لماذا سيخسر اليسار العراقي الانتخابات البرلمانية القادمة؟

محمد رضا عباس

ولدت في عائلة كبيرة , متوسطة الدخل في مدينة الكاظمية المقدسة. كان الوالدين لا يعرفون القراءة والكتابة , ولكن كان الوالد , رحمه الله, يصر على التعليم وكان دائما يذكرنا داما ان لا نكون مثله مشلوع القلب” , يعمل ليل نهار . كان يحب ان ينظر الى أولاده وبناته وهم أطباء ومهندسين ومحاميين. ولكن كان يحب وظيفة المعلم جدا , لان المعلم كان يتمتع بعطلة صيفية امدها ثلاثة اشهر وبراتب شهري كامل . لقد تحقق حلم الوالد , ولكن بكل اسف بعد ان توفى حزنا وقهرا على أولاده الذي لم يعرف عن مصيرهم شيء ( لقد اكتشفنا انهم كانون في السجن لا حقا) حتى مات .

كانت مدينة الكاظمية محسوبة على الحزب الشيوعي و أتذكر جيدا كيف كان يتعرض اهل الكاظمية الى الاهانات في مدينة الاعظمية المحسوبة على الخط القومي , وهم في طريقهم الى بغداد في 1960. أبناء الكاظمية وقفوا ضد انقلاب 8 شباط الأسود ولم تستطع قوات نصرة عبد الكريم الدخول لها الا بعد سبعة أيام بعد ان قتل من قتل. في الأخير حكمت المحكمة الخاصة على 28 شابا من اهل الكاظمية بالإعدام شنقا حتى الموت , ولكن تدخل المرحوم الشيخ محمد الخالصي عند الجهات المختصة آنذاك هو الذي حال دون اعدامهم , وتخفيف حكم اعدامهم الى الحكم المؤبد. لقد تدخل الشيخ محمد الخالصي وهو والد الشيخ جواد الخالصي , و المعروف بعداءه للشيوعيين ,في تخفيف الحكم عن المعتقلين لشعوره بالمسؤولية تجاه أبناء بلدته , على الرغم من خلافاته السياسية معهم .

لم يكون لدى اخواني واخواتي توجهات سياسية دينية , ولا اعرف لماذا , ولكن بكل تأكيد ان الظروف الاقتصادية والسياسية و الثقافية والاجتماعية والتي كانت سائدة في الكاظمية كانت هي السبب. حيث كانت اغلب احاديثنا في البيت و في خارجه يدور حول الحداثة والديمقراطية، الحرية , السلام , الفدرالية لكردستان , العدالة في توزيع الوظائف الحكومية , وتحسين الاقتصاد الوطني . لم يمر في خلدنا ان يكون الحديث ينصب على هذا كردي وهذا عربي , هذا مسيحي والأخر مسلم , وهذا شيعي وهذا سني . ابدا لم أتذكر في يوم ما ان تحدثنا عن هذا الموضوع , الكل كان يريد ان يكون العراق بلدا امنا مستقرا ديمقراطيا ينعم الاخوان الاكراد بالحكم الذاتي . لا أحد كان يتصور في يوم من الأيام ان الاكراد بعد الفيدرالية يطالبون بالانفصال متحججين بظلم الماضي والذي عم جميع العراق، وشمل حتى الطبقة التي كانت مستفيدة منه.

لم يكن اخواني واخواتي من المنظمين الى أحزاب دينية سياسية , بل بالعكس لقد اتهم احد اخواني بدفع اشتراك شهري للحزب الشيوعي فحكم عليه بالمؤبد وخسر عمله وشطر طويل من حياته في غيابات السجن , و اضطر اخ اخر بترك جامعة التكنلوجيا لان مجموعة من الطلاب الاتحاد الوطني لطلبة العراقحاولوا قتله وهو في احد مختبرات الكلية بتهمة الشيوعية , وبعدها شمله التجنيد الاجباري وارسل الى جبهات القتال الامامية , حيث كان النظام يرسل الافراد و أبناء العوائل الغير مرغوب بهم الى جبهات القتال الامامية للتخلص منهم . لقد انقذت حياته الوساطات والرشاوى، بعد ان أصيب في صدره بعيارات نارية على جبهة عبادان .

تركت العراق في أوائل السبعينيات من القرن الماضي واكملت دراساتي العليا في الولايات المتحدة الامريكية وأصبحت أستاذا في احدى الكليات الامريكية وتقاعدت منها بعد ان أصبح عنواني برفسور متقدم. لقد تركت العراق ولكن كما قال مضروب الجلوهعباس الجيجان في قصيدته العصماء ما انت بعيدوالتي يقول فيها من اطلعت منك يوم طرني البين , كلبي وياي ما جبته , اثاريني نسيته اهناك , عندك كلبي امنته , شتلته بجرف دجلة الخير , وي سباح الشواطي شربكت بته ولكن اكتشفت نفسي تماما عندما يقول في هذه القصيدة الخالدة لكن ما ادري شنهي يصير بيه من يمر طاريك , احسك دفؤ تموز وسط اشته , واثاريني مثل طبع النخل لو طال , يرجع للأصول وتنحني اسعفته“. وهكذا طيلة بقائي في هذا البلد العظيم , الكريم لم انسى العراق وبقيت علاقتي مع اخباره طيلة 40 علاما.

