الفرمان الأسود

رحمن خضير عباس

تحتضن مدينة أكادير المغربية الفلم الوثائقي ( الفرمان الأسود ) للمخرج المبدع نورزاد شيخاني. وهو فنان من أصل عراقي يعيش في ألمانيا منذ فترة طويلة وقد إكتسب الجنسية الألمانية. ونورزاد فنان استطاع ان يدافع عن القضية الايزيدية بأدواته الفنية التي لا يمتلك غيرها.

كاميرا ورصد للحدث وتحليل له من أجل إشاعته بين الناس. وبذلك فقد استطاع من خلال فيلمه هذا أن يوصل الأصوات المكبوتة والمسموعة ظلما الى العالم. تشعر بان الفلم قد بحث بين ركام المجازر عن الدفق الإنساني لبشر أزهقت رواحهم وسُلبت ممتلكاتهم وسبيت نساؤهم لاسباب واهية ومدانة وهي نشر عقيدة تؤمن بها مجموعات منفلتة تدّعي انها تنتمي الى عصر النبوة والراشدين.

لقد استضافه صالون سانت كروز، ذلك الصالون الذي انتهج طريق الالتزام بالقيم السامية والقضايا الإنسانية الشائكة ، لاسيما وان الفنان نورزاد قد حاول ان يوطد علاقة المغرب بإقليم كردستان العراق .وقد استطاع هذا الشاب ان يعرض من خلال هذا الفلم قضية الاضطهاد والظلم الذي تعرض له الايزيديون من قبل داعش بحيث ان مقاطع الفيلم أصبحت وثيقة رسمية للإبادة الجماعية والتي اعتمدتها محكمة العدل الدولية في لاهاي. وهذا يُعَد بحد ذاته إنجازا كبيرا لنهج السينما الوثائقية الملتزمة التي تعتمد على الشريط المصور للدفاع عن الانسان.

ولاشك ان المخرج نوزراد شيخاني قد اختار العنوان بعناية من خلال إختيار الفرمان. والذي يعني الأوامر والقوانين العثمانية التي اضطهدت الايزيديين عبر التآريخ. ففي سيطرةهذه الإمبراطورية أصدرت عدة فرمانات تستهدف الايزيديين وديانتهم وماتخللها من تعسف وظلم لهذه الشريحة الاجتماعية المسالمة. ولعل هذا الفرمان الأسود نسبة الى راية داعش السوداء ووحشيتهم الأكثر سوادا. أي ان الفنان استطاع من خلال العنوان ان يدين ما تعرض له الايزيديون عبر التأريخ وان مجزرة داعش لم تكن الأولى وربما لن تكون الأخيرة ، اذا لم يبادر المجتمع الدولي لحمايتهم .

لقد كان الفلم قصيرا في دقائقه الثمانية عشر ، ولكنه كبير في حمولته ومضامينه وعطائه فكل ثانية منه تتقافز الدموع ويُسفك الدم وتحرق البيوت ويصرخ الناس مشاهد حقيقية من بؤرة الحدث. الفلم كبير بحجم القضية التي أراد أن يريها الى كل العالم ، وهي ان شعبا مسالما قليل العدد والعُدَّة ، يعيش في ارضه التي نشأ عليها قبل تكوين التأريخ ،هذا الشعب يُضطهد ويُباد على مرأى ومسمع كل العالم المتحضر. وتقوم قطعان داعش المنفلتة عن القيم الإنسانية النبيلة بقتل أبنائه وترويع إطفاله وسبي نساءه. باساليب بربرية لم يعرف لها التأريخ الحديث مثيلا.

ورغم ان الفيلم إعتمد على تجميع الكثير من الوثائق والصور والفيديوات من مختلف المصادر حتى من نفس مكان الحدث او من وثائق داعش ذاتها ومن القنوات الفضائية والمراسلين العالميين والمحليين والقنوات الأجنبية والعربية والكردية ثم قام بتركيبها بطريقة جعلت الفلم يعكس حجم الفجيعة التي تعرض لها الايزيديون. والتي دفعوا من خلالها فاتورة باهظة من الدم والعذاب والذل. ولعل منظر الطفلة الصغيرة التي كانت تحتضن دميتها وتحاول ان تغمض عيون الدمية كي لا ترى مشاهد الرعب والقتل والقصف تعتبر صفعة للحس الإنساني الذي توقف عن النبض.

