استكمالا لحلقات (الاسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيجوفيتش) نذكر: عيسى والمسيحية *

بقلم د. رضا العطار

لكي نفهم المسيحية، ولكي ندرك تطورها التاريخي لا بد ان نميز بين امرين مختلفين:  حياة عيسى (ع) وتاريخ المسيحية، فمن البداية الاولى كان عيسى في ناحية والمسيحية في ناحية اخرى.  وتحوًل هذا الاختلاف بمرور الوقت الى خلاف بين الالهي والانساني.  هذه الحقيقة يمكن ان تفسر لنا الاعتقاد في المسيح كأبن لله.  ففي هذا الزعم المتعلق (بالانسان الاله) يكمن الاعتراف الصامت بان المسيحية الخالصة غير ممكنة في الحياة الواقعية.  ربما هذا الذي دفع الفيلسوف الالماني (نيتشه) الى القول :
(ان آخر مسيحي مات على الصليب).  ويضيف (نيتشه): ( صدقوني يا اخواني لقد مات – المسيح – مبكرا جدا.  ولو انه قد عاش لتراجع بنفسه عن عقيدته.  لقد كان من النبل بحيث يستطيع ان يتراجع بنفسه).

يعتقد بعض الكتاب ان اخفاق المسيحية كان هو الدافع وراء الاديب الاسباني (سرفانس) لتأليف روايته الشهيرة
(دون كيشوت) (الانجيل الاسود)، وان (دون كيشوت) هو الشخصية الكاريكاتورية التي تمثل عيسى. لقد عاتب عيسى (الدين الخالص) الى ايديولوجية، وكنيسة وتنظيم، انها من اكثر الاحداث درامية في تاريخ العالم.
فبعد ما يقرب من ثلاثة قرون من الاضطهاد التي تمثل اطول صراع بين الدين والوثنية بدأت الامبراطورية الرومانية تتقبًل الواقع الجديد: ففي سنة 311 م اصدر الامبراطور (جاليريوس) مرسوما بالتسامح مع المسيحية، ولم يمض وقت طويل حتى تم اعتراف الامبراطور (قسطنطين) بالدين الجديد.  وقد اتخذ (قسطنطين) خطوة تاريخية خطيرة نحو تشويه المسيحية بتحويل الجماعة الروحية الى منظمة قوية، وبأعطاء الكنيسة سلطة سياسية.  وخلال القرن الرابع اكًد المجمع الكنسي مذهب الكنيسة، واتخذت الطقوس الدينية اسلوبا مبهرجا، واستعارت الوان من الطقوس الوثنية الرومانية. وظهر في ذلك الوقت تقديس الشهداء ومريم العذراء.  وفي بداية القرن الخامس اعلن الامبراطور
(ثيودوسيوس) الثاني المسيحية دينا للدولة. واصبحت السلطة المطلقة في امور الدين، فكان الاساقفة يجتمعون في المجمع الكنسي (على هيئة جماعات برلمانية) ليقرًروا العقائد والتعاليم واشياء كثيرة اخرى متعلقة بالدين والعقيدة، وبهذا تقريبا اكتمل إنشاء الكنيسة.

لقد اجمع كبار المسيحيين المخلصين – بصرف النظر عن العصر الذي عاشوا فيه – على اعتقاد واحد وهو ان تعاليم عيسى لا يمكن ان تتحول الى علم بمعنى الكلمة.  (فالايمان الشخصي ينبع من الوجدان، اما اللاهوت فمن علم الرياضيات) وان الكنيسة قد حوًلت المسيحية الى تعليم نظامي مثل الرياضة وعلم الاحياء.  ويقول الفيلسوف الانكليزي (برتراند رسل) في كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية) ان علم اللاهوت يتخذ من الرياضيات نموذجا له، وكان هذا الوضع سائدا في اليونان القديمة وفي العصور الوسطى في اوربا حتى عصر الفيلسوف (كانت).
ويقول اللاهوتي الكاثوليكي (بارث) في كتابه (دكماتيكا) ( ان اللاهوت علم تفسر به الكنيسة لنفسها محتوى تعاليمها – اعتمادا على مستواها المعرفي – انه علم خطير . . ) كأن فكرة الاخاء والمحبة يمكن ان تخضع للتحليل العلمي ثم تبقى على ما هي عليه ! لقد بدأ التيه والحيرة للروح المسيحية.  هكذا تحولت تعاليم عيسى عليه السلام من الجوهر الاخلاقي الى الجدل الاسكولائي، وعلى اساس اللاهوت قام النظام الكنسي بكل ما فيه من حشو معرفي وبكل ما فيه من ثراء واخطاء مأساوية.

ان الخلاف الذي نحن الان بصدده ليس خلافا بين الفكرة والواقع انما هو خلاف يتصل بالجوهر الاصيل. فأب المسيحية هو عيسى، اما أب الكنيسة فهو (بولص). لقد جاء عيسى بالاخلاق المسيحية اما بولص فقد ادخل الاهوت المسيحي.  فتعاليم عيسى الدينية اقرب الى فلسفة افلاطون، اما اللاهوت المسيحي فهو اقرب الى فلسفة ارسطو.
وكتب (فردريك يودل) في كتابه (تاريخ علم الاخلاق) يقول : فيما يتصل بالحياة العملية نجد ان تعاليم المسيحيين الاوائل كما عبًر عنها الانجيل كانت مختلفة عن تعاليم الكنيسة التي جاءت بعدها، ابتداءا من لاهوت بولص.
ثم يمضي قائلا : (ان المسيحية كدين اخلاقي، موجودة في الانجيل، اما المسيحية كأسرار مقدسة فموجودة في الرسائل الانجيلية . . . ترجع الكنيسة دائما الى بولص، اما الايمان والاخلاق فيرجعان الى عيسى والى الانجيل.  لقد انتهى بظهور بولص تاريخ عيسى البسيط المجيد وبدأ تاريخ الدين المؤسسي.  فعلى خلاف الانجيل، اعترف بولص بالملكية والعمل والاقتصاد والالقاب والرتب والزواج والطاعة والامساواة، بل اعترف بالعبودية. فأصبح عيسى والانجيل في ناحية، والكنيسة واللاهوت في ناحية اخرى. وبذلك تمً الانفصام بين الفكر والواقع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here