رجل ناصع الرداء.. أبيض اليد

خالد جواد شبيل
“إن هي إلا ورقة من أوراق الذكريات/خ”
كان العام هو 1967، وطلاب جامعة بغداد يؤدون امتحانات العام الدراسي الذي يوشك أن ينتهي، وفي شهر حزيران وقعت الواقعة التي سميت تلطفاً نكسة حزيران، وواقعاً كانت هزيمة للأنظمة المتسلطة التي تاجرت بقضية فلسطين تجارة خاسرة! في العام الدراسي التالي 67-1968 بدت كلية التربية وريثة التقاليد الثورية كبحر هائج، إضرابات واعتصامات واحتجاجات ومهرجانات شعرية وعروض تشكيلية تندد بالهزيمة وتشجب مسببيها وتطالب باسقاط كل الأنظمة العربية..
وكان الحدث الأهم هو الانتخابات الطالبية التي حصلت في جامعة بغداد وافضت بنتيجة مدهشة وهو حصول اليسار على مايقرب 80% من الاصوات، أرعبت الحكومة وأقضّت مضجعها رغم حالة التشظي والانقسام التي عانى منها الشيوعيون، كانت هذه النتيجة هي التي جعلت البعث يسارع ويستولي على السلطة قبل أن تبادر قوى اليسار ذات القاعدة الشعبية العريضة بالاستيلاء على السلطة، فقد خامر البعثيين خوفٌ من أن حزباً شيوعيا يقبع معظم كادره في السجون أن يسبقهم بثورة!!
كنا في السنة الثانية في قسم الكيمياء، وكان هذا القسم مع شقيقه قسم الفيزياء يعج بالشيوعيين المنتظمين في الجناح المنشق “القيادة المركزية”، في هذه السنة تعرفت على طلاب جدد من مختلف أنحاء العراق.. من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وقد شدني أبناء الجنوب وأبناء الشمال (الأكراد تحديدا) بطيبتهم وعفويتهم وكان التشابه في الطباع والسجايا كبيراً رغم اختلاف اللغة والسحنة..
وكان انشدادي أكثر لليساريين ولا يحتاج المرء شديد ذكاء لتمييزهم.. ومن جملة من تعرفت عليهم طالبٌ بغدادي لطيف مرح ذكي جريء متأثر بالهزيمة متضامن مع الفلسطينيين، اسمه عادل مراد العطار، وانعقدت بيننا صداقة، حتى عرفت أنه كردي فيلي من باب الشيخ يسكن في بني سعيد من شارع الكفاح. بدأنا نلتقي في نادي الكلية أثناء الدراسة وفي  خارجها في مقهى الهيتاويين مقابل سوق الصدرية، وكنت أحسبه من منشقي “القيادة المركزية” ففي هذا المقهى هناك شباب من مختلف الكليات يحملون الفكر نفسه، وكان بينهم محمد علي إمام وأخوه  و صبا ح وأخوه فلاح وعقيل الناصري وأحمد الناصري وطالب مراد (الأخ الأكبر لعادل وكان يدرس في الطب البيطري) ورحمن الفيلي وهناك شخص يتقدم الآخرين في العمر قليلا ولهجته تدل على كونه كردي شمالي (لم يكن اسم كردستان شائعا أو متداولاً بكثرة) أظنه من السليمانية، كان هذا الشخص (بكر) يمتلك قاعدة معرفية جيدة ويدرس في كلية أصول الدين الشيعية رغم بعده عن الدين كل البعد ورغم لكنته الكردية القوية عندما يتكلم العربية، وكان يروي عن نقاشه مع الأساتذة من قبيل الشيخ مرتضى العسكري والشيخ محمد مهدي الآصفي وما يدور بينه وبينهم، وكنت أراه مبالغاً في انحيازه لنفسه لأنني أعرف امكانات الشيخين الكبيرين..
لقد استفدت من هذه الحلقة ممن هم أكثر دراية مني، وكنت استمع أكثر مما أناقش وربما كان خجلي يمنعني عن المساهمة فأنا جديد بينهم! كان عادل هو الآخر قليل المشاركة لكنه كان فاعلاً وجريئاً ثابت الرأي قوي الجنان.. وقد لمست ذلك فيه أكثر عند سفراتنا الجامعية فكان يتولى التخطيط وكتابة البرامج وعرافة الاحتفالات.. تشفع له قامته المديدة ولباقته ووسامة بادية علية حتى أن البعض يشبهه بالمثل المصري عبد الله غيث، ولا شك أنه كان ينتشي لذلك التشبيه!
