الاستاذ عبد الصاحب عطرة، ضمير لا يغيب

هؤلاء في حياتي (٤)
عبد الصاحب عطره.. ضمير لا يغيب
سليم الحسني
الاستاذ (عبد الصاحب عطره) مدرس مادة (علم النبات) في إعدادية الكاظمية، يتمتع بشخصية مهنية عالية، فهو صارم في تدريس المادة، لكنه عندما ينتهي من شرحها، ويبقى متسع من الوقت، يتحول الى صديق لنا، فيقدّم نصائحه بطريقة مرحة هادئة ننسى فيها أنه استاذنا الجاد، ويحدثنا عن تجاربه الدراسية، عن حوادث قديمة جرت في الكاظمية مثل سرقة قصر عائلة (الخضيري) الثرية على شاطئ دجلة، وعن تجواله في المناطق المختلفة لتصوير أي غريب في عالم النبات، مثل النخلة ذات الرؤوس الثلاثة قرب معمل الجلبي (والد المرحوم أحمد الجلبي)، ويشجعنا على تصوير مثل هذه اللقطات النادرة، ومن لا يملك كاميرا، فليحاول ان يكتب وصفاً لها ومكانها.

في المختبر يفقد الاستاذ عطره هدوءه وتختفي مشاعر الصداقة تماماً، فمنذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة، يسيطر عليه مزاج عصبي، يرصد بدقة من وراء نظارته السميكة المعتمة، حركات الطلاب، يوبخ المقصر بصوت غاضب، يهجم على العابثين بالأجهزة بنبرة شديدة. والسبب أنه يرى أن هذه الأجهزة والشرائح المجهرية أصبحت نادرة، فأي تلف فيها يعني فقدانها نهائياً وعدم إمكانية تعويضها.

كان في أوقات استراحته يدخل المختبر لوحده، ينظف الأجهزة، يمسح الشرائح، يطمئن على طريقة خزنها، يتأكد من إحكام غلق النوافذ والأبواب، لقد كان حارساً أميناً لهذا المختبر الذي يقول عنه أنه من أقدم المختبرات المدرسية في بغداد، وان الكثير من معداته هي ألمانية الصنع.

ذات يوم ـ ونحن في الصف الخامس الإعدادي من العام ١٩٧٤ ـ وفيما هو يرسم على اللوحة صورة توضيحية، نهض أحد الطلاب، واقترب منه هامساً في أذنه بضع كلمات، فثارت ثائرته، وقال بصوت مرتفع:

ـ لست ممن يقبلون الواسطة، حالك مثل بقية الطلاب، وليعلم أي واحد منكم ان من يأتيني بواسطة، فسأفضحه أمام الطلاب وفي كل الصفوف.

لم يكن موقفه هذا مفتعلاً يستعرض به نزاهته، بل كان فعلاً كذلك، فقد روى أحد المدرسين في أعقاب تلك الحادثة، أن شقيقه الأصغر كان طالباً عنده في إحدى السنوات، وصادف أنه مرض في يوم الامتحان، فلم يحضر، فما كان من الاستاذ عبد الصاحب عطره، إلا ان وضع له علامة (صفر)، وعندما أخبره شقيقه بأنه يعلم بمرضه فهو يقيم معه في نفس البيت، قال له:

ـ إنك أخي في البيت، أما في المدرسة فأنت طالب مثل بقