حول تقرير مجموعة عمل مستقبل العراق وسياسة امريكا

الدكتور احمد ابريهي علي
نُشر تقرير مجموعة عمل مستقبل العراق في مايو/أيار 2017 ، والمجموعة  من تشكيلات المجلس الاطلنطي  Atlantic Council ، والاخير بيت خبرة امريكي في مجال الشؤون الدولية، ويدير مراكز اقليمية  ومنها مركز رفيق الحريري للشرق الاوسط الذي صدر عنه التقرير موضوع هذا المقال. وتضم مجموعة العمل  عشرين خبيرا، وواحد واربعين  بصفة مستشار اضافة على الرئيس السفير ريان كروكر والمدير التنفيذي د.نسيبة يونس.
وقد اشار التقرير الى اسباب للتفاؤل بمستقبل ” يمكن ان يكون واعدا جدا” للعراق ما يبرر انخراط امريكا “بصبر استراتيجي” في التحديات التي تواجه  هذه الدولة.  ومن اسباب التفاؤل تلك، حسب رأيهم: ما يتمتع به العراق من حرية التعبير التي لا مثيل لها ” تقريبا” في الشرق الاوسط ؛ والمجتمع المدني المزدهر والحيوي؛ والتنوع والطموح بين الشباب؛ ونظام التعليم العالي؛ واحتياطيات البنك المركزي واستقلاله؛ وثروة هائلة من النفط  والغاز؛ وامتلاك القدرة لأن يصبح قوة ايجابية للاستقرار في المنطقة.
ولقد تمثل التقرير صورة للعراق بعد عام 2003 اصبحت نمطية منذ عام 2005 ، ابرز ما فيها  الانقسام الاثني- الديني الذي يكرسه في الدعوة الى ترتيبات جديدة ” لتقاسم السلطة” بعد مفاوضات وتسويات، كما سيتضح، وهذه ايضا لا جديد فيها، فضلا عما تتضمنه من استبعاد او تأجيل انتقال العراق من دولة مكونات، بالامر الواقع، الى امة قوامها المواطن ومبدا المواطنة. وعندما تطرق التقرير الى الانتخابات كان موقفه منها تابعا لما يسمية اصلاح الحكم فاشار الى الوضع القلق للسكان بعد عودتهم الى مناطقهم واهمية الاختيار الحر في التصويت ومتعلقات اخرى تهيئ الاذهان الى امكانية التأجيل دون التصريح بذلك. ولأن الانتخابات النيابية في العراق اساس لا بديل عنه لشرعية الحكم فمن الخطأ الفادح التقليل من اهمية اجرائها في الوقت المعين دستوريا.
وارى ان اداء الدولة لوظائفها في حفظ امن الناس وحقوقهم، وتنظيم مناسب للحياة الاقتصادية من اجل الازدهار والعدالة الاجتماعية، اولى بكثيرمن مشكلة ” تقاسم السلطة”.
وجاء العنوان الثانوي للتقرير ” تحقيق استقرار طويل المدى لضمان هزيمة داعش”، بمعنى ان استعادة الحكومة العراقية للاراضي التي استولى عليها التنظيم لا تضمن خلاصه من العنف والارهاب، بل هناك شروط منها خاصة ” … ضمان مصالح الامن القومي الامريكي في العراق على المدى الطويل”،  ومن المعروف ان هذا التعبير شائع في خطاب استراتيجيات الهيمنة  بمختلف مقارباتها. ولقد جاء التقرير تأطيرا لتدخل امريكي واسع النطاق في العراق وخاصة في بناء القوات المسلحة وقياداتها واجهزة  المخابرات والشرطة وغيرها.
ولأن النفط  غالبا ما يستخدم ذريعة لسياسة الغرب في المنطقة كذلك ربط التقرير بين ضمان تدفق النفط والتوسع في الغاز وتصديره في المستقبل واستقرار العراق بصفته من كبار المنتجين ولديه احتياطيات كبيرة، نفطية وغازية، مكتشفة ومحتملة.
وربط التقرير بين الانسحاب العسكري للولايات المتحدة نهاية عام 2011 ،وتقليص انشطتها ذات المضمون الامني وتواصلها السياسي مع الحكومة، وصعود تنظيم داعش. وقناعتي، الشخصية، ان الولايات المتحدة انتهجت، بعد عام 2011  على نحو خاص،  سياسات في المنطقة وخطاب سياسي  اضعف العراق، الى جانب انشغال تفصيلي وسلبي في النزاعات الفئوية والحزبية، وبالتالي اسهمت، شاءت ام أبت، في التأزم السياسي وتدهور القدرات الامنية  الذي ادى الى نكبة الموصل وما تلاها  بعد تاريخ طويل من سفك الدماء والعذاب قاساه هذا الشعب المظلوم حقا.
وكان الاجدى ان تلتمس الولايات المتحدة وسائل اخرى لأدارة خلافها  مع رئيس الوزراء بشأن العلاقة مع ايران او عدم التوافق مع بقية القوى السياسية المشاركة في الحكم.
وتريد الولايات المتحدة ، حسب التقرير، عراقا مستقلا ومستقرا ومزدهرا الى جانب تعاونه الوثيق مع الولايات المتحدة في الشرق الاوسط. وهنا تكمن المشكلة، فالقوى السياسية ذات النفوذ  في الزمن الحاضر والمحتمل في المستقبل لا تمانع،  بل ترغب، في التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة  لكنها لا تستطيع الاندراج في سياسات التحالف الامريكي، وما تنطوي عليه من التزامات وعداوات ومواجهات، على صعيد المنطقة والعالم.
وقد اهتم التقرير بالفشل الحكومي  ويتسم عرضه بالموضوعية في المسائل التي تناولها والتي تدور حول الفساد الذي اصبح ” نظاميا” ويشتبك في الوسط السياسي ما يضيف صعوبات جمة تعترض اجتثاثه.  وقدم توصيات لمعالجة الفساد والارتقاء بفاعلية الدولة ، وركز خاصة وهو محق في ذلك، على ما اسماه المشتريات الحكومية ويقصد مقاولات المشاريع وعقود التجهيز. وقدم مقترحات لضمان الشفافية وما اليها، مضافا اليها الضغط  لمنع الاحزاب من التدخل المغرض في مجريات التعاقد والتنفيذ، وعدم اجازة التعاقد بالباطن، اي المقاول او المجهز الثانوي. بينما يتطلب الامر اعادة هيكلة التشكيلات المسؤولة عن ادارة المشاريع وعقود التجهيز، واستحداث وحدات رقابة جديدة، وبذل جهود جبارة لتطوير قطاع المقاولات، في سياق بناء القدرة الوطنية للاعمار وتطوير البناء التحتي.
وتناول عجز الموازنة العامة والحاجة الى تنويع ايراداتها، مع اغفاله الحاجة الاهم وهي تنويع موارد العراق من العملة الاجنبية. وجاءت المعالجات التي اقترحتها المجموعة، في هذا النطاق، غائمة ومشكوك في فاعليتها، وتبالغ في دور المؤسسات المالية الدولية والدعم الخارجي، وتعول كثيرا على آليات السوق واستقطاب الاستثمار الاجنبي، وهي وصفة قديمة شبع العراق منها منذ  عام 2003.
وجاءت دعوتهم للانتقال من اتفاقيات الخدمة، في القطاع النفطي، الى المشاركة في الانتاج، مثيرة للاشكال،  ومبرراتها المذكورة ليست صحيحة، حسابيا على الاقل، وهذه مسألة حساسة لبس من العقلانية السياسية التدخل فيها.  وكان بوسع التقرير الاشارة الى تنفيذ مقاولات التطوير النفطي وادارة التشغيل وليس اتفاقيات الخدمة بذاتها.
وثمة خطأ آخر عندما يقول، ما معناه،  مولت الحكومة عجز الموازنة من احتياطيات البنك المركزي، وهذا ليس صحيحا. ولقد اسهم البنك المركزي والمصارف الحكومية، فعلا، بتمويل العجز ولكن ليس عبر اقراض الاحتياطيات الدولية للحكومة، انما هي قروض بالدينار العراقي. طبعا لأحتياطيات البنك المركزي دور آخر في تدعيم الوضع الاقتصادي إذ سهّلت، اي الاحتياطيات، ادامة تمويل استيرادات القطاع الخاص بالعملة الاجنبية. والعلاقة بين عمليات البنك المركزي والموازنة والاقتصاد الوطني يمكن التعرف عليها من تقارير وابحاث متاحة.
وفي المسالة الكردية وعلاقة الاقليم بالمركز اكتفى التقرير بوصف واقع الحال والتخويف من احتمال حرب اهلية موضوعها الاراضي المتنازع عليها، وعوّم الموقف الامريكي من استقلال الاقليم في دولة معترف بها وبقية المسائل.
للعراق خارج كردستان حبذت المجموعة كثيرا درجة اعلى من اللامركزية، رغم ان التقرير  ترك نقل الصلاحيات من الوزارات الى المحافظات لقناعة العراقيين ، ويرى ان الادارة على المستوى المحلي اكفأ في التصرف بالموارد والانجاز، وعندي شك، يستند الى الوقائع، في هذه الاطروحة.
يرى التقرير ان هزيمة العنف تتطلب كسب  ثقة ودعم قطاعات واسعة من الشعب للدولة  بحيث لا يُنظر  الى مؤسسات الدولة بانها “فاسدة وقمعية وغير فعالة  وغير شرعية”. وتلك مقدمة  يتوصل منها الى اهمية بذل ” جهود دولية بقيادة الولايات المتحدة للمساعدة في صياغة اتفاق جديد لتقاسم السلطة والانتقال الى حكومة فاعلة.
ومن الواضح، عندي، ان ضعف الدولة في عدم قدرتها على فرض القانون والنزاهة والفاعلية يؤدي الى العنف في تغذية متبادلة مع  نزاعات، شخصية وحزبية وفئوية، محورها توزيع المواقع العليا في اجهزة الحكم والادارة. والمطلوب التحول نحو تركيز اهتمام الاحزاب والوعي السياسي على اداء الدولة  بذاته ومدى استجابته لأحتياجات الانسان العراقي ومستقبل الاجيال في الامن والرفاه.
والنزاع الذي تفاقم الى عنف شديد وارهاب  كان متوقعا،  ما دامت الدولة ضعيفة والمجتمع منقسم في انتمائه الى هويات لا تُبقي اهمية للمشترك الوطني في العقول والضمائر. ولقد تعاملت دول الاقليم والغرب مع العراق على انه  جغرافية مفتوحة وشجعت، ولازالت،  للعديد من الكيانات والزعامات على موازاة الدولة ومنافستها.  وهذه السياسات الجائرة هي من  اخطر عوامل الازمة العراقية، كما ارى، وقد اهمل التقرير هذه القضية رغم وضوحها الشديد.
ويشدد التقرير على ان العراق سينزلق مجددا الى حرب اهلية وتكون اعنف، او مثل ما يجري في سوريا، عند انسحاب الولايات المتحدة . وهذا يدل على احتمال ان العراق سيتعرض الى ذات السياسات، الدولية والاقليمية، التي كانت من اقوى عوامل  الحرب الاهلية الاخيرة في العراق عندما لا يستجيب لمطالبها.
وفي فقرة عدم الاستقرار الاقليمي ارتباطا بالمسألة العراقية، وفيما عدا الاشارة الى  تضرر اقتصاد الاردن من عدم استقرار العراق، انحصر الاهتمام في الشكوى من ايران، وانها نجحت في تجذير نفوذها في العراق، والقول انها تهدد مصالح الولايات المتحدة في سياستها الشرق اوسطية. لكن الولايات المتحدة، في رايهم، يمكنها تقديم الكثير للعراق الذي لا تسمح امكانات ايران بمثله. ويفهم من هذه اللغة  ترجيح الوسائل  السلمية، تقنية واقتصادية وغيرها، بديلا عن الحرب، لكن من العيب  النظر الى العراق ساحة للنفوذ والمصالح الخارجية.
اخلاقيا، وحسب ميثاق الامم المتحدة الذي تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية رئيسية في حمايته،  العراق دولة مستقلة لشعبها والذي رغم تضحياته الجسيمة، في الحروب والحصار والعنف والارهاب ، سوف يدافع عن حقه في الاستقلال ويصر على مبدا تكافؤ السيادة في علاقاته الدولية. وكيف يرضى اي كيان سياسي لجماعة من البشر ان يخير بين هيمنة واخرى او يقبل الاذعان، والى امد لا تعرف نهايته، لسياسة ترهن امنه واستقراره بتوازن دقيق لمصالح الدول الاجنبية في وطنه.
ويعول التقرير على شركاء امريكا الدوليين خاصة، والشرق اوسطيين بدرجة اقل، لخفض تكاليف الدور الامريكي في العراق، لأن الولايات المتحدة  لا تريد تدخلا شاملا وتفصيليا ومنفردا في كافة المجالات ولا حضورا عسكريا ثقيلا، بل تعمل عبر جهد جماعي، وهو ما اعلنته رسميا  الدوائر الامريكية. والوقائع لا تدعم مثل هذا التصور لأن الشراكة سوف تصطدم  مع استراتيجية الهيمنة  وهي اساس السياسة الدولية للولايات المتحدة.
لقد وصف التقرير جانبا مهما من معاناة العراقيين في المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش بعد استعادتها. وكان موضوعيا في بيان الحاجة الى ضمان الامن والعدالة، والاصغاء بروح العدل والانصاف والتسامح الى الشكاوى والمطالب.  واضافة على مقترحاته للوقاية من الاجراْآت الخاطئة وربما الانتقامية، ومساعدة المجتمعات المحلية على تجاوز مخلفات المرحلة السابقة، من الضروري بالتأكيد العمل بهمة لاصلاح وتحسين او تطوير اجهزة فرض القانون بصفة عامة واساليب عمل الشرطة وجهاز التحقيق القضائي والتقاضي. وايضا، العمل على تهيئة موارد وتخصيصها بعناية لتوفير مستوى معيشة معقول  وخدمات وحوافز الانتعاش الاقتصادي.
لأعادة الاعمارفي المناطق المحررة  بالغ التقرير، ربما على غير قصد، في دور المؤسسات الدولية والدول. وفي الواقع ليس امام العراق، كما دلت التجربة السابقة حسب فهمي لها، الا التوجه بحزم لرفع قدراته الوطنية في اعادة الاعمار وتطوير البناء التحتي جذريا وعلى اسس مختلفة تناولها كاتب هذا المداخلة في دراسات ومقالات وفي مناسبات عدة. د. احمد ابريهي علي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here