الجمع الممكن بين [ التوحيد والسياسة ] العقل و المعرفة …

الضبط اللغوي لكلمة – معرفة – تأتي من [ عرف ] وهي بمعنى أدرك أو وعى ، وهذا الوصف للمعرفة يختلف بحدود نوعية الإستخدام فتارةً يكون وعياً من خلال العقل المجرد ، وأخرى يكون وعياً من خلال العقل التجريبي ، وثالثاً يحصل الوعي عبر تأمل الشيء ، وقد جاء هذا الوصف في معجم أوكسفورد ولكن بقياسات معينة ، وهو لا يختلف من حيث البنية كثيراً عما ورد في لسان برتراند راسل ، والمعرفة من حيث لا تخرج في الوصف وفي التعريف عن حيز الذات المدركة وعن حيز الموضوع المدرك ، أي إنها تدور في فلك الإدراك ، وفي هذا الشأن نقرأ قوله تعالى : – (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة:31) ، يعني أرتبط التعليم بالوصف أو بالسمه من أجل تحديد الذات والتعرف عليها ، والكلام كما هو حول فعل الماضي ( عَلَّمَ ) الذي يجسد حتماً في قضية صادقة آمن بها آدم وقبلها ودَلَ عليها قوله ( أنبئُوني ) الذي يثبت صحة القضية المدركة وصدقها ، وطبعاً لا بد أن يكون العلم معلوماً من خلال الأداة التي تعيّ هذا العلم ، والأداة هي العقل لدى الإنسان ، ومفرداته هي وسائل العمل والإيضاح التي منها السمع ومنها البصر ومنها الفؤاد ، وفي هذه الحالة إن نظرنا إليها بدقة فستكون المعرفة هي إيمان بالشيء المدرك .

ولكن ماهو موضوع المعرفة ؟ : موضوع المعرفة هو ما يبحث عنه أو هو مادة البحث ، وسواء أكان هو الذي يُبحث عنه أو إنه نفس المادة المبحوث عنها أو المبحوثة ، فيجب الحصول من هذا البحث على اليقين لتتم المعرفة ، وبحدود ما نبحثه هنا في – علم التوحيد والسياسة – يكون الحصول على اليقين عبر العقل ومن خلال الكتاب المجيد ، ولكن كيف يكون هذا ؟ إليكم التوضيح : بحسب منطق الكتاب المجيد يكون اليقين على نوعين أو بحسب طريقين ، الأول : طريق التجربة ، – وهذا ساد مع بداية الربط بين الوحي والإنسان – فالتجربة كانت بمثابة وسيلة إيضاح كدليل وكبرهان ، وقد ساد هذا وطبقه معظم الأنبياء عبر محاججاتهم مع الرافضين وحتى للمؤمنين ، يظهر ذلك في صيغة [ … أنزل علينا مائدة من السماء … ] المائدة 114 ، وقال : [ .. رب أرني أنظر إليك .. ] الأعراف 143 ، وقال : [ .. رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ .. ] البقرة 260 ، والثاني : طريق التجريد ، والذي هو إعتقاد عقلي مجرد ، – أو هو إعتقاد في الشيء من نفسه دون الحاجة لوسيلة إيضاح – كما في قوله : [ إن في خلق السموات والأرض وأختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ] آل عمران 190 ، والتجريد طريق في المعرفة جاء مع نبوة محمد بن عبدالله ، والذي معها قلص الكتاب حدود التجربة وألغاه في مواطن كثيرة ، فالتجربة بالنسبة لعصر النبوة والوحي كانت المقدمة في التعليم والمعرفة ، ومع تطور العقل الإنساني لم تعد الحاجة إلى التجربة في مجال الإيمان والإعتقاد ، بل صارت الحاجة أكثر للعقل فهو الذي به يتم الإيمان ومن خلاله نحصل على اليقين ، وهذا ما يفسر المُراد من القول المأثور – ما خلقت خلقاً أحب إليَّ من العقل – ، كما ركز الكتاب على ذكر فعل – عقل – في صيغه المتعددة ، في الإفراد وفي التثنية وفي الجمع ، ولكننا لا ننفي التجربة في مجال التطبيق العلمي ، أعني إن التجربة نحتاج إليها في مجال التحقق من نتائج البحث ، وهذا بالضبط يجعل من الظاهرة مدار البحث مُدركة من قبل العقل أو لنقل من مبادئه وأسسه ، والمبادئ جمع مبدأ والتي هي عندنا مصطلح غامض إلاَّ إذا رمز إلى نوع ما من المعرفة ، التي يجوز إستعماله فيها ، فحين نقول مبادئ نعني بها مجموعة الأسس التي يُرتكز عليها أو يؤوسس النظام ، ومن هنا تكون المبادئ في ذاتها قادرة على التعريف بحالها وبصفتها وبما تريد الوصول إليه ، ذلك لأنها ليست قواعد جامدة غير محررة وإلاَّ لما فهمناها من أصل ولما تعاملنا معها وعملنا على أساسها ، وقد يقول قائل : إن المبادئ ووفقاً لأصلها ليست مبادئ إطلاقاً ، وهذا القول تجذيف وخديعة إذ لا يصح إطلاق اللفظ إلاَّ إذا كان له معنا مُراد بذاته ، والمبادئ من هذا القبيل فحين يقول العقل : – إن كل قضية عامة يمكن أن تقوم مقام القضية الكبرى في قياس العقل – ، هذا القول يكون صادقاً في البدهيات الرياضية والتي يمكنها أن تشكل مفهوماً قبلياً للمعرفة العامة ، ، فالقضية الكبرى حسب شرح معجم أوكسفورد هي دائماً تحتوي على معنى عام يمكننا إدراكه ، بلحاظ كون ذلك المعنى مألوفاً وقريباً و ليس ببعيد عن الذهن والعقل معاً ، ونفس الشيء يُقال عن المعرفة التي تقوم مقام القضية الكبرى ، ولكي يتحقق ذلك لا بد من أحكام وسيطرة يكون عبر ومن خلال – مفهوم القياس – الذي به نستطيع الحصول على الإدراك ، وبه كذلك نحصل على الوعي ، الذي يؤهلنا للحصول على المعرفة وهذه القضية الجدلية يجب أن تقوم أولاً على أساس النظر ثم البرهان ثم إلتصديق ، وحين نوظف مبدأ الإحتمال لا نعدم من الوصول إلى تلك الحقيقة ، والإحتمال هو مبدأ رياضي ومنطقي يزودنا بسلة من المعلومات الممكنة التي من مهامها تحصيل المعرفة التامة ، والإيمان بمبدأ الإحتمال ليس ككل إيمان إنما هو إيمان بالممكن العملي والنظري الذي يشكل هنا عنصراً من عناصر المعرفة التي تزودنا بالقدرة على تبني والحصول على نتائج حاسمة ، ولكن هل المعرفة مطلقة أم نسبية ؟ ، هذا السؤال يجعلنا أمام مفهوم المعرفة ، وهل هو نظرية أم معلومة يقينية ؟ ، وهل أن المعرفة هي عنصر فعال أم مجموعة عناصر مركبة فيها المطلق وفيها النسبي ، وبحدود ما فهمناه من الحركة الجوهرية : تكون المعرفة أية معرفة نسبية وليست مطلقة ، وشرط كون المعرفة نسبية شرطاً تسالمياً نجده لدى معظم علماء الطبيعيات ويعرفونه : على أنه شرط إقتضاء لصحة المعرفة ، ولا يجب في هذه الحالة قبول التعارض في المعرفة لا بين القوانين العملية ولا بين القوانين النظرية ، وليس هو من سمة من سماتها فالمعرفة لا تتم بالتعارض في قضايا الطبيعة وهذا ما يكشف عنه العقل ، حين يتبنى المعرفة بواسطة القياس أو بواسطة الإستقراء ، وهكذا قال أرسطو ، وطبعاً أداة المعرفة سيكون العقل الذي به نبحث ونستدل ونستنتج ، إذ بالعقل تكون مدركاتنا إما مباشرة أو من خلال الإستدلال ، ، والمباشرة ليس معناها نفي الإستدلال ، لأن نفي الإستدلال يقودنا لنفي العلل وهذا ما لا نقول به ، في المنطق الطبيعي يقولون : – إن ما ندركه على نحو المباشرية إنما نحصل عليه من خلال القياسات المفترضة في كل قضية رئيسية – قال كانط ، ففي القضية القائلة إن : – جميع الناس فانون – ، إنما هي قضية طبيعية بلحاظ واقع ممكن الوجود ، ولكن ماذا يعني هذا ؟ ، يعني هذا إن الفناء صفة ملازمة لممكن الوجود ، فالبقاء ممنوع أو ممتنع لممكن الوجود – والناس هم هذا الممكن في وجوده – ، الذي يكون قانونه العام هو [ الفناء وليس البقاء ] ، ولكن كيف ؟ ، و أما كيف فنتركها لمحلها من البحث ، وسنركز على أن معرفتنا مرتبطة بأن ممكن الوجود الذي هو الإنسان فان ، أي لا يوجد من هو باق من الناس ، ولو دققننا في هذه القضية المتقدمة فسنجد إن فيها قياساً منطقياً متألفاً من جزئيتين كبرى و صغرى ، وفي الجزئية الكبرى يكون قياس المحمول : – ينطبق على ماهيته في و مع كل قضية ، وفي مسألة الحكم على كل قضية يكون من لوازم الموضوع ، ونعني بذلك يكون الحكم من سنخ الموضوع فإذا كان موضوع القضية مقولي يكون الحكم كذلك ، وإذا كان موضوع القضية إتصالي يكون هو كذلك وهكذا ، ومهمة العقل هو في الكشف عن حكم الموضوع وبيان طبيعته ، ثم القيام بالتهذيب وإختزال التضخم من أجل الحصول على معرفة كاملة ، ، ، وهذا ما نطلق عليه بالبرهان العقلي المرتبط بالمعرفة الأصلية التي لا تختلف عن المعرفة الطبيعية ، وفي الملازمة بين العقل والمعرفة يكون من السهل علينا التعرف على الأسلوب المنهجي الذي أستعمل وفقه أفلاطون تعبير الفكرة التي هي عبارة عن تدفق من العقل الأسمى عنده والذي لم يعد على صفائه وحالته الأولى في الواقع ، وحيثما يذكر العقل نتذكر دائماً المعرفة التي نقرئها بنحو ما للملازمة بينهما ، وأما فكرة أفلاطون فهي وهم وخيال مثالي صعب المنال في عالم الأمكان ، لهذا قال روبرت بنكلي إننا بحاجة لمعرفة عرفية أو معرفة إجتماعية تكون قريبة من الذهن ومقبولة من العموم ، وفي هذا الصدد ذكر الكتاب المجيد قيمة العرف بقوله : – [ وأمر بالعرف ] 199 الأعراف ، والعرف ليس مبادئ منفصلة عن العقل إنما هي نتاج له ، لكنها مبادئ غير مثالية و هي مقبولة من العقل الجمعي ، لأنها معارف تراكمية غدت مع الأيام مبادئ وأصول ..
آية الله الشيخ إياد الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here