الجمع الممكن بين [ التوحيد والسياسة ] …

آية الله الشيخ إياد الركابي

عرفت اللغة العربية التَّوحِيد : بأنه جعلُ الشيءِ واحدًا وغيرَ متعدد ، والأصل في مصدره الثلاثي من – وحد – يوحد توحيداً أي جعله واحداً ، وقد شاعت كلمة التوحيد لدى المتكلمين في وصف الإيمان بوحدانية المعبود ، والتي تتأسس بالفعل على ملازمة – النفي والإثبات – المتمثلة بتلك الثنائية في معنى قولنا [ لا إله إلاَّ الله ] ، هذه الثنائية تختزل معنى نفي الشريك وتنزه المعبود عن المثيل أو الشبيه ، والكلام هنا في معنى الذات حصراً التي جاء في وصفها قوله : – ( ليس كمثله شيء ) ، فلا يوصف الله الواحد بأنه جوهر ولا بأنه جسم ولا بصورة ولا بعرض ولا بخط ولا بسطح ولا بثقل ولا بخفة ولا بسكون ولا بحركة ولا بمكان ولا بزمان ، و قال الشيخ الصدوق في وصف صفاته : [ إنه متعال عن جميع صفات خلقه خارج عن الحدين حد الإبكال وحد التشبيه ] ، وهذا يعني نفي مقولة البعض [ في أن صفاته عين ذاته ] ، إنما الصحيح القول : إن صفاته مترشحة من ذاته أو إنها تعبر عن مظهر تجلياته في الوجود ، طالما إن ذاته ممتنعة عن ذلك ، وأما ما ورد في الكتاب المجيد عن صفات التجسيم والتشبيه فهي مأولة إلى معنى مناسب ، كما يظهر ذلك في قوله : [ كل شيء هالك إلاّ وجهه ] ، فالوجه هو كناية عما يتوجه به المرء إلى الله ، وقل هو الطريق الذي يجب ان يتبع ، وطريق الله غير قابل للهلاك والفناء ، وكذلك الحال في قوله : [ يوم يكشف عن ساق ويدعون للسجود ] ، قال الصدوق : والساق هنا وجه الأمر وشدته ، إلى أخر ما هنالك من الأوصاف التي وردت في الكتاب المجيد ، قال الشيخ المفيد وعلى هذا قال أهل التوحيد : – [ أي في تأويل الأوصاف على نحو يخرجها من ظاهرها ] وقد شذ عن ذلك نفر من أهل التشبيه – فإنهم أطلقوا الألفاظ وخالفوا في المعنى – ، وفي هذا أخطأ الأشعري حين زعم أن لله عز وجل صفات قديمه [ بها يوصف ] .
.
أقول : وهذا الكلام كله قد جرى بحثه وتقريره عن وفي التوحيد منذ قديم الأيام ، واليوم ونحن نبحث في موضوعة – التوحيد والسياسة – أي فيما بينهما من التفاوت والإشتراك ، أين وكيف يكون ذلك ؟ ؟ ، سنبحث الأمر من الجهة التي ينظر فيها إلى التوحيد كشأنية شديدة الخصوصية ، ولكنها ليست في ضد مع السياسة شرط أن تكون السياسة من أجل البناء والإعمار وخدمة المجتمع والحياة ، فالسياسة التي نقصدها ليست فن الممكن وحسب ، إنما هي في الخدمة التي يقوم بها الإنسان في الحياة ، وفق قيم الحياة من الحرية والعدالة والسلام ، وفي حال يكون العمل واقعاً وليس شعاراً وكلاماً في المطلق وفي النظري ، ولهذا أميل أنا لتعميم الطريقة العملية الموضوعية في مسائل الحكم وتغليب المصلحة االشعبية ، وهناك نجد روح التوحيد حاضرة في مقولات نسمعها ونرددها عن ظهر غيب منها ذلك القول النبوي الشهير : – [ خير الناس من نفع الناس ] ، والكلام في معنى الخيرية يتناول البنية الإجتماعية والتكافل والبنية الإقتصادية وتوزيع الثروة ، وكبح جماح الإسغلال والرأسمالية وفتح مجال المشاركة ، من خلال كون الناس شركاء في الماء والهواء والخبز والعمل ، والتوحيد ليس صيغة معجمية أو هي مجموعة تندرات يتباهى بها أصحاب الكلام وبعض المناطقة وأهل الفلسفة ، لا هي تحرير للعلاقة مع الله لتكون مع الناس بكل تلك الدوافع الخيرة ، اي إننا في السياسة نرى رسالة التوحيد ، لأنه لا شأنية ولا موضوع للتوحيد من غير هذه العلاقة بالحياة ، ولأننا لا نرتبط بوصف العلاقة بين العباد والمعبود من غير تحرير لكل صفة وأسم من أسماء وصفات ذلك المعبود ، وجعل كل واحدة منها في المحل الذي يجب أن نتفاعل معه ونتعاطى .
