء الى حينا وكذلك الكهرباء التي كانت أشبه بعملية نزع الخمار المفروض على النساء من قبل المتطرفين، أخيرا بدأت المدينة تخلع عنها الظلام الدامس الذي استمر أكثر من سنتين، يضيف متفائلا.

مفاجأة موسيقية!

الحصول على كأس ماء نقي في غرفة مضاءة بالكهرباء تعد إنجازا عظيما في حساب مدينة أصيبت بدمار هائل في البنى التحتية، لكنها في الحقيقة لا تعني الكثير لمن هم خارجها سيما وان اخبار الحرب الشرسة بين القوات العراقية وتنظيم “داعش” ما زالت تستحوذ على الاهتمام والمتابعة.

ووسط هذا الصراع المحتدم من اجل الحياة سواء بقتال المتطرفين في الجانب الغربي للموصل او بمحاولة توفير الحاجات الأساسية للجزء المحرر، لا يبدو ان الموسيقى ستجد لها اذانا مصغية، لكن عازف الكمان أمين مقداد وعازف الكلارينيت ثامر خليل خطفا الأضواء قليلا في غفلة من الحرب عندما أقاما أول حفل موسيقي في الموصل منذ سيطرة المتطرفين عليها في حزيران (يونيو) 2014.

أمين مقداد الذي قضى سنتين تحت حكم داعش يؤكد لـ”نقاش” ان سكان الموصل بحاجة الى الموسيقى ايضا ليشعروا بالاطمئنان وليس للأكل والشراب فقط.

ويصف لحظة وقوفه على تل التوبة الاثري حيث أنقاض جامع النبي يونس الشهير الذي فجره التنظيم المتطرف: “كنت أرى من ذلك المكان العالي دخان المعارك واسمع الانفجارات المدوية غير بعيدة مني، ما أسعدني حقا، ان من حضر الحفل المتواضع كانوا متشبثين بالحياة، فقد اداروا ظهورهم للحرب واستمتعوا بالموسيقى”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here