هل يتحقق التعايش الانساني في العراق ؟

عماد علي

لا نريد الغوص في تاريخ العراق و ما كان عليه في عصوره الغابرة من حيث حياة الناس و شعوبه و التغييرات التي طرأت في في تركيبته وديموغرافيته و في مسيرة الناس من حيث التعايش او حدوث التعارض و ما تخلل التاريخ من الحروب نتيجة الاختلافات الجذرية في كينونته و تركيبته و في ظروف معيشتهم، سواء كان ذلك نتيجة عوامل و اسباب داخلية او خارجية دخيلة لا صلة لها بتاريخ العريق الاصيل نظرا لتعرض البلد لهزات بعد احتلالات كثيرة و مختلفة طوال تاريخه .

تعرض العراق لموجات عنف عديدة و في مقدمتها دينية بحتة بعد احتلاله ابان مرحلة الفتوحات الاسلامية بالاخص, و نشر الاسلام فيه بحكم القوة المفرطة التي استخدمت، و تعرض لحروب كبيرة غيرت من معالم الحياة العامة فيه حتى بشكل جذري، و مسحت فيه الخصائص و المميزات الحضارية التي اتسم بها، بعد دخول موجات المحتلين و نهبهم لما كان يمتلكه حتى قبل اكتشاف النفط و الثروات الجديدة العهد ايضا، و ما امتلكته حضارته الاصيلة من البنى الفوقية و التحتية المتقدمة، مقارنة بما كانت موجودة في المنطقة و في بقاع العالم ايضا . اننا نعلم بان وسائل العنف كانت في مقدمة ما توجه اليها و اقتصر على الاعتماد عليها العقل الانساني في تلك المراحل لعدم الايمان باولولية الحوار و التعاون و التشارك و فرض المصالح الضيقة الافق و الافكار التي ارادت ان تثبت نفسها بالقوة، و اعتبرت نفسها بديلا اكثر من ان تكون متناسبا او متشاركا او متداخلا و متفاعلا مع الاخريات التي كانت موجودة اصلا في هذه البقعة من العالم بالذات . ان الدين و المذاهب التي تفرعت منه، اصبحت عامل انشقاق و تفرقة و احتراب بين مكونات الشعوب و اثرت في مسار معيشتهم و حتى على جوهر تفكيرهم، وهي ما غطت على ما ورثوه من حضارتهم العريقة بشكل سلبي، بحيث لم نر منهم حتى اليوم من يعترف باصله الحقيقي بعيدا عن ما هو السائد في عقول الناس من انهم يعودون الى الائمة الاسلام مفتخرين بما يدعون و ان كانوا من اصول لم يكن الدين و الناس في تلك المنطقة التي تغيرت، و انما جاء الدين الاسلامي الذي استفاد من الاديان و الفلسفات من قبله و استخدمه في جانبه السلبي فقط وبالاخص ما كانت موجودة في الجزيرة العربية وفي شمالها و جنوبها اصلا و تالتي كانت نابعة من الظروف الخاصة بتلك المنطقة، و كانت صحراء قاحلة خالية من اي ميزة يمكن ان تنبثق فيها اية تجمعات متعاونة مؤدية الى بناء اسس متمدنة، كما يدعي البعض من المتعصبين عكس هذا دون اي سند علمي حقيقي، و انما معتمدين على السياسة و ما يفرضه الواقع من كافة جوانبه، و خوفا من النبوذ و الانعزالفي هذه المرحلة .

