من اراس الى الاستفتاء ، رحلة شاقة وتضحيات جسام

جواد كاظم ملكشاهي
آراس كما يتلفضها الكورد والاتراك او مايعرف باللغة الارمينية أراكس وبالفارسية ارس والاذرية اراز ، هو ذلك النهر الذي يشق طريقه في كل من تركيا وارمينيا واذربيجان وايران والذي يعد من اكبر انهار منطقة القوقاز الذي يبلغ طوله 666 ميلاً ويعد مصدرا مائيا مهما لملايين البشر الذين يسكنون على ضفافه لاغراض الشرب بعد تصفيته فضلا على استخدامه للري في المزارع الشاسعة  بالاضافة الى مايحتضنه من ثروة سمكية هائلة وحيوانات مائية مختلفة تفيد الحياة البشرية وديمومتها.
لقد اختزل هذا النهر الخالد جزءاً مهما من التاريخ النضالي للشعب الكوردي الذي مر بظروف قاسية وحياة قاهرة بسبب تلاقي مصالح الدول الكبرى انذاك في التخلي عن دعمه واسناده بعد اعلان جمهورية كوردستان في مهاباد في عام 1946 وتركه وحيدا امام الالة الحربية القاتلة للنظم الدكتاتورية للدول التي  تقاسمت ارضه عنوة على وفق اتفاقية سايكس بيكو التآمرية.
لم يترك انهيار جمهورية كوردستان في مهاباد سوى خيارين امام قادة الجمهورية ، اما تسليم انفسهم للقدر المحتوم ومواجهة الموت الاكيد او البحث عن مخرج اخر يضمن لهم بقاؤهم احياء على الاقل لمعاودة الكرة  متى ما تهيأت الظروف لذلك.
البارزاني الخالد الذي ذهب الى مهاباد مع المئات من مقاتليه للدفاع عن جمهورية كوردستان ارضا وشعبا ، لم يتوان عن مقاتلة العدو ولم ينسحب الا بعد سقوط عاصمة الجمهورية بعد معركة غير متكافئة من حيث العدة والعدد ومن حيث الترسانة العسكرية الهائلة التي كان يمتلكها النظام الايراني والاسلحة البدائية التي كانت في يد البيشمركة من دون اي دعم اقليمي ودولي ، لذلك اضطر البارزاني الخالد ومعه حوالي 500 مقاتل ان يتجه نحو اراضي الاتحاد السوفيتي السابق ، بسبب وقوعهم بين كماشات كل من ايران وتركيا والعراق ، وهو ماكان ايضا خياراً صعباً وشاقاً استمرت الرحلة 53 يوما في ظروف قاسية للغاية ، الى ان وصل نهر اراس الذي كان يفصل الاراضي الايرانية عن الاتحاد السوفيتي ، كانت الرحلة من مهاباد الى ضفاف اراس رحلة صعبة بكل ماتعنيه الكلمة  من معنى لافتقادهم لابسط التجهيزات العسكرية و وسائل النقل وبالاخص الطعام الكافي للمقاتلين الذين كانوا في رحلة مع برد قارس كانت درجات الحرارة  تصل احيانا الى 20 درجة تحت الصفر ولم يتلقوا اية مساعدة ، سوى مكوثهم فترة عند افراد عشيرة (شكاك) الكوردية المنتشرة في تلك المنطقة .
لقد كان العبور من اراس اصعب من المسيرة الشاقة ذاتها بسبب ارتفاع منسوب مياه النهر وبرودة الجو وعدم وجود وسيلة تنقلهم للضفة الاخرى من النهر سوى بعض العوامات البدائية المتهرئة التي كان يستخدمها القرويون في المنطقة  في فصل الصيف ، وعبر البارزاني مع المقاتلين الى الضفة الاخرى في 17 و 18 حزيران من عام 1947ليواجهوا مصيرا مجهولا ، لعدم وجود تنسيقاً مسبقاً مع الحكومة السوفيتية التي كانت السبب الاساس  وراء  انهيار جمهورية كوردستان.
