عناقيد النار . . جدلية التأويل في السياسة العراقية عبد الكريم قاسم وحكاية الكويت 3

د. حميد حمد السعدون

الجانبُ الآخر، وهو المتعلق بدور العميد – حميد الحصونة – قائد الفرقة الأولى. فقد اتضح لدينا، أن المراجع العسكرية العليا، لم تصدر أمراً عسكرياً له، ولغيره بالتنفيذ، لكن الرجل أدعى أنه امتنع عن تنفيذ الأمر الصادر إليه باحتلال الكويت، بعد أن استشار المرجع الديني في حينه السيد “محسن الحكيم” الذي أشار عليه بذلك. وتعليقنا على ذلك، أن مثل هذا الأمر صعب حدوثه، لابتعاد السيد – الحكيم – من التدخل المباشر في مثل هذه الأمور السياسية الحساسة، لا سيما بعد فتواه الشهيرة بتحريم الشيوعية واعتبارها كفرا وإلحادا، بل وامتناعه، عن اللقاءات الشخصية مع ممثلي الدولة. فكيف حدث لقاؤه مع قائد فرقة عسكرية، تنتظر عودة قائدها، لتنفيذ واجب عسكري مهم، خاصة أن الوقت في مثل هذه الأمور، يحسب بالدقائق، فما ظنك بالساعات التي غابها القائد المعني عن ساحة عمله الرئيسية. يضاف إلى ذلك، أن انضباطية الجيش العراقي، خصوصاً عند مستوى القيادات، عالية جداً، فكيف يجوز لقائد فرقة عسكرية، الامتناع عن تنفيذ أمر عسكري صادر عن مراجعه العليا، وهو يعرف عقوبات الامتناع عن التنفيذ. أو كما يقول العقيد – محسن الرفيعي – “إن العميد الحصونة ما كان يجرؤ على مخالفة أمر الزعيم عبد الكريم قاسم، لو كان الأخير قد أصدر أمراً بالتنفيذ”. ويؤكد ذلك أحد السياسيين المؤثرين في حكومة الزعيم – قاسم – حين يصف ما ادعاه – الحصونة -، بأنه ادعاء غير صادق. أما ادعاء العميد – الحصونة – بالامتناع عن تنفيذ الأمر العسكري، فان ذلك القول، جاء بعد 8 شباط/ فبراير 1963، ليتعكز عليه في ابتزاز الكويتيين والحصول على مساعداتهم. وهذا ما حصل، فهو منذ خروجه من العراق عام 1969 واستقراره في القاهرة، والحكومة الكويتية ومسؤولوها يغدقون عليه بـإفراط، بحيث جعلوه بعيداً عن الحاجة حتى إلى راتبه التقاعدي من الحكومة العراقية، هذا جانب، ومن جانب آخر، فأن الشهادات اللاحقة التي أدلى بها العميد – الحصونة – والخاصة بهذا الموضوع، تناقض ادعاءه الأولي الخاص بالامتناع عن التنفيذ. ففي أحدها، يقول “كنت مدعواً بدار نجيب الربيعي” والصحيح بدار رئيس أركان الجيش اللواء احمد صالح العبدي “مع آخرين، بينهم الزعيم قاسم، الذي طلب منّا جميعاً، أن نصغي لبيان مهم سيذاع الساعة الثامنة مساءً.. وأصغينا السمع.. وإذا به بيان صادر عن عبد الكريم قاسم، يقول فيه: إن الكويت جزء من العراق.. ولا يمكن أن يعلن استقلالها كدولة مستقلة بعد انسحاب القوات البريطانية منها.. فوجئ الجميع بما سمعنا، بما فيهم أنا، وطلبت من عبد الكريم قاسم أن يسمح لي إزاء هذا الموقف بالانصراف والالتحاق بمقر فرقتي العسكرية، خاصة أن قطعاتها موزّعة على سبعة ألوية “محافظات” بما فيها محافظة البصرة.. فأشار لي قاسم بيده، أن أجلس ولا داعي لأن تذهب، فامتثلت للأمر، ولكن كنت قلقاً، ثم اصطحبني بعد العشاء إلى وزارة الدفاع، أتيحت لي فرصة شرح الأبعاد العسكرية المحتملة جرّاء هذا البيان وتداعياته على المستويين العسكري والسياسي وردود الأفعال المتوقعة، خاصة عدم وجود خطة عسكرية موضوعة سلفاً للتنفيذ، استمع قاسم لما قلته من دون تعليق..”. وتطالعنا شهادة أخرى للعميد – الحصونة – حيث يذكر فيها، “أنه ذهب إلى بغداد بـإجازة دورية، وبلّغ بضرورة حضوره افتتاح كنيسة الكلدان في الكرادة الشرقية” والصحيح حضوره وليمة رئيس أركان الجيش في داره في معسكر الرشيد “من قبل عبد الكريم قاسم، وكان مكان جلوسه بجوار – احمد صالح العبدي – رئيس أركان الجيش، حيث فوجئنا بما أعلنه الزعيم عبد الكريم قاسم بعائدية الكويت، لذلك أخبرت – العبدي – بأن ذلك يستوجب عودتي فوراً إلى مقر الفرقة، استعداداً لتنفيذ الأوامر العسكرية بتهيئة القطعات العسكرية. إلاّ أن – العبدي – طلب منّي عدم التسرع، وطلب منّي التوجه معه بعد الاحتفال الى وزارة الدفاع، لتلقي التعليمات المفصلة.. ذهبنا معاً الى وزارة الدفاع، وبعد وصولنا الى مقر – العبدي – دخل وحده الى غرفة عبد الكريم قاسم، وبعد دقائق معدودة خرج من الغرفة وبلغني ما يلي: يقول الزعيم عبد الكريم، لا داعي لقطع إجازتك، وتمتّع بها.. تيقّنت حينذاك، أنه لا ينوي تحريك أية قطعة عسكرية باتجاه الكويت، وفعلا لم يصدر للفرقة الأولى بعد ذلك، أي أمر بالتحرك الى حدود العراق الجنوبية”. وبرغم الاختلاف الحاصل بين شهادتي العميد – الحصونة – سواءً في المكان، وشكل تسلمه الأوامر، إلاّ أنهما تؤكدان، أن الجميع، فوجئوا بالإعلان وتوقيته، مثلما فوجئوا بعدم حصول إجراءات لاحقة، تناسب خطورة ما أعلنه الزعيم قاسم، واقتصار الجهد في مثل هذه القضية على المستويين السياسي والإعلامي فقط.

التدخل الدولي
بعد نزول القوات البريطانية في الكويت، أصبحت الأمور ذات أبعاد جديدة، ورؤى جديدة، مما أدخل هذه القضية مستوى آخر من مستويات الصراع، بحيث بدت إدارة الأزمة، تخرج من الأطراف المعنية بها، لارتباطها بمستويات أخرى من أوجه الصراع الدولي وتأثيراته المرتبطة بالمصالح والمواقع والنفوذ. لذلك يمكنني القول، أن الأزمة وإدارتها، كانتا دوماً خارج الحدود الجغرافية للإقليم العربي أو الشرق أوسطي. كانت الأزمة تُدار دوماً من طرف دولي مؤثر وفعال، وهذا ما حدث عام 1961، وبات واضحاً بعد 2 آب/ أغسطس 1990، حينما احتّل الجيش العراقي الكويت. فالإنزال العسكري البريطاني عام 1961، ومن ثم التواجد العسكري العربي الذي تلاه، كوّنا، مع بعضهما، الأساس أو السابقة التي أسس عليها فيما بعد، حشّدَ أضخم جيش شهدته المنطقة، بتقنياته وقدراته وإمكاناته، وهو الحشد الذي لم تقف حدود أهدافه الإستراتيجية عند التكليف الأممي الذي شرّعه مجلس الأمن الدولي، في الدفاع عن الكويت وحمايتها، بل تعدّته لتحطيم العراق وإعادته لما قبل العصر الصناعي، مثلما أوضح ذلك وزير الخارجية الأمريكي “جيمس بيكر” في مباحثاته مع “طارق عزيز” وزير الخارجية العراقي في حينها، في لقاء جنيف في كانون الثاني/ يناير 1991. كما كان هذا الحشد، بداية لتأسيس مرتكزات الهيمنة الأمريكية في المنطقة، بما يتمم المشروع الكوني الأمريكي، وبما يؤكد لنا، أن الكويت، ليست جزيرة عائمة بالنفط فحسب، بل أنها قاعدة من قواعد الدور الإمبراطوري الأمريكي، الأمر الذي يستوجب الدفاع عنها، كأحد مسلّمات الأمن القومي الأمريكي. ولعل هذا الأمر ازداد وتعاظم بعد دخول القوات العراقية، والنكبة التي حلت بالكويت وأهلها. وهذا يؤكد أن دور العنصر الدولي، سيكون حاسماً وبشكل دائم في حل إشكالية هذه القضية. في تلك الفترة 1961، قدّمت الكويت طلباً للانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة، إلاّ أن الفيتو السوفيتي أبطل هذه الرغبة. وفي تلك الأثناء، دخلت مصر والجامعة العربية على الخط، فقد “اقترح عبد الناصر، أن تطلب الكويت، رحيل القوات البريطانية، وأن تستبدل بقوات عربية مشتركة، وعندئذ تفتح أبواب الجامعة العربية للدولة الجديدة”. وهذا ما حدث، حيث قبلت الكويت هذا المقترح، وبدأ وصول قوات عربية من المملكة العربية السعودية والسودان ومصر والأردن، بديلاً عن القوات البريطانية التي بدأت انسحابها الذي أتمته منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 1961، لقواعدها في البحرين، والتي لا تبعد كثيرا عن بؤرة الأزمة، مما أتاح لها أن تمارس نفوذها من دون أن تنغمس في الفعل المباشر لإدارتها.
المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here