انها لقطة عنيفة في مغزاها استطاعت ان تفجر مشاعر الاسى عند المشاهدين. الذين كانوا يستمعون الى إسلاميي داعش الذين يتوعدون الناس بالشريعة ويؤكدون أنهم يطبقون حدود الله واوامره وان شرع الله لايقام الا بقوة السلاح. وفي الجانب الاخر تسمع صوت احد الايزيديين وهو يجهش بالبكاء ويشكو أمره الى الله بقوله:

” ماذا فعلنا يا ربي ”

لقد كانت اللقطات تنهمر بقوة. القتل والحرق والإعدامات والهروب الى الجبل. تصرخ طفلة صغيرة وهي تبكي في لوعة وتتحدث عن موت اَهلها عطشا وموتا. رجل طاعن في السن يبدو في حالة من الدهشة. ترتسم بين غضون جبهته كل خيبات التأريخ البشري الموغل في الكراهية والهمجية.

طفل صغير كأنه الملاك ، يضحك ببراءة ، وفجأة تتحول قسماته الى موجة من العويل المدمر والموجع بينما تحيط به مجموعة من الرجال المدججين بالسلاح.

الهروب الجماعي من سنجار. قوافل من الناس الذين يهيمون تحت الشموس المحرقة ، يلتحفون بخوفهم ولوعتهم. . صور للبرلمان العراقي وهو عاجز عن الفعل بينما عضو البرلمان الايزيدية تبكي وتصرخ قائلة :

” ان شعبنا الايزيدي يُذبح تحت راية لا اله الا الله ”

لقد نجح الفنان نورزاد شيخاني في رسم لوحة سينمائية مؤلمة عن واقع المذبحة والتخريب والقتل الذي طال المكون الايزيدي. ولكنه وقع في خطأ تمجيد السلاح الجو الأمريكي وهو يفتك بداعش ويقصف أفرادها بأجهزة الرؤية الليلية . وكأن الجيش الأمريكي قد أصبح – المُخَلّص- للايزيديين . متناسيا واعني المخرج بان أمريكا حينما غزت العراق جعلته عاريا ومنتهكا حينما قامت بإلغاء الجيش والشرطة على أثر غزو العراق. ثم بعد ذلك جعلته لقمة سائغة للعصابات المنفلتة ودوّل الجوار الطامعة والمنتقمة ولعل اكثر الفئات المتضررة هم المسيحيون والايزيديون الذين وجدوا انفسهم بين كماشة الإرهاب وبين نهج سياسي مضبب الرؤية ومشتت الولاءات. كما ان إدارة أوباما التي اخرجها الفلم وكأنها منفعلة ومتأثرة على الايزيديين. هذه الإدارة هي التي قررت سحب جيوشها من العراق فبقي الايزيديون وغيرهم تحت رحمة دولة ضعيفة مفككة تسودها الميليشيات.

ويفترض من هذا الفيلم ان لا يسعى الى التوثيق فقط وانما توجيه أصابع الإدانة الى كل المتسببين بهذا الدمار . ومنهم الحكومة العراقية التي كان يقودها المالكي والتي هربت من المعركة. لتترك الايزيديين وغيرهم تحت رحمة عصابات داعش كما ينبغي ان يوجه أصابع الاتهام الى قوات الاحتلال الأمريكي ، والتي ساهمت في خلق داعش ثم التظاهر بمحاربتها.

ومع ذلك فهذا لايقلل من الإنجازات التي حققها فيلم الفرمان الأسود الذي شكّلَ بحد ذاته صرخة مدوية لإدانة الإرهاب. وإدانة العجز وصفعة للضمير الإنساني الذي كان دوره محدودا في درء الظلم والتعسف

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here