بعد دخول القوة الى داخل الاراضي السوفيتية كانوا بانتظار موقف او قرار الحكومة السوفيتية ، وكان من قدم من موسكو التقى البارزاني وأصغى الى مطالبه التي تضمنت منحهم حق اللجوء السياسي والسماح لهم بالتعليم في الجامعات و المعاهد العسكرية.
ثم نقل البارزاني الى مدينة نخجوان عاصمة جمهورية ارمينيا السوفيتية ، اما الاخرون وضعوا في معسكر في العراء تحيط بهم اسلاك شائكة وحراسة مشددة من الجيش الاحمر، وكانوا يعاملون معاملة اسرى الحرب تماما ، وفي الثاني عشر من شهر تموز من عام 1974 زار البارزاني برفقة وفد من الحكومة السوفيتية المعسكر وتمت ازالة الاسلاك الشائكة فورا واصدار تعليمات بتحسين الوجبات الغذائية وتوفير المستلزمات الضرورية لهم.
بعد مكوثهم 40 يوما في المعسكر نقلوا الى جمهورية اذربيجان وتم توزيعهم بين مناطق آغدام ، لاجين ، آيولاغ ، كما نقل البارزاني وعدد من رفاقه المقربين الى العاصمة باكو، وخلال تواجده في العاصمة ، ارسل البارزاني رسائل الى كل من ستالين رئيس الحكومة السوفيتية وباقروف رئيس جمهورية اذربيجان ، اوضح فيها اسباب لجوئه ورفاقه الى الاتحاد السوفيتي ، لقد حاول الجانب السوفيتي استغلال الفرصة والضغط على البارزاني للتعاون مع الحكومة السوفيتية والحزب الشيوعي السوفيتي ، لكنه رفض ذلك بالقول ” ان وجودي في بلدكم مؤقت وسأعود الى بلدي لاكمال مسيرتي النضالية متى ما تهيأت الظروف لذلك” موقف البارزاني هذا اغضب الجانب السوفيتي وتقرر ابعاد اللاجئين عن المناطق القريبة من ايران وفي 9 آب من عام 1948 وبقرار من مجلس الوزراء السوفيتي تم نقلهم الى جمهورية اوزبكستان السوفيتية وتوزيعهم على شكل مجاميع وعدم السماح لهم بالتواصل مع  بعضهم ، اما البارزاني فقد اسكن في العاصمة طاشقند ، وبعد مرور فترة التقى سكرتير الحزب الشيوعي الاوزباكستاني يوسوبوف وطالبه بتنظيم لقاء مع ستالين للبحث في القضية الكوردية وظروف البيشمركة اللاجئين في البلاد كما طالب يوسوبوف ارسال بعض من المقاتلين  للدراسة في طاشقند وتدريب عدد اخر منهم في معسكرات الجيش على قيادة الطائرات والدبابات والعربات واستخدام الاسلحة السوفيتية المختلفة الثقيلة والمتوسطة.
تغيرت حياة البارزاني ورفاقه بعد وفاة ستالين في آيار عام 1953، حيث فتحت أمام البارزاني أبواباً عدة، ولم تمض فترة على التغيير السياسي حتى أعتزم البارزاني بالتوجه الى موسكو، بعد أن خطط لهذه اللقاء بشكل محكم بحيث لم يتم أيقافه إلا عِند بوابة الكرملن، فهرع إليه عنصر الأمن وهو يصرخ “من أنت؟” فأجاب البارزاني “إنا الشعب الكوردي”، ثم توجه الى مكتب الأستعلامات وكشف عن هويته، وجرى تحقيق دقيق مع البارزاني من قبل مسؤولين ذوي اختصاص ونقل الى فندق في موسكو، كما دعي الى عِدة جلسات تحقيق، وبالأخير ادخِل الكرملن لمقابلة قادة الحزب والدولة ومن ثم مع خروشوف (الرئيس السوفيتي بعد ستالين) ذاته.
لقد كانت مطالب البارزاني هي إفساح المجال لأنصاره للتعلم والدخول الى المعاهد والجامعات السوفيتية، فوافقت السلطات على كل مطالب البارزاني.