*
في مجال العلاقة بين – التوحيد والسياسة – سننطلق من مقولة للإمام علي يقول فيها : – [ واحد لا بعدد ] ، أي إننا سننطلق في تعريف الله الواحد ولكن ليس من فئة الأعداد المحسوبة ، لأن مفهوم الحساب يلزمه الجمع والطرح والقسمة والضرب وهذه ليست من لوازم التوحيد ، بمعنى إن الوحدانية هنا هي إيمان مع شعور وأحساس ، يرتبط بالمجرد الذهني والعقلي ، وليس بما هو حسي وتجريبي نظير قوله ( قل هو الله أحد ) فضمير – هو – يدل على إنه لا أسم له ولا عدد ، بدليل إن لفظ – الله – فيها هو ليس أسم للذات بحسب مفهوم الذات ، ولفظ – أحد – قرينة دالة على إن أسم الله هناك صفة للمعبود أو الذي به يعبد وليس وصفاً للذات ، ذلك لأن الذات لا نعت له ولا صفة بل الصفات منفية عنه إذ إن : – [ كمال التوحيد هو في نفي الصفات عن الذات ] أي إن الغيب المجهول هو الذات ، بمعنى أدق لا نحكم على الذات المقدسة من خلال الصفات الظاهرة أو الأسماء التي يمكننا الوصف فيها والتسمية في الواقع المادي والموضوعي ، ولو تأملنا التفسير اللغوي للمفردة فإننا رأيناه قد عرفها – بالواحدية – ، وهو تعريف ليس مفصولاً عن الذي قالته سورة الإخلاص بشكل واضح ، ولكن التأكيد منا بأن الواحد ليس بالعدد المحسوب [ يعني الواحد من غير عدد ] ، أي الواحد المجرد من العدد ، أما كيف يكون ذلك ؟ فالأمر مرتبط بالبحث العقلي العلمي المجرد ولا ينفع في هذا المجال التقليد أو الإعتقاد بإيمان من سبق ، فالحجة في هذه لا تتم إلاَّ حين يصل المرء إلى ذلك ، عبر وسائله هو وتصديقه هو وإيمانه هو ، وحين يتم ذلك لا بد أن يتم عن يقين مطلق ، وبما إننا أخترنا أن تكون ملازمة الجمع بين – التوحيد والسياسة – فذلك لأننا نقصد أن تكون السياسة كما التوحيد خالصة من الشوائب وبعيدة عن كل الملوثات حتى تكون قادرة على تلبية حاجات الناس ، وهذا الأمر لايجب أن ينخرط فقط في فئة البحث العملي المغلق ، بل يجب أن يدخل ساحة الناس جميعاً ، لذلك كان التبسيط منذ البداية بقول النبي – قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا – ، وجعلها كلمة تداولية وليست بحثية صرفة ، ومنها أنطلق ليعمم مقولاته عن الخير العام وعن السعادة وعن الحياة الفاضلة ، سواء في الدنيا كما أراد لها أفلاطون أو هناك في الأخرة كما هي جنة النعيم ، وفي نظري المتواضع لا تبدو القضية إشكالية ، إنما هي في كيفية الجمع بين مفهوم القيم المقدسة وبين السياسة كما يفهمها الناس أو كما هو شائع عنها ؟ ، هذا الجمع ليس قدرياً إنما هو عملي مُتاح حين تتوفر المستلزمات ، ومن بينها مفهوم – الرشد – وصيغة الرشد صيغة إشتقاقية تعني بلوغ الكمال أو التكامل في أحكام العقل ، وحين يتوفر ذلك يكون عمل المرء ناجحاً بنسبة كبيرة ، طبعاً حين نتكلم عن مفردة العدالة في الحياة يكون الرشد دليلاً دال عليها ، ويكون القول الدارج عن السياسة بأنها فن الممكن ، يوازي القول إنما هي البحث أو العمل من أجل تحقيق المصالح وتوخي الحذر من الوقوع في الخطر !! ، وهذه النسبة المنطقية التي يمكن الحصول عليها تجعل من السياسة ليست شراً أو نفوراً أو نفاقاً أو كذباً أو تحايلاً ، كما يختار لها من يخلطون بين معناها وبين فعل الساسة والمشتغلين بها ، وهؤلاء صنفهم أوغسطين : – بالمتطفلين الذين يحكمون بحسب فعل أهل المصالح والغدر – ، وليس بحسب مادتها والمُراد منها بحسب تعبير الفارابي : – ( هي عمل يتعلق بما يحقق للإنسان سعادته في الحياة ) ، وتحقيق السعادة لا يعني الحال الإفتراضي بل ماهو واقعي بالفعل ، وهذا يتمدد في حركته ضمن مجال التربية والتعليم والرعاية والحاكمية والقضاء والدفاع والأمن والسلام وطريقة إختيار الحاكم ، أي فيما يؤوسس للقانون والنظام والعدل ، وليس العكس الذي يعمله الطغات من الظلم والتعدي وخنق الحريات ومصادرة الحقوق والقمع والإكراه والإرهاب ، وفي ذلك يمكننا ضبط السياسة وممكناتها مع آلية عمل نظرية العدل والحرية والسلام ، أي ضبطها في مجال عمل الإنسان – في المعروف والنهي عن المنكر – ، وهنا تظهر جدلية التوحيد الذي ما أنفك يحفز على تحقيق هذه الأشياء ، إذن فالجمع بين – التوحيد والسياسة – جمع ممكن في حدود علاقة المعنى بالإنسان والحياة ، وفي هذا نشأ مبدأ العدالة والخير العام والسعادة والحرية والسيادة والجمهورية ، ونشأ مفهوم فصل السلطات وتحرير المرأة وتحرير الإقتصاد من هيمنة الرأسمالية ، والتأكيد على المبادئ الرئيسية حول حقوق الإنسان ، ولا أظن إن نظرية المعرفة ومبادئ العقل الطبيعي والقانوني ومفهوم الإيمان والأخلاق ، وفلسفة النبوة وفلسفة الوحي إلاَّ دليلاً على أن الجمع ووحدة الخطاب ممكنة في رسالة التوحيد والسياسة ، وهذا ما عمدنا إليه في كتابنا الموسوم بنفس الأسم ، لأن الغاية من الرسالة هو في جعل العقل يقبل فكرة الجمع حين تتحرر الإرادة الخيرة ، والكلام ليس في المتخيل بل في الممكن الواقعي ، ولهذا جاء قوله – هو الذي أنشأكم في الأرض وأستعمركم فيها – وبين هذه وتلك كان فعل الأمر حاضراً في قوله – قل – وقد تكرر ذلك بتكرر المُراد .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here