لم يمض على تعارفنا أسبوع أو أسبوعان ليفاجئني عادل بأنه على صله بالحزب الديمقراطي الكردستاني، وقال: أتمنى على الجماعة (يقصد الشيوعيين واتحاد الطلبة) أن يفهموا ذلك، فأوصلت ما قاله للجماعة، وشكرني على فعلتي: زين سويت! لم يؤثر انتماؤه هذا على العلاقة بيننا بل أحسب أن علاقتنا قويت وازدادت رسوخا.. كان عندما يذكر الملا مصطفى البرزاني يذكره بإعجاب شديد وكذلك الحال مع حبيب محمد كريم (أبي أراس)، وقد أخبرته أنني اعرف أبا آراس لكونه كان موظفاً في مصر الرهون وكان مديره نسيبي وابن خالتي جاسم حدود شبيل، ثم عمل أبو آراس مذيعاً في الإذاعة وما زلت أتذكر أسلوبه المميز في قراءة نشرة الأخبار..
أحسب أن عادلاً انجذب للديمقراطي الكردستاني عن طريق الأستاذ حبيب محمد كريم، الذي هو- عضو المكتب السياسي –  لينشط في صفوف الحزب الكردستاني وفي واجهته اتحاد طلبة كردستان. ونظراً لما يتمتع به من صفات جيدة مثل الاخلاص والتفاني برز في الكلية كناشط كردي مرموق.. بيد إن استقطابا حصل على شكل تكتل بين المثقفين في السليمانية بقيادة الصحفي والحقوقي الأستاذ جلال الطالباني  والمثقف القاص الكردي إبراهيم أحمد لينفصلا مع قاعدة من المثقفين والبيشمرغة عن الحزب الأم “الديمقراطي الكردستاني”..
وقد كنت على علاقة طيبة مع الطرفين من زملائي الطلاب، بل كنت أرى الجلاليين أكثر مرونة وثقافة وقربا للماركسية اللينينية كما كنت أقرأ أدبيات الطرفين، متعجباً أن يكون الشيوعيون أقرب إلى البارزانيين! ويكبر التعجب عندما لا أرى عادلاً في صفوف الجلاليين حيث كنت أراها المكان المناسب له. كانت العلاقة بين الحكومة البعثية والبرازانيين بين مد وجز وقد استفادت وعملت على توسيع شقة الخلاف بين الطرفين.. فقد اضطر عادل الى قطع الدراسة أكثر من مرة والتخفي، كنت خلالها أذهب إلى منزلهم وأسأل عنه الوالدة الطيبة عندما تنقطع أخباره تماماً..وأذكر مرة التقينا على حذر في مقهى الكريمات مقابل ملهى ليالي الصفا، وذهبت إلى أمه لأطمئنها بقرب الانفراج، حيث بدأ يلوح في الأفق تقارب تمخض عن أتفاق الحادي عشر من آذار عام 1970!
تخرجت في ذلك العام وابتُعثت مدرساً إلى الجزائر، ومكثت ثلاث سنوات رجعت مرة واحدة وزرت عادلاً الذي أصبح رئيس اتحاد طلبة كردستان ومقره في الوزيرية وأدركت أنه متفانيا في مهمته من أجل الطلبة حتى لأتذكر وأنا معه في المقر أن جاءه خبر اعتقال زميلنا المشترك من خانقين الأستاذ (أكرم ي.) فبذل جهدا ً استثنائيا ليطلق صراحه واستمررت بزيارته في البيت أو نلتقي في مقاصف الكرادة!
ثم ساءت العلاقة بين الحكومة والبارتي وتخفى عادل، وحدث أن زارنا في النجف وبقي ليلتين وغادر وخلّف وراءه انطباعا حسناً وذِكراً طيباً ولم أستطع ان ألتقيه طيلة سنوات طويلة غادرت العراق في بداية عام 1979 وغادر هو إلى سوريا وعمل صحفياً مع منظمة التحرير الفلسطينية وكوّن علاقات طيبة مع القادة الفلسطينيين لا سيما الدكتور جورج حبش..