توطدت علاقة البارزاني بالقيادة السوفيتية، وأوكلت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي السيد فولوشين (من العاملين في مكتب خروشوف ومن اقربائه) مسؤولية الارتباط بالبارزاني.
عاد البارزاني برفقة فولوشين في شهر آذار عام 1954 الى طشقند، وفي المطار استقبل الإثنان استقبالاً رسمياً من قبل زعماء أوزباكستان، وتفقد البارزاني احوال رفاقه ومكث عندهم فترة من الزمن وأبلغهم بنتائج رحلته الى موسكو وقرار القيادة السوفيتية المزيد من الاهتمام بأوضاعهم.
كما أدخل عدد آخر من الشباب في جامعة طشقند وهكذا رفعت كل القيود عن البارزانيين ومنحوا كامل الحرية في التنقل.
أما البارزاني فسكن في موسكو في شارع (توفوملوبودسكايا)، وأنهى الأكاديمية العسكرية هناك  بأسم (فرونزى fronzê) وتخرج برتبة جنرال.
يذكر شاهد عيان كيف كان البارزاني يتحدث مع أطفال الكورد في إحدى القرى الكوردية في أرمينيا حيث قال لهم “يا لها من وجوه جميلة ولكن ليس لهم وطن، وإن الشعب الذي لايملكُ وطناً كالعصافير بدون عش”، كما طالبَ البارزاني السلطات بزيادة بث القسم الكوردي في راديو يريفان الذي كان نصف ساعة، وبالفعل لبوا طلب البارزاني وأصبح البث فيما بعد ساعة ونصف.
زارَ البارزاني مرات عديدة مدينة يريفان وقد زار عام 1958 إذاعة يريفان وذلك للاطلاع عن قرب على ما يحتاجهُ القسم الكوردي في الإذاعة بحسب ما ذكرهُ (كرمى سَياد keremê seyad) عند زيارتهِ كوردستان حيث منحت لهُ جائِزة تقديرية من قبل وزارة الثقافة في حكومة اقليم كوردستان لجهودهِ وعملهِ الطويل في القسم الكوردي في الإذاعة.  كما زارَ البارزاني عدة مرات القرى الكوردية التابعة لجمهورية ارمينيا، حيث كانت الزيارة الأولى بعد مجيء خروشوف إلى رأس السلطة في الاتحاد السوفيتي عام 1956 وكانت زيارتهُ إلى قريتين من قرى الكورد الأيزديين.
وبسبب حب الناس الكبير هناك لشخص البارزاني فإن الكثير من المواليد الجدد آنذاك سميت باسمه، حيث لم تخل قرية من القرى الكوردية في ارمينيا من أكثر من رسم للبارزاني.
مايثير الانتباه ان البارزاني الخالد برغم الظروف القاسية التي مر بها في المهجر كان همه الارتقاء بالجانبين العلمي والمعرفي لرفاقه من البيشمركة وكانت اولى طلباته في كل لقاء من المسؤولين السوفيت هو افساح المجال لرفاقه لدخول الجامعات والمعاهد السوفيتية بغية كسب العلم والمعرفة في المجالين المدني والعسكري لانه كان ينظر الى الافق البعيد وحاجة الشعب الكوردي الى كفاءات مدنية وعسكرية للاستمرار بالثورة حتى تحقيق الهدف الستراتيجي المتمثل بالدولة الكوردية المستقلة والامر الاخر التواصل والاهتمام ببني جلدته في جمهوريات الاتحاد السوفيتي والتواصل معهم وحثهم على الاحتفاظ بلغتهم وتراثهم وهويتهم القومية وكان ذلك جليا في زياراته للعوائل الكوردية ولاذاعة يريفان التي كانت تبث برامجها باللغة الكوردية ، اليوم وقد تحقق ما كان يصبو اليه او يحلم به البارزاني في تاريخه النضالي الشاق قبل سبعة عقود من الزمن وبالاخص في مسيرته التاريخية لعبور اراس ، فلابد للشعب الكوردي ان يستذكر كل عام تلك الرحلة التي مرت من اراس نحو الاستفتاء ومن ثم الدولة الكوردية باذن الله.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here