عزيزي زهير البغدادي، طلب شخصي رجاءً

هؤلاء في حياتي (٢)
عزيزي زهير البغدادي.. طلب شخصي رجاءً

سليم الحسني
في عام ١٩٦٩ حرص أخي الأكبر (أبو هشام) على تقريبي من أصدقائه رغم فارق السن بيني وبينه، وكان له الفضل المشكور على مجريات حياتي اللاحقة.

اصطحبني في صيف ذلك العام عدة مرات الى مقهى ياسين على شارع أبي نؤاس، وهو مقهى كان يتوزع رواده على الاسلاميين والشيوعيين والبعثيين، حتى تم إغلاقه من قبل السلطات الأمنية، بعد ان غلب عليه الحضور الإسلامي. فانتقلت مجموعة الإسلاميين ومعظمهم من الدعاة الى كازينو البتاوين في بداية شارع السعدون.

من الأشخاص الذين عرّفني عليهم، الأخ (زهير البغدادي)، وكان لقاءً عابراً، ثم توثقت العلاقة به بعد عدة سنوات.

ذات ليلة صيفية جميلة من عام ١٩٧٤، وكنت بصحبة الشهيد حسن عبد الجبار، والشهيد فائق حسن موزان والشهيد محمد علي الشابندر (الشقيق الأصغر للأستاذ غالب الشابندر) جاء زهير البغدادي الى كازينو البتاوين يحمل كيساً ورقياً فيه عدة نسخ من نفس الكتاب. فسألت الشهيد حسن، عن السبب الذي يدعو زهير البغدادي لشراء عدة نسخ من كتاب واحد؟

أجابني بأن هذه طريقة (زهير) حين يجد كتاباً مهماً، يشتري منه عدة نسخ، فاذا ما زاره أحد الأصدقاء في منزله في الكرادة، وأعجب بالكتاب، فانه يبادر الى إهدائه له، واذا ما احتاج أحد الأشخاص الى كتاب مفقود من المكتبات، فيعطيه نسخة من النسخ العديدة التي عنده.

تكررت اللقاءات معه، وقد لاحظت انه يركز على فكرة محورية عنده، وهي استنكاره لظاهرة الاهتمام بالشؤون الشخصية التي تطبع مجتمعنا، بما في ذلك الإسلاميين، وأن المفروض أن يتغلب الهم العام على الهموم الشخصية.

كان صادقاً في طرحه، حريصاً على أن تسود فكرته، وأن تعم النفوس والتوجهات لتكون منهجاً عاماً. ولم يكن في كلامه بائع مواعظ، ولا باحث عن تميّز وسط مجموعة من أصدقائه الدعاة وغيرهم من الاسلاميين.

افترقنا سنوات، ثم التقيته في طهران في لقاء صادم، كنت أظنه معتقلاً، كما كان يظن بأني اعتقلت مع حسن عبد الجبار. وكان اللقاء دامعاً حزيناً بعد فراق الأحبة بين مشرد وسجين وشهيد.

دعاني الى بيته لأقيم معه ـ كنت أعزب وقتها ـ وأصر بشكل متعب، كما هو شأنه حين يريد القيام بعمل يخدم به الآخرين. وقد اعتذرت منه بأن مكان اقامتي يتناسب مع ظروف عملي الحزبي، وتلك النقطة كانت خلاصي من إصراره، لكني كنت واثقاً بأنه سيبحث عن شخص آخر ليقيم معه في منزله، فلقد جُبل على سجية الخدمة والعطاء.

ثم انتقل الى مدينة قم ودرس في الحوزة العلمية وارتدى الزي الديني، وبقي على ذلك سنين يدرس علوم الشريعة، وحينما وقعت انتفاضة شعبان عام ١٩٩١، حدثت موجة الهجرة الثانية الى ايران، فنشط الشيخ زهير البغدادي، في رعاية المهاجرين الذين تقطعت بهم سبل العيش والعمل. فأنشأ مشروعاً تربوياً يستوعب فيه الشباب لتدريسهم العلوم الدينية، وأستأجر بيتاً لسكناهم ودراستهم، وكان يتحمل نفقات معيشتهم من ماله الخاص، ثم لجأ الى القروض المتتالية ليغطي نفقات مشروعه.

وكان يزورني بين فترة وأخرى في منزلي في طهران، زيارات سريعة ينجز فيها اعماله، وهي البحث عن متبرعين لرعاية هؤلاء الشباب، وأحياناً يتدارس معي بعض الأسماء الذين يمكن ان يسهموا في دعم هذا المشروع التربوي والإنساني.

كان يتعامل على أن الجميع مثله، يقدّمون الهم العام على الهم الشخصي، وذلك من طيبته وصدقه مع نفسه.

ذات يوم قال لي سأطلب من (حيدر) المساهمة في هذا المشروع فقد سمعت ان أموره المالية جيدة، (وكان يقصد صديقه القديم الدكتور حيدر العبادي، رئيس الوزراء حالياً).

وطلب مني مرة أن أتحدث مع أحد الأشخاص، فأخبرته بأن هذا مُصاب بالبخل، فأصر أن يجرب بنفسه، لأنه يشعر بأن العمل ليس شخصياً إنما للخدمة العامة، لكن النتيجة لم تتغير.

وكان أحياناً يواجه بالصدود الجاف من قبل أشخاص منّ الله عليهم باليسر والثراء، فيستغرب، ويتساءل:
ـ كيف يرفض هؤلاء المساهمة في مشروع اسلامي، أليس واجبنا خدمة الناس؟

ولم يشعر باليأس ولا بالندم، لأنه يسعى من أجل الآخرين وليس من أجله مكسب شخصي.

بعد سقوط نظام الطاغية، كان من أوائل الذين عادوا الى العراق، وراح ينسق مع أخي (أبي هشام) والمرحوم ضياء علي حسين، في القيام بأعمال خيرية لخدمة الناس، لكن أبواب المكاتب الحزبية بعد السقوط، كانت عيونها مشدودة لجهة أخرى.

لم يتعب الشيخ زهير البغدادي، ولا أظنه سيتعب، فلقد قضى عمره يحمل هموم الفقراء والقيام بمشاريع تخدم الشباب والناس.

عزيزي زهير البغدادي، لا أريد منك نسخة من كتاب نادر، أحتاج قطعة من إصرارك على المواصلة، فلقد صرت أشعر بالتعب.

لإستلام مقالاتي على قناة تليغرام اضغط على الرابط التالي:
https://telegram.me/saleemalhasani

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here