قراءة في كتاب أحمد حسن البكر.. السيرة السياسية ودوره في تاريخ العراق الحديث

1/2
سعد محمود شبيب
هل كانَ أحمد حسن البكر وصدام حسين وجهين لعملة واحدة؟ سؤال يحق للجميع طرحه ولا يحق لأي كان الإجابة عليه إلا من بذل جهدا مهولا وقطع خطى حثيثة، واستخرج أسرارا من صدور ختمت على أقفالها، واستقصى مضحيا بساعات راحته كي يحدّث الأحياء بلسانه، ويحدّثه الأموات بمذكراتهم، ويهبه التاريخ وثائق يصعب الاستدلال على مفاتيح صناديقها، كل ذلك ليكون الجواب حاضرا ومعه ألف جواب لألف تساؤل، بقيت تدور في حلقة مفرغة منذ نصف قرن من الزمان بدون طائل.. حتى طوتها دفتا الكتاب الأنيق (البكر.. السيرة السياسية) لمؤلفه المؤرخ شامل عبد القادر. وقبل الشروع بمطالعة فصوله والتعقيب عليها، لا بد من الإشارة الى غرابة موقف المعترضين على تأليف كتاب يتناول سيرة الرئيس البكر لأنه – وفق وجهة نظرهم – لم يك بأكثر من واجهة للرئيس الحقيقي (نائبه صدام) ولا يوجد له أدنى دور في الأحداث التي ألمت بتاريخ العراق! يبدو لنا أن من ألغوا دور البكر في رسم مصير عراقنا قد تناسوا أن هذا الرجل كان القائد الفعلي لأخطر انعطافتين في تاريخ البلد وهما: انقلاب شباط عام 1963 والسابع عشر من تموز عام 1968، وهو أمر لا يختلف عليه اثنان مهما بذلت المحاولات لتزييف الحقيقة، اذ لم يكن للرئيس عبد السلام عارف من دور يذكر في انقلاب شباط عام 1963، كما وان ادعاءات صدام بكونه قائد (ثورة تموز) هو أمر يثير السخرية والاستهجان من لدن الجميع وفي مقدمتهم رفاقه في الحزب، فضلا عن كون البكر ضابطا حقيقيا عريقا محنكا، قوي الشخصية، وصاحب خبرة عسكرية، عاصر جميع حكومات العهد الملكي وكبار ضباط الجيش العراقي أمثال جعفر العسكري وبكر صدقي والعقداء الأربعة، وربطته علاقات وثيقة بعبد الكريم قاسم والأخوين عارف ورفعت الحاج سري والطبقجلي وعماش والنايف والداود وجميع أعضاء حركة الضباط الأحرار، وتخرج على يديه مئات الضباط حين كان معلما في الكلية العسكرية، وقد أهلته هذه العلاقات والإمكانات للقيام بدوره وقيادة الانقلابات العسكرية الواحد تلو الآخر حتى ثنيت له الوسادة وأصبح رابع رئيس لجمهورية العراق عام 1968 وأقوى رئيس عربي لغاية هيمنة صدام الفعلية – لا الرسمية- على السلطة عام 1975.

فصول الكتاب
يقع هذا الكتاب في سبعة فصول مع المقدمة والخاتمة التي أوجزت محتوى الكتاب وخلاصة التقييم للرئيس الأسبق، تناولت الفصول: سيرة الرئيس ونسبه وعلامات بارزة في حياته الممتدة منذ عام 1914 حتى وفاته عام 1982، وتعرضه للسجن في عهد الزعيم وجذور تعارفه بصدام حسين وانتمائه للحزب، وفصلا عن دوره القيادي في انقلابي 1963 و1968، وشهادات معاصريه ووجهات نظرهم حول شخصيته وتوجهاته وطبيعة حكمه، وقد تناول الفصل الخامس أبرز الأحداث التي جرت في عصره، في حين تم تخصيص الفصل السادس لتنحيته وما رافقها من أحداث دمويه جسدتها مسرحية قاعة الخلد البشعة، كما وتناول الفصل السابع حكايات عن البكر وضحايا عصر البعث.

أسلوب الكتاب ووجهة نظر المؤلف
لقد اعتمد الأستاذ شامل المنهج الاستقرائي في تحليل شخصية البكر بأسلوب سهل ممتنع، وهو منهج أقرب إلى الحقيقة يقوم على دراسة المناقب والمثالب في شخصية الإنسان، فلا يرتقي به إلى مصاف الرسل والأنبياء ولا يهبط به إلى منازل الأبالسة والشياطين، فقام المؤلف بدراسة شخصية الرئيس الأسبق كانسان له نوازعه وخطاياه وخٌطاه الدموية واتصافه بالمقدرة على حياكة المؤامرات والغدر لتحقيق أهدافه، كما وسلط الضوء على مناقبه الأخر من زهد وبساطة وعفة يد وحرص على المال العام وميل الى الرحمة والتسامح لا سيما في أواخر سنوات حكمه. ومنذ السطور الأولى للكتاب يؤكد المؤلف وبكل وضوح أن البكر كان شريكا لصدام في جرائمه وأفعاله الدموية بالتغاضي تارة والتراضي تارة أخرى، ولولا البكر لما كان لصدام وهيمنة العشيرة وحكومة القرية وقصر النهاية من وجود، وبذا يصبح الرجلان وجهين لعملة واحدة، غير أن جوانب ومواقف أخر من لدن البكر تكاد تذهب بنا إلى الظن بأن الرجلين من معدنين متباينين تماما وليسا وجهين لعملة واحدة مطلقا، وهذا التناقض الحاد المتنافر لن تجد له إجابة وافية إلا بين طيات سطور هذا الكتاب.. التي سنبحر بها لنعقب على بعض ما ورد فيها.

هِنات هنا وهناك!
كأي منجز كبير تتجاوز عدد صفحاته السبعمائة، لا بد أن تولد بعض الهنات اليسيرة تطويها الصفحات، فقد ورد أن الدكتور عزة مصطفى قد قتل بعد أحداث خان النص، والواقع أنه ظل حيا (بمعجزة إلهية) حتى توفاه الله تعالى بدار ابنته في ماليزيا عام 2014، كما وان البكر قد ألقى خطابه الذي عجّل لصدام إنهاء حياته السياسية في حزيران عام 1979 وليس عام 1978 مثلما ورد في فصل تنحية البكر، وأن عقيلة البكر قد سبقت ولده محمدا رحيلا، كما ونستبعد بشكل قاطع ما جاء في الكتب من رواية عن قيام المرحوم طارق حمد العبد الله بقيادة قوة مسلحة لتطويق دار البكر يوم تنحيته لمتانة العلاقة بين الرجلين من جهة وعدم حاجة صدام لهذا الأمر من جهة أخرى.

شهادة عبد السلام أحمد حسن البكر
انتظرها الكثيرون منذ سنين، إذ أنها كانت ستضع الحد الفاصل بين التكهن والواقع، وحقيقة تنحي الرئيس البكر، غير أنها وان جاءت سردية جميلة ومتسلسلة محملة بوفاء ابن بار بأبيه، إلا أن نفي السيد عبد السلام لإقالة أبيه بالقوة ومحاولته إخفاء ما حدث عقب السادس عشر من تموز عام 1979 يعد أمرا غير مقنع بالمرة، فليس من المعقول أن الرئيس البكر عزم على تقديم استقالته حال نجاح انقلاب السابع عشر من تموز وهو الذي ظل يتطلع لكرسي الرئاسة مذ كان عضوا في الضباط الأحرار كون ذلك يخالف الطبيعة البشرية المتطلعة للسيادة والتسلط، وليس من المعقول كذلك أن يفرط بحكم عاد إليه بمعجزة بعدما فقده بفضل جحود عبد السلام عارف عام 1963، وبقي يبذل من الجهود الأسطورية والاتفاقات السرية مع هذه الجهة وتلك حتى تمكن من تحقيق غرضه، ثم أن جميع ما جرى من أحداث عقب (استقالة) البكر وتوقيتها غير المناسب وإعدام أقرب رفاقه والإقامة الجبرية على شخصه وطريقة وفاته المريبة، تؤكد بشكل قاطع حدوث انقلاب صدّامي داخلي، علما أن تاريخ البكر السياسي هو ملك للشعب بأسره، خلاف تاريخه الشخصي الذي تعتز به عائلته الكريمة ويخصها لوحدها.

مدونة قيس عبد الرحمن عارف
شهادة رائعة، صادقة باهرة أوردت الكثير من الحقائق التي لم يعرفها أحد من قبل، ودقائق الأحداث ليلة الانقلاب، وما قاله الرئيس عبر الرحمن عارف لنجله والطائرة تقله إلى منفاه في لندن، وكذلك التسليط الذكي على المصائر المأساوية للضباط الذين أحسن إليهم والده الفريق عبد الرحمن عارف فقابلوا الإحسان بأبشع أنواع الإساءة، بدءا بالبكر وحماد شهاب ونهاية بصلاح القاضي والنايف، وتركيزه على المصير الموجع لسعدون غيدان الذي خان عبد الرحمن عارف وكانت أمنيته الوحيدة قبل وفاته هي التعبير عن ندمه وأسفه الذي لا تقوى على وصفه السطور.

شهادة الوزير (س)
كان هذا الرجل وزيرا للصناعة، ومستشارا في ديوان الرئاسة ورئيسا لاتحاد الصناعات وهو بعثي قديم ولربما انتمى إلى الحزب قبل البكر نفسه، كما وانه ابن قرية العوجة ويبدو انه من أولاد عمومة البكر وصدام، وبذا جاءت شهادته العيانية تنبض بحقائق غير مسبوقة تجلت أهميتها في تأكيد إقالة البكر ومعاناته من عدم الوفاء والجحود حد مقاطعة رفاقه له والتضييق عليه الى درجة منعه من مغادرة بغداد وحرمانه من تلقي العلاج خارج العراق. ولنا أن نقف عند ما تفرد به السيد (س) وذكره في الصفحة 169 حول قيام (الملازم) ماهر عبد الرشيد بـإركاب الزعيم قاسم وجماعته في الدبابة بعد أسرهم إبان انقلاب الثامن من شباط، والواقع ان من قام بهذه المهمة هو الملازم نعمه فارس المحياوي ولم يذكر أي مصدر شيئا عن مشاركة الفريق ماهر بالانقلاب، كما وأن البكر كان الأشد حماسة لإعدام قاسم وجماعته ظهيرة التاسع من شباط بشهادة جميع قادة الانقلاب، فكيف لا يوجد اسمه في محضر الإعدام، أضف الى ذلك أن (إجبار) البكر على تزويج ابنته لعدنان خير الله – كما ذكر السيد (س) – بدا غير مقنع بتاتا لا سيما وأنه كان قادرا في تلك الإيام على اعتقال صدام وخاله وعدنان وإعدامهم جميعا بطرفة عين, وان ما ورد في الصفحة 173 من شهادة الوزير حول تدبير صدام لانقلاب كزار هو أمر مرفوض تماما إذ كان هدف كزار هو التخلص من نفوذ رجالات القرية وتركيزه على قتل صدام قبل البكر، وقد دحضنا هذا الرأي بالبراهين في مقالات سابقة، مثلما نسف الأستاذ شامل بنيانه من القواعد في كتابه عن ناظم كزار وانقلابه الدامي.
البقية غداً

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here