سردت هذه المقدمة , حتى لا يخرج علي كاتب اخر زمن من العلمانيين او اليساريين او المدنيين ويتهمني باني احد مشايخ المنطقة الخضراء بعمامة ولحية وجبة و خاتم او خاتمين . بالحقيقة يؤلمني ويؤذيني وانا اقراء بعض المقالات التي تتهجم على رجال الدين وعلى عمائمهم وهم الذين حفظوا العروبة والكتابة العربية والثقافة العربية بعد ان أراد العثمانيين تشويهها. نعم , ان على كل من ينطق بالضاد , يجب عليه الانحناء الى هؤلاء العظماء الذين حفظوا التراث الإسلامي والعربي من الاندثار , لا ان يستهزئ بهم , بجريرة واحد او اثنين من الفاسدين.

سردت هذه المقدمة لأقول ان اغلب الناس من الذين قابلتهم في زياتي الأخيرة الى العراق غير مرتاحين بل منزعجين من انتقادات القوى اليسارية او المحسوبة على القوى اليسارية على النظام القائم في العراق. يقولون ان اليسار العراقي هو الذي ورط أولادنا في حرب خاسرة مع النظم العراقية المتعاقبة وفي النهاية تركوا العراق وماتوا في المهجر معززين مكرمين ولهم قبور يزورها احبائهم واولادنا أصبح لا قبور لهم. انهم يقولون اليس من الظلم ان يقطع الحرس القومي جسد بطل العراق و عظيمه و محبوبه و زينة شبابه ناصر بن جودي صمد الطرشجي عام 1963, ومن تبقى من قوى اليسار الاحياء يتسكعون في عواصم أوربا؟

الذين التقيت بهم من غير السياسيين او لهم علاقة مع المنطقة الخضراء منزعجين من الفساد الإداري والمالي في دوائر الدولة و القتل الغير مبرر على يد الإرهابيين , ولكنهم يتفقون ان التغيير ارجع لهم كرامتهم والثقة في نفوسهم بعد ان كانوا يخافون من اهانات الشرطة والشرطة السرية في زمن الحكم العلماني.

الذين التقيت بهم من غير السياسيين او لهم علاقة مع المنطقة الخضراء ,منزعجين من تصرفات بعض السياسيين التي لا تصب في مصلحة البلد ,ولكنهم يقرون ان التغيير له الفضل بأطلاق حرياتهم في السفر , البيع والشراء, و ممارسة طقوسهم الدينية.

الذين قابلتهم من غير السياسيين او لهم علاقة مع المنطقة الخضراء متفقين ان الوضع الاقتصادي في البلد ليس على خير , ولكنهم يفهمون ان هذا الوضع ليس من صنع اليوم وانما جاء نتيجة اخفاق النظم العلمانية التي حكمت العراق طيلة 80 عاما.

انهم يقولون ان النظم العلمانية لم تستطع بناء أي صرح ثقافي او اجتماعي او اقتصادي في البلاد يستطيع المواطن العراقي التحدث عنه , والعراق اصبح تحت ادارتهم اقل تقدما حتى من الدول الفقيرة , القريبة والبعيدة . العلمانيون تركوا العراق والشعب العراقي كان افقر شعوب الأرض , قيمة الدينار العراقي أصبحت لا تزيد عن قيمة ورقة كلينكس لتنظيف الانف , و ديون خارجية تزيد على 120 مليار دولار.

الذين قابلتهم من غير السياسيين او لهم علاقة مع المنطقة الخضراء متفقين ان النظام الجديد على الأقل فتح لهم المجال لمعرفة السيرة الشخصية لمرشحين مجلس البرلمان او الحكومة , بعد ان كانت هذه الوظائف محجوزة للأهل والاقرباء.

الذين قابلتهم من غير السياسيين او لهم علاقة مع المنطقة الخضراء يقولون ان الذين ينتقدهم اليساريون اعطونا المجال بالذهاب الى مراكز الانتخابات واختيار من نريدهم حتى في زمن الاقتتال الطائفي وبذلك فان قادة الحكم (أصحاب اللحى والمحابس) أكثر وطنية من اليسار العراقي والعلماني العراقي الذي ألغى الوطنية والشعور الوطني وعقل المواطن.

الذين قابلتهم في العراق من غير السياسيين , يقولون ان اغلب من ينتقد الوضع السياسي في العراق يعيشون خارج العراق , اغلبهم يستلمون راتبين واحد راتب تقاعدي من العراق والأخر مساعدات مالية وعينية من البلدان المضيفة لهم وبذلك عندهم الوقت الكافي بسب وشتم العملية السياسية .

الذين قابلتهم في العراق من غير السياسيين , يقولون لقد اكتشفنا مساوئ القوى العلمانية واليسارية والمدنية وسوف لن نقع في شباكهم مرة ثانية . لقد زرعت هذه القوى الشر في الماضي وها نحن نحصده على شكل فقر اقتصادي وقتل على الهوية. ولو استطاعت هذه القوى تأسيس دولة عادلة قوية لما اصابنا ما اصابنا اليوم.

الذين قابلتهم في العراق من غير السياسيين يتفقون , ان الإرهاب الذي جاء الى العراق هو ليس بسبب سياسة علاوي او الجعفري او المالكي او العبادي , لقد زار الإرهاب العراق بعد التغيير بأيام قليلة ولم يكن هناك حتى حكومة او مجلس برلمان , بل لم يكن هناك عراقي يحكم البلد في السنة الأولى من التغيير.

لقد وجدت نفسي عاجزا عن ردهم , وأصبحت رسالتي الى قوى اليسار والعلمانية والمدنية ان يبحثوا عن خطاب جديد يستطيع اقناع هؤلاء العراقيين النجباء الذين حملوا الهم العراقي بكل تفاصيله بشراء بضاعتهم , وترك طرق الخطابات الداينوصورية , نحن نعيش في عام 2017 وليس أعوام الستينيات او السبعينيات من القرن الماضي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here