كانت هناك عوامل كثيرة ادت الى الاختلاف و المغايرة بعد سيطرة الدين على كافة مفاصل الحياة، و منها برزت الخلافات بين المذاهب و بين الدين الواحد و بين الاديان المختلفة و من ثم بين الدين و العلمانية العفوية التي برزت في بداياتها وصولا الى ولادة ملامح من التعايش الانساني بصفته الخاصة بعد الاحتكاك و ما نتج من تراكم الحالة الايجابية من العمل على المصالح المشتركة بين الاقوام و الشعوب، و كان العراق بلد الشعوب و المكونات الموزائيكية التي وصل الى ما نحن عليه اليوم و ما تثبته حاله الاني من ثبوت ما نتكلم عنه و يثبته واقعه و ما نعيش . و به شهد العراق مراحل مختلفة من النزاعات و الاختلافات و الخلافات مع مراحل قصيرة معينة من التعايش السلمي المفروض فوقيا، دون اي ولادة طبيعية التي كان بالامكان ان تثبت نفسها و تنمو و تتطور . و على الرغم من هذا فانه شهد سلما اهليا في مراحل ما و نتج عنه ابتكارات و نتاجات على ايدي العلماء و النوابغ و الفطاحل الفلسفة و العلوم في وقت كان العالم في مرحلة من الظلام، الا اننا يجب ان لا ننسى التاثير السلبي للدين الوافد الذي احرق الاخضر و اليابس نتيجة الحروب و فرض الذات بالقوة المفرطة المعتمدة على الغاء الاخر المخالف منذ تاسيسه من الجزيرة العربية الصحراوية القاحلة .

ان الفكر السائد الذي فرض نفسه بشكل عام و من دون اية ضجة حوله هو فكر الغاء الافكار و الفلسفات و العقائد المتعددة الاخرى التي كانت موجودة، بكافة السبل و منه بشكل خفي و ربما سري تام و بعمل و جهد ربما اكثره دخيل على شعبه، و لم نعد نسمع عن المفاهيم و التعاريف التي كانت موجودة حينئذ، و منها سائدة في العقول العراقية للنخبة المتنورة القليلة العدد بكفاة فئاتهم . و من المحزن اننا لم نر اي وارد ايجابي من النواحي العامة لحياة الناس في العراق، و بالاخص من الجانب الفكري الفلسفي، و على العكس فان اكثر ما كان موجودا استفاد منه الاخرون في مراحل عديدة من التاريخ العالمي . و يمكننا ان نقول ان مركز الفكر العالمي ابان الحضارات كان في هذه البقعة ان لم يعتبرنا البعض مبالغين، و بالاخص نتلمسه من الشعوب الاصيلة التي ورثت من الافكار و العقائد و الفلسفات الاصيلة المولودة على ارض بلاد الرافدين و ما يسمى اليوم بالعراق . و من المؤسف بعد التاثير السلبي الخارجي على الموجودات العراقية الداخلية، فانه انعكف و تقوقع اليوم على ما دخل فقط دون الاتزام بما كان موجودة اصلا، و اصبح حتى يعتمد على المولودات الداخلية او المحلية التي رسم المحتلون( اعني بالمحتلين من الجانب الفكري الفلسفي) اطارا ضيقا له و منعوا عنه التواصل و تطوير ما كان يتسم به من قبل ذاته ومن كافة النواحي و تميز به العراق حقا و نتيقن من هذا من خلال دراسة حضارته العريقة الاولى في العالم .

و نشا من الحالة الجديدة اختلافات و خلافات جراء التصادم و عدم الايمان بالحوار لاجل الوصول الى الحلول، و به فرغ العراق من العقلانية في التفكير و العمل و فقها، و اصبح بؤرة للحروب و التصادمات خلال تاريخ سواء في المراحل الوسطى، اي قبل الحداثة، و مسحت الكثير من الافكار و الفلسفات التي كان العراق منبعها من اصلها، او في العصور مابعد الحداثة و هذا ما ادى الى تراجعه يوما بعد اخر كما تخلف من عصر لاخر .

اما اليوم و نحن نعيش في عصر معقد و متشابك جدا من حيث ما يحمله الانسان العراقي بكافة تكوناته الموزائيكة الفسيفسائية المتعددة الشكل و من حيث الجوهر الفكري و الفلسفي، فالمعرفة التي يمكن ان يملكها العراقي و يعتز به فقط و لسوء الحظ هو من الناحية الدينية الاكثر سيطرة على عقول الاكثرية، و هذا ما يعتمد على المطلق و اليقين في كل جوانبه و ليس فيه اي مجال من التعاون و التشارك و التفاعل مع الاخر، نتيجة الاعتماد على المطلق في كل التفكير والتوجهات التي تفرض نفسها على المستند الوحيد وهو الدين و في مقدمته الدين الاسلامي بكافة مذاهبه، و لم نجد اي منه يؤكد على انه من الممكن ان يتفاعل مع الاخر و ان يتعاونوا او ينسجموا بشكل نسبي في اي وقت، و لم نسمع حتى انينا بهذا اللحن من قبل اي احد من رؤسهم الفكرية و المعتبرين انفسهم بالفلاسفة الاسلاميين، و كل ما يطرحوه هو رفض الاخر و من ادعى غير ذلك يُتهم بزنديق معارض لجوهر الاسلام فكرا و فلسفة .

اي العراق اليوم شبيه بفترة و مرحلة نشر الاسلام البدائي و ما شهده، سواء ابان عصر محمد و بالاخص في المدينة او ما بعده من حروب الردة و ما تخللت مراحله المتتالية من الحروب و النفاق و التصارع و ما فرضته مصالح معينة بعيدة عن اي فكر او فلسفة انسانية، و سيطرت الاسلام سياسيا و بمسند و مرجع مادي مصلحي على زمام الامور في كافة المراحل مابعد مجيء الاسلام و انتشاره في هذه المنطقة .

اننا نعلم بان اصل الحكم المعتمد على الدين و الاسلامي بالاخص، لا يمكن ان يكون بعيدا عن الاسس الراسمالية المستندة على الربح و المصلحة فقط بعيدا عن اي شيء اخر، و بخلاف ما يقوله بعض منهم من انه دين الرحمة و التعايش السلمي، لان التاريخ لا يدلنا الى اية فترة يمكن ان نستدل بها تلك الادعاءات الغريبة حول الاسلام و تاريخه، و كل تلك التي تصدر اليوم من اجل اهداف و شعارات سياسية مصلحية انية باسم الدين و الاسلام بالذات .

هذا ما عقّد الواقع و ثبت كل مذهب على ارائه و مواقفه فكريا و فلسفيا، و تدخلت المصالح الضيقة في فرضه و انتج الاحتكاكات منه، و لا يمكن ان نجد ارضية ثابتة للتعايش الانساني الحقيقي بين اي مذهب او فرع منه، لانه ما يدخل في ثنايا الافكار التي تدعيه كل جهة هو ضمان المصلحة الذاتية الضيقة فقط دون العقلانية و الانسانية في التفكير و السلوكو ما تنتج عنها التعايش الانساني . و الغريب من الامر، ان كل طرف يدعي امتلاكه للحقيقة بشكل مطلق دون ان تكون للنسبية اية اهمية عندهم، و هذا ما يمنع بشكل تام امكانية التواصل و التفاهم و التعامل مع البعض، و التفاعل بشكل ايحابي مطلوب لكل تعايش من اجل ان يكون الامان لينتج حياة سلمية . هذا من الجانب الديني، اما من الجانب العرقي فحدث و لا حرج، و لا يمكن ان يكون اقل تاثيرا و ان كان بشكل مختلف في جوهره .

و عليه و ان كنا نتكلم بكل صراحة و مستندين بشكل علمي على ماموجود حقا على الارض من البنى الفوقية و التحتية للمكونات العراقية في الوقت الحاضر،لا يمكن ان ندعي هنا بامكان التعايش السلمي و في العراق اليوم مابعد التعقيدات و التداخلات و ما تفرضه السياسة و ما تؤمن به المكونات و الاحزاب و العقليات الموجودة . فكيف بالتعايش الانساني الاهم الذي لا يمكن ترسيخه الا في واقع علماني انساني متجسد في عقلية و سلوك كل فرد بعيدا عن الالتزامات الثانوية المعرقلة لاي تقارب لهم لضمانهم العيش بشكل انساني، و لايكون اي اعتبار للدين و المذهب والعرق في ثنايا افكارهم مما ورد الى العراق من الافكار و الوسائل و المؤثرات التي لا تدع حتى ان يفكر الفرد العراقي في اي مكون من شعبه بشكل مستقل و ذاتي دون ان يكون لما موجود حوله تاثير مباشر عليه، للاسف .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here