بعد انتكاسة ال75 إثر توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران لقاء تصفية الحركة الكردية .. حيث ثم لقاء دمشق الذي جمع جلال الطالباني وعادل مراد وفؤاد معصوم وعبد الرزاق معصوم ثم بعد اشهر انضم لهم نوشروان مصطفى وكمال فؤاد وعمر شيخ موس وعلي عسكري.. وأحسب أن عادلاً كان الرجل الثاني في الاتحاد الوطني الكردستاني بفضل كفاءته وثقة رفاقه لا سيما جلال الطالباني.
كنت أتابع نشاطات عادل مراد من خلال كتاباته في الحياة، وكانت كتاباته تتسم بالعبارات المتماسكة والأفكار المتجددة التي تحرص على وحدة جميع القوى المعارضة مع تحليلات للأوضاع العراقية والعربية.. التقينا في التسعينات لقاء سريعا خلال زيارته لستوكهولم..
حتى سقوط النظام العراقي على يد الاحتلال وكنت قد عبرت الحدود من إيران إلى العراق عن طريق بنجوين، والتقيته في  14 نيسسان في مقر الاتحاد الوطني حيث سهّل لي العودة إلى إيران لمواصلة عودتي إلى السويد.
****
ومن الواضح أن عادل مراد تسنم من خلال مسيرته النضالية مسؤوليات هامة جدير بها بل هو أكبر منها، ومن تجارب تاريخية عديدة يكون للقائد السياسي موقع هام لرفاقه فإن تغيب لسبب ما تبدأ الصراعات بين الكتل الخفية كل يريد أن يملأ الفراغ وغالبا ما يطمح لملئه الرجال الثانويون في الحلقة لإبعاد الأكفأ.. وهكذا بعد مرض لينين صعد ستالين وأبعد الأكفأ وهو توصيف لينين لتروتسكي في وصيته.. وهكذ حصل الحال حين توفي جمال عبد الناصر فقد تسلمها السادات، والحال يتكرر بوفاة هواري بومدين فقد أبعد  يحياوي ليتسلم الرئاسة الشاذلي!! وها نحن نقرأ قبل بضعة أيام ما تناقلته وسائل الإعلام من أحالة عادل مراد الى التحقيق وهو الأكفأ والأنزه ليبعد عن مسؤوليته كرئيس للمجلس المركزي بشكل تآمري من قبل زملائه … لم يستفد عادل من مناصبه قط ولم تسجل علية شائبة أو تقصير، فهو يسكن بيتاً متواضعأ داخل السليمانية ولم يعين أحداً من أولاده الثلاثة في منصب رسمي، إنما يشتغلون خارج العراق وفق تحصيلهم الدراسي، لقد ناضل عادل من أجل الوحدة الوطنية، وأدان أسلوب رفع ورقة الانفصال والتلويح بها، واعتبرها لعبة تدل على غياب منظور سياسي واضح، عادل عوقب ممن هم لا دور لهم بسبب الحسد والحقد والمنظور الضيق الذي لايخلو من طائفية وعصبوية.. عوقب لأنه دائما ما يجهر بآرائه ويتكلم بصوت عال، فهو لا يعرف الهمس وهو الجاهر بالحق حين أدان قصف الأكراد من قبل تركيا التي أصبح حتى رفاقه في الاتحاد يتملقونها ويخطبون ودها، عادل الذي قال بصوت عال: بغداد أقرب إلى أربيل من أنقرة وطهران، عادل رفض الأسلوب الانتفاعي في التعامل مع المركز بجعله بقرة حلوب لا غير..وهو لايُخفي تضامنه مع حزب العمال الكردستاني وطالب بإخراج القوات التركية من أرض كردستان وتحريرها من الدنس التركي..عادل واجه من يتملق مسعوداً ويمشي في ركابه وهو في الاتحاد وقال بوجوههم حددوا مواقفكم بشرف.. لقد أدان عادل أكثر من مرة حكم العوائل التي أثرت على حساب الشعب الكردي المسحوق.. عادل طالب بتحقيقات لفضح الفساد وآكلي السحت.. طالب بإعلام موضوعي صريح مضمون السلامة.. هذاهو عادل مراد أبيض الجبين أغر الناصية .. فمن هم الذين عاقبوه؟!!
ستوكهولم في 7 أيار 2017
 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here