السنّة والشيعة والخوف من الآخر

في سنتي الجامعية الرابعة ، قررت الكتابة عن موضوع شائك ومعقّد ، شغلني كثيراً لطالما كنت أبحث عن تفسير إجتماعي مقبول له. محاولة أريد منها معرفة جواب منطقي على سؤال حيّرني كثيراً ، وهو سؤال الهولوكوست اليهودي. هل كان المجتمع الألماني يكره اليهود فعلاً؟

جمعت مصادر عدة لعلّي أقف على رأي صلب يؤطر لي فكرة البحث التي لم تختمر بعد. حالفني الحظ وأنا أبحث عن مصادر أن ألتقي ، وبترتيب من الجامعة نفسها ، بناجية يهودية من معتقلات أوشفتز البولندي. نمساوية الأصل ، عمرها ٨٧ عاماً. توفيت قبل عامين في شباط ٢٠١٦ ودُفنت في مدينة فينيكس ، عاصمة ولاية أريزونا الأمريكية. كانت حين ألتقيتها واحدة من ثلاثة ناجين فقط باقين على قيد الحياة. هي في فينيكس والأثنان الآخران يعيشان خارج أمريكا في دولٍ أخرى. كانت فتاة صغيرة حين ساقها الألمان الى أوشفتز. سألتها مباشرةً بعد ان أخبرتني أن جيرانها قد اخذ اموالها وممتلكاتها في الفترة التي أودعت فيها المعتقل ، وان هناك من النمساويين مَن تعاملوا مع الألمان واخبروهم عن بيوت اليهود واحداً واحداً. قلت لها هل تعتقدين ان المجتمع النمساوي يكره اليهود؟ قالت “أبداً. كنا نعيش بسلام وأمان من سنين طويلة جداً وليس ثمّة كراهية ضدنا لا من النمساويين ولا من الألمان ولا من أي مجتمع أوروبي آخر. بدأت الكراهية لحظة إعلان النازيين الحرب ، إذ صار جزء من النمساويين مع هؤلاء النازيين وبدأوا بملاحقة اليهود والوشاية بهم عند الألمان. كنا نُساق للمعتقلات كالخراف ، تُنتهك أعراضنا وتُسلب ممتلكاتنا من جيراننا وغيرهم. مع ذلك ، والكلام لها ، لا أقول أن ما حدث لنا بسبب الكراهية لأننا لم نكن نلمسها في مجتمعاتنا سابقاً ، بل كانت ربما فورة وإنسياقاً سايكولوجياً تاماً لإرادة النازي القوي. الجميع يتصرف بمفرده ويتسابق للفوز بجلب إنتباه الألمان وحظوتهم. حفلة تطوع جماعي دون مقابل. لا أعرف ما الذي حصل لهم فجأة … لا أعرف”.
لا أميل لفكرة أن الكراهية أصيلة في المجتمعات البشرية. هناك مَن يعتقد بهذه الفكرة ويبلّغ لها دون معرفة. بالنسبة لي الكراهية ، مثل أية هوية أخرى (إن جاز لنا إستخدام هذا الوصف) ، ليست أصيلة في طبائع البشر عموماً ، بل أنها مُتَشَكَّلة إجتماعياً حسب آخر نظريات علم الإجتماع الحديث Social Construction of Identity. الكراهية لا تولد مع الإنسان بل تَتَشَكَّل مع الزمن نتيجة تأثير المجتمع المحيط. تكبر مع الفرد شيئاً فشيئاً حتى تنعكس في سلوكه وتصرفاته تجاه “الآخر”. هذا هو ببساطة مفهوم التشكّل الإجتماعي للهوية والذي أؤمن به بقوة.
ثمّة جدال عريض بين باحثَين أمريكيَين مرموقَين في تفسير أسباب حدوث الهولوكوست اليهودي على يد هتلر. يجادل دانييل كولدهاكن في كتابه “The Willing Excutioners” أن الكراهية أصيلة في المجتمع الألماني تجاه اليهود ، وأن ما فعله هتلر باليهود كان مخططاً له منذ بداية إستلامه السلطة في ألمانيا ، إذ كانت النيّة حاضرة لدى هتلر وحزبه النازي في إبادة اليهود ، حتى أن المجتمع الألماني لم يكن معترضاً على ذلك ، ودليله عشرات القصص والتسجيلات وروايات شهود عيان ، ناهيك عن إنخراط عدد كبير من الألمان ، مسؤولين ومواطنين عاديين ، في هذه الإبادة الجماعية ، حسب وجهة نظره. هو من الباحثين الذين ينتمون الى المدرسة القصدية Intentionalist في تفسير فعلة هتلر باليهود. تقابلها مدرسة إجتماعية أخرى ، وهي المدرسة الوظيفية Functionalist وأحد روّادها كريستوفر براوننك ، حيث يرفض الأخير في كتابه “The Ordinary Man” تفسير كولدهاكن لظاهرة الهولوكوست ويعتقد أن ما فعله هتلر باليهود لم يكن بسابق تخطيط وأنما سلوك وظيفي بنيوي معقّد تصاعدت حدّته وشدّته تدريجياً نتيجة جملة من الأسباب السياسية والإقتصادية والثقافية حتى وصلت لحظتها النهائية بإتخاذ قرار الإبادة. هو فعل سلطة بعد سلسلة من الأوامر والقرارات القيادية صنعتها ظروف تلك الفترة فبلغت ذروتها بقرار الإعدام الجماعي لليهود ، أي لم يكن مخططاً لها منذ البداية وأنما فعل أحمق رأته السلطة الدكتاتورية ضرورة لإزالة عقبة كبيرة أمام المسيرة الألمانية الواعدة ، وما إنخراط المسؤولين والمواطنين العاديين في تلك الإبادة إلّا إنقياد جماعي لاشعوري لهوس الشعارات النازية وصوت هتلرها.
ينفي براوننك أصالة الكراهية في المجتمع الألماني ويعتبر ذلك المجتمع طبيعياً Ordinary كأي مجتمع آخر ، ولو صدق كولدهاكن في دعواه بأن أغلبية المجتمع الألماني كان مع قرار هتلر في الإبادة ، فذلك بسبب الوعي الجمعي الجبان الذي يستسلم لشروط القوة نتيجة عقود من التلقين الإيديولوجي Ideological Indoctrination التي خدّر بها النازيون الشعب الألماني وأوهموه أن الخلاص من اليهود خلاص للألمان من مآسيهم وإنحطاطهم الإقتصادي/الثقافي/الإجتماعي. بعبارة أخرى ، براوننك الوظيفي يعتقد بأن الكراهية تشكَّلت عند الألمان ولم تولد معهم.
ما ينطبق على الألمان ينطبق على غيرهم.
في العراق ، إرتفع منسوب الكراهية بصورة ملحوظة في السنين الأربع عشرة الأخيرة. أخص بها تلك التي بين أبناء الطائفتين الرئيسيتين ، الشيعة والسنّة ، ليس كلهم طبعاً.
من الصعب إعمام هذا الإستنتاج دون وجود إحصاءات ودراسات دقيقة بالتأكيد ، لكن ليس من الصعب معرفة مزاج أغلبية العراقيين وكيف صارت الكراهية الملمح العام لخطاب أتباع الطائفتين ، كيف إنعكست تلك الكراهية في سلوكهم العام ، في إعلامهم ، في طريقة تفسيرهم للأحداث السياسية ، في رؤيتهم لمشكلاتهم الإجتماعية الى درجة لا يمكن لأحدنا الحديث عن قضية معينة دون أن يُربَط حديثه ذاك بالطائفة “المكروهة”. هذه الكراهية لم تولد مع العراقي، بل تشكَّلت عنده نتيجة أسباب عدة ، دينية وسياسية وثقافية وإجتماعية.
لست في مورد الحديث عن تلك الأسباب لأنها ليست موضوعي هنا. أتحدث عن منتهى تلك الأسباب ومؤداها حيث تشترك كلها مجتمعةً في صناعة شيء واحد بالنهاية ، “الخوف من الآخر”.
الخوف من الطائفة الأخرى هو ما يدفع الفرد الإحتماء بطائفته والإنغماس فيها حد العزلة.
مخطئ مَن يعتقد أن الطائفة في العراق مذهبٌ ديني ، لا أبداً ، بل هي منظومة إيديولوجية معقّدة لديها القدرة على إحتضان حتى الفاسدين من أتباعها ماداموا ربحاً عددياً لها ، مهمتها تسويق الأجوبة الجاهزة على أكثر الأسئلة تشكيكاً بقيمها ومبادئها. قد لا تمتلك سلاحاً ، لكنها تملك ما هو أخطر ، مصنعاً فعّالاً لإعادة تدوير سرديات الماضي وإنتاج قصص جديدة من المظلومية تُبقي على ذلك “الخوف” متّقداً في نفوس أتباعها.
مع “الخوف من الآخر” ، يسهل للطائفة إستغلال مشاعر الجماعة وتوجيهها توجيهاً مقصوداً نحو بناء صرح الكراهيات والإحتماء بسقوفها.
ليس كل شيعي يكره السنة طائفياً متعصباً لمذهبه الديني ، ولا كل سنّي يكره الشيعة ملتزمٌ بتعاليم مذهبه ، بل هو خوف أحدهما من الآخر ما يصنع حدود ومستويات تلك الكراهيات المتبادلة. الكراهيات التي تدفع في أصحابها نزعة الميل نحو الهوية الطائفية بوصفها ملجأ القوة ومكمن الأمان النفسي لمَن يعيش هوس التهديدات الطائفية وأوهامها. الطائفة هي القوة التي تمنح المرء الأمان النفسي حين ينهار الوطن أمامه ، والعيش في حيز تلك القوة ليس مكلفاً أبداً ، لا يحتاج سوى إشهار الكراهية للطائفة الأخرى ، حتى لو كان إشهاراً منافقاً هدفه الفوز برضا الجماعة فقط ، ستتشكَّل الكراهية عنده يوماً بعد يوم وتصبح جزءاً من شخصيته وتفكيره. كلما زالت سلطة الطائفة وتفكّكت تأثيرات الجماعة تفكّكت معها الكراهيات المتشكّلة وصار الندم حديث مَن إقترف لسانه أو يده جرماً بحق الآخر. لنا في إعترافات مجرمي الهوتو والتوتسي خير مثال على ذلك.

الكراهيات الطائفية في العراق ليست أصيلة بل تشكّلاً إجتماعياً غير سوّي قائم بمجمله على “الخوف من الآخر”. السنّة والشيعة في العراق ، ربما في أماكن أخرى أيضاً ، لا يكرهون بعضهم بعضاً أصالةً بل خوفاً من أن يفرض أحدهما سلطته على الآخر ، وهذا الخوف تحوّل عند الكثيرين الى “حقيقة إجتماعية بحتة” غير قابلة للتشكيك. كل ذلك بسبب سياسات الهوية التي تعمل عليها القوى الطائفية في العراق.
اللجوء للطائفة لا يوفر أماناً للمرء ، بل بالعكس ، يجعله خائفاً بإستمرار لئلا تنقلب المعادلة السياسية وتصبح الغَلَبَة للطائفة الأخرى. علّمنا التأريخ أن هيمنة طائفة على أختها لا تبقى للأبد بل تتغيّر بتغيّر علاقات القوة. الطائفيون يعرفون ذلك تماماً ولهذا ينامون مع أسلحتهم في سريرٍ واحد. ما يعطي الأمان للمرء هي قيم الدولة الحديثة وعدالة نظامها وقانونها وحكومتها. كلما تعزّزت ثقة الفرد بدولته ونظامه العادل غير الطائفي ، كلما أضمحلت الهوية الطائفية لديه وحلّت الوطنية بديلاً عنها. تزول الطائفة ويبقى المذهب بوصفه إختلافاً فكرياً طبيعياً..

سليم سوزه
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here