جاسم وحروب ابن صبحه

عباس العزاوي

جاسم او ابو نصيف كما كنت اتلذذ بمناداته كي نجلس لحوار المساء الممتع امام النار التي كنا نوقدها داخل احدى البنايات، كان هذا قبل ان يشرع العدو بسلگ قواتنا سلگا لنجاهد بدورنا كالاراول التي فقدت رشدها للاختباء في الخنادق المعدة سلفا كخطة ستراتيجية لازعاج العدو وتشتيت جهوده وتحت اي چينكوه صدءه لاتقي من شظية قنبلة فضلا عن صاروخ امبريالي رأسمالي كافر لايؤمن بالله ربا ولا بالاسلام دينا.

جاسم رفيق السلاح  ـ الذي لم تمنح الاقدار لي فرصة استعماله لاسقاط طائرة الشبح وصواريخ ” السايدويندر” ـ  شخصية مثقفة وذو خلق رفيع وقلب طفل دافئ ، كان قادماً من النجف ومن حملة الشهادات العليا التي اراد البعث ان يعفّر وجوههم بغبار المعارك القومجية ضد العدو الدائم، كان يمتلك وعياً كبيراً، ومعرفة واسعة علاوة على رؤية تشائمية عالية الجودة تفحّط حتى جلال الدين الرومي نفسه ، ادركت صوابها بعد عشرات السنين، افكار كادت ان تخنقي بسوداويتها رغم صغر سني فهو لم يترك لي حتى رازونة صغيره اتطلع منها لعراق آخر يكون فيه ابناءه شيء مختلف غير طليان فدوه لحفلات القائد الصاخبة ومشاريعه الكارثية على جبهات العزة والكرامة والخرط الوطني الساذج.

منحني افكاراً جديدة ـ اعني جاسم وليس القائد ـ وصحح لي اخرى واشار عليَّ بقراءة الرواية بطريقة مغايرة لسرد عجائزنا عن مغامرات الطنطل وعدالة محمد حرامي وكلاوات ام عامر، المرأة التي ألتهمت عشاء اطفالها الجياع وهم نائمون وراحت تلطخ افواههم وايديهم بالحساء ليلا كي توهمهم بانهم اكلوا قبل النوم…حتى هممت بخنقه مرة رغم انه اكبر مني حجماً بثلاث اضعاف فانا ابدو كفارزة عندما اقف الى جانبه ،سامحه الله افسد علي متعة كوني اكثر الجنود ثقافة في وحدتي ، فكان علي اعادة قراءة الطاعون وكوخ العم توم وشرق المتوسط وليالي الحرام وبعض من روائع غابرييل وغيرها، كيف!؟ وقد عقدنا مع الحروب المقدسة صداقات ومعاهدات دائمة وبشروط جزائية قاسية!!. لاوقت لدينا للترف والعيش بسلام فالعروبة والاسلام في خطر.

ذات صباح يوم مشرق من منتصف كانون الثاني وقبل ان تبدأ نذر الموت والخراب مهامها السادية المعتادة باطلاق نعيقها المشفوع بالخوف ورائحة الموت الخانقة وجدته يتأمل نبتة صغيرة تفتحت للتو من بين الرمال قرب بركة صغيرة صنعتها المياه الناضحة من خزان مقر الوحدة..عباس… تعال وانظر هذه النبتة الخضراء التي وجدت طريقها وسط هذا الكم الهائل من الخراب، اذن هناك امل ياعباس.. هناك امل!!؟ قالها وتطلع الي وهو مازال منحنياً…

وقفت الى جواره وانا اتطلع لجهة العدو… وقلت بصوت خافت كي لايسمع جراوي البعث ماعزمت عليه من امر خطير ، طز بالنبته وطز بالحرب وطز بالاب القائد حفظة الله… اتعرف ياصديقي؟ بعد ايام او ربما ساعات ستحترق هذه المنطقة باكملها وتتحول الى ركام متفحم، فعدونا مختلف هذه المرة ،فهل ترغب ان تكون جزءا غير مأسوف عليه منها!!؟ ستأتي حافلة تنقل المجازين عصر اليوم الى بغداد ،ساذهب معهم ولن اعود، اريد ان ارى طفلي قبل ان اذهب فداء للسيد القائد وسوادينه السقيمة..فانا لم اره منذ ولادته! فقد أنشغلت بتحرير الوطن والاوطان المتاخمة له وربما تمتد مهمتي الوطنية الباسلة الى ابعد من الصين !! وماذا عنك !؟.

لأول مرة ارى ان عيون صديقي جاسم كانت عسلية وواسعة وقد لمعت فيها بقايا دموع ترفض النزول لاعتبارات بدوية راسخة!! الرجل لايبكي، يتعذب يموت ،تتقطع احشاءه بالرصاص لكنه لايبكي ، يفقد امه، حبيبته ،يفقد ساقه ، يده ،عينه.. لكنه لايبكي، هكذا علمونا وليتهم لم يفعلوا…فقد حرمونا من لذة الشعور بالحزن والالم كباقي البشر.

انته روح مع الف سلامة خويه!! ولماذا لاتأتي معي؟ سألته بتودد واضفت ، سمعت ان السائق من النجف وسيوصلك لبيتكم…اجاب وهو ينظر الي كأنه يتضرع بألم ان اتركه وشأنه…صعب حبيبي صعب…معناهه راح اتمسح بشهاتي اذا هربت!!.

اعلن القائد المظفر الانسحاب من المعركة في الوقت القاتل وترك جاسم وبقية اصحابي واحبتي عرضة للنار والقذائف المتسابقة لنهش لحومهم، ذابت الأجساد تحت حرارة الحديد المنصهر والصواريخ الكافرة كانت تتهاوى فوقهم بعبثية وجنون سادر كأنها الشهب الملتهبة واكتضت فضاءات الهزيمة بأرواحهم البريئة ….. وانتصر الفناء والخوف والضياع…تركنا قائد الأمة في العراء كخراف لاقيمة لها على طريق الموت والجنون!!!. وانطلقت الأمهات العراقيات بعزف نشيدهنّ السرمدي…وبايقاع أشد حزناً ومرارة  ـ بعد طول صبر ودعاء ـ ولطم على الاضلاع والصدور…

شبان يردون الهوه والموت ماخلاهم!!.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here