ذكريات لا تمحوها الزلازل والقنابل والبارود

 خالد حسن الخطيب

     

    

     

حدثني احد البغداديين عن ذكرياته الجميلة المرتبطة بالحلويات العراقية الشهيرة والتي امتد اسمها من منطقة الشورجة قلب بغداد النابض وقلب العراق العريق عراقة الازمان والمكان والتاريخ .. فقد ذكر الشيخ جلال الحنفي ان كلمة الشورجة تعني البئر الذي يحتوي على مياه غنية بالمعادن والاملاح ( الشوركية ) , اما الاستاذ سالم الالوسي فقد نسب كلمة الشورجة الى كلمة ( شابراج السومرية ) وتعني زيت السمسم التي من الممكن ان تكون قريبة من كلمة شورجة , وكما يعلم اهالي بغداد القدماء فان الزيت المستخرج من السمسم يسمى دهن الشيرج وهي قريبة من كلمة الشورجة حيث كانت الاخيرة تحتوي على الكثير من المعاصر الصغيرة والكبيرة لاستخراج زيت السمسم , و بالنسبة للحلويات التي كانت وما زالت تصنع في بغداد مثل الزلابية و البقلاوة والبرمة والتي تحشى بأنواع المكسرات مثل الجوز واللوز والفستق الحلبي وغير ذلك وكذلك صناعة الداطلي واللقم , و صرة الخاتون ( خانم كوبكي بالتركية ) التي تتميز بعدم احتوائها على المكسرات . فان هذه الحلويات كانت تظهر في بغداد بكثره  وتحديدا شهر رمضان المبارك في كافة طرقات ومحلات بغداد الشعبية و تصنع من دهن الشيرج ( زيت السمسم ) لكثرته ورخص ثمنه لذلك فان العوائل المقتدرة ماليا كانت تشتري الحلويات المذكورة من محلات متخصصة ومعروفة والتي تستعمل الدهن الحر الخالص في صناعتها نذكر منها محلات حجي جواد الشكرجي ولديه فرعين الاول في الكرخ والتي لا تزال لافتة المحل تحمل العنوان نفسه و الثاني في الكاظمية وكذلك محلات جاسم الشكرجي في الكرخ التي تتميز بقلة او اعتدال المادة السكرية ومشابه الى الحلويات الشامية او الفلسطينية حيث يقدر الزبون الخالي من الامراض من أكل كيلو كامل من هذه البقلاوة دون التوقف وشرب الماء . اما حلويات فرج واحمد نعوش في الاعظمية فهي اسم لا يتكرر ابدا في ذكريات الماضي حيث ادخل و لأول مرة عملية تغليف الجكليت بواسطة ورق خاص كتب عليه حظك هذا اليوم او حكمة اليوم وكذلك محلات محمد العاشق في منطقة الصدرية ( سراج الدين ) الذي اشتهر بصناعة البقلاوة ام القيمر وحجي كنش الذي افتتح فرعا في أواخر أيامه في مطلع الستينات في منطقة الباب الشرقي . اما حلويات( صبري و توفيق ) بالكاظمية ( شارع باب القبلة ) فكانت نار على علم لشهرتها وشعبيتها ومكانتها في قلوب اهلي بغداد التي لا مثيل لها بسبب جودتها وطعمها المتميز , وكان ديكور محل حلويات صبري و توفيق مضربا للأمثال لشدة اناقته وروعة هندسته بسبب واجهته الجذابة وديكوره الانيق , وعند دخولك صالة المحل فستفاجئ بعشرات العوائل من اهالي بغداد جالسين ينتظرون طلباتهم على موائد مستديرة حيث كان طبق المشكل عبارة عن اثنان من البقلاوة و اثنان من الزلابية و اثنان من البرمة واثنان من صرة الخاتون واثنان من الداطلي وبسعر ١٠٠ فلسا حيث المكسرات بأنواعها قد دخلت في صناعة هذه الحلويات الفاخرة وبالدهن الحر الخالص , ولعل ابرز العلامات الفارقة لحلويات صبري و توفيق هي رائحتها المنبعثة والمنتشرة بشدة فان السابلة والسائرين على الطرقات يشموا  رائحة حلويات صبري و توفيق المميزة والمسيلة للعاب فاذا كان الجيب عامرا بالنقود فقد وجب عليه دخول المحل لشدة انجذابه وانفتاح قريحته بلا محالة . وفي الجانب الاخر من منطقة الكاظمية العريقة يقع محل حلويات صادق المراياتي الذي لم ولن يتكرر اسمه في التاريخ لفخامة صناعته وامتياز اتقانه . اما في شارع النهر فان اسم كاهي المصبغة له امتداد طويل من حيث النكهة والعراقة فقد كان يصنع بالدهن الحر ومحشى بقيمر العرب وكانت شهرته قد طافت الافاق بسبب قربه من سوق التجار او قريبا من مطعم ابن سمينة حيث يصطف العشرات من اهالي بغداد في انتظار طلباتهم من هذا الكاهي صباح كل يوم علما انك تجد كافة طبقات المجتمع العراقي ومنهم القضاة و مدراء الشرطة والضباط وموظفي الدوائر القريبة . اما حلويات الصباغ الواقعة في الباب الشرقي والتي قفزت بشدة الى مصاف الاسماء اللامعة فقد تميّزت وأنفردت بالاصالة والجودة ولقربها من مقرّات شركات الطيران العالمية المختلفة وشركات العلامات التجارية العملاقة وقربها من الفنادق الراقية مثل فندق بغداد وفندق السندباد وفندق ريجنت بالص وفندق تايكر بالص وغيرها الكثير .علما ان سعر كيلو البقلاوة الفاخرة ايام زمان كانت بدينارين فقط .

    

اما كعك السيد ( ١٩٠٦) لصاحبة عبد الرحمن السيد السامرائي الذي يقع في شارع الرشيد مقابل قهوة حسن عجمي ومجاور ستوديو المصور ( ارمين ) الشهير فلا يمكن ان لا يقدم في المناسبات وقبولات النساء مع الشاي المهيّل بسبب طعمه الراقي ورائحته الزكية والمعمول من الدهن الحر الخالص . واخيرا وبعد البحث في العديد من المصادر الموجودة على شبكة الانترنت عن تاريخ البقلاوة فوجدت انها تعود الى اقدم ذكر موثق لكلمة البقلاوة وتحديدا(كتاب الطبيخ)لمحمد بن حسن البغدادي المتوفي عام ١٢٣٩م وهي اقدم موسوعة عربية عن الطبخ تعود للقرن الثالث عشر الميلادي( الحقبة العباسية ) ويعود اصلها الى وادي الرافدين والنسخة الوحيدة الناجية من الكتاب موجودة في تركيا ويعتبر الكتاب من احد اهم  كتب الطبيخ المفضلة عند الاتراك وتم اعادة نشر هذا الكتاب عام ١٩٦٤ في دمشق لأهميته الفائقة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here