إنتصار إبليس!!

لإبن الجوزية كتاب بعنوان ” تلبيس إبليس” , وفيه يتناول موضوعات متنوعة ذات صلة بالدين ويفندها بمنطق سليم , ويَعزوها إلى أنها من نتائج تلبس إبليس بأصحابها , والتلبس بمعنى الإستحواذ وإمتلاك البصيرة ومصادرة العقل وتأجيج العواطف والإنفعالات والإقامة في منحدرات الضلال والبهتان , وفي حقيقة ما يريد قوله أن إبليس قد إنتصر على هؤلاء وغرر بهم وأخذهم إلى مآخذ معادية لأنفسهم ولدينهم.
وخلاصة ما تصدى له إبن الجوزية أن البشر يتخذ من الدين سبيلا أعوجا , ويمضي في دروب الخسران , بإنشاء الفرق والجماعات والفئات والتحزبات والحركات , والإعتقاد العجيب الغريب بأمور ما أنزل الله بها من سلطان , حتى لتجده وكأنه يقول لك , أنظر جنون العقل البشري وسوء نواياه ونتانة محتواه!!
فما يتطرق إليه من توجهات وآليات تفكير تتحكم بالذين إنشقوا عن الدين وتوهموا بأن الحقيقة الكبرى عندهم , وحسبوا مواقفهم وسلوكياتهم ومعاييرهم وترجماتهم وتصوراتهم وما يرونه صحيحا وعين الحق , حتى وكأنهم يترجمون بأصدق ما تكون عليه الترجمة السلوكية  منطق ” دينهم هواهم”.
فإبليس المتلبس بالعقول هو  النفس الأمّارة بالسوء المستفحلة المتسلطة الفاعلة في دنيا البشر , والتي تأخذهم إلى حتوفهم بعد أن تصورها لهم على أنها غير ذلك تماما , اي أنها تخدعهم لتقتلهم وتفنيهم وهم لا يشعرون.
هذه النفس حالما تنتصر فأن ما نسميه إبليس هو المنتصر , وما إبليس إلا هيّ!!
قد يقول قائل أن هذا الطرح غريب , لكن الواقع السلوكي البشري وعبر العصور يؤكد أن ما نكنيه بإبليس هو النفس الأمارة بالسوء , وهي التي تحقق إرادة الأهواء السيئة المتلجلجة في الأعماق البشرية.
وإبن الجوزية في كتابه هذا يشير إليها بصورة غير مباشرة , ويحسبها إبليسا المتلبس بالأفراد والجماعات , وهذا الإبليس موجود في جميع المخلوقات وخصوصا المخلوق البشري.
فالرحلة مع تلابيس الأباليس في عقول ونفوس الخلائق الآدمية , تقدم وصفا رائعا مروعا لما يعتمل في دنيا البشر من نوازع ومطمورات وخفايا ومستورات , تتكيس في أوعية متنوعة لتبدو على غير ما هي عليه , حتى لتنفجر ذات برهة تواتت فيها الظروف , وتجمعت الوسائل الكفيلة بتحريرها من الإنضغاط التكيسي , الذي أهّلها للإنطباخ والتخمر والنضوج والإستعداد لتحقيق أقصى قدرات الإنفجار الدخاني الطباع والمنطلقات , فتحيل ما حولها إلى ظلام دامس , وتجسد مسيرة الإنفلات النوازعي والتطلع التوحشي , الكفيل بإرضاء ما إختبأ فيها من السيئات والآثام والخطايا والموبقات.
ويبدو أن الأعماق البشرية ذات أهلية عالية لإندلاق سوئها ورضوخها لأمارة الأسوء التي فيها , لأنها تمنخها لذة كبيرة , وتمدها بطاقات الشعور بالقدرة على إمتلاك تقرير مصير الموجودات من حولها , وهي تسعى للفتك والتعبير عن غرائز الفناء.
ورحلة إبن الجوزية في تلابيس الأباليس تكشف لنا تنوعها وتماثلها في المبتدءات والخاتمات , وتتشابه منجزاتها وآلاتها , وكأن التتار قد تعلم مما سبقه من السلوكيات , التي تتخذ من الدين وسائل ومرتكزات للقيام بأبشع ما يمكنه أن يتحقق بفعل البشر المخمور بالبهتان.
فهل أبلسَ إبليس أم تلبّس؟!!
وهل أن المُتلبس هو المنتصر؟!!
ويبدو أن إبليس إبن الجوزية قد إنتصر علينا , ولابد لنا من العودة لكتابه لكي ننتصر على أباليس هذا الزمان الذي يقوده ألف إبليس وإبليس مُستعرب ومُستضرب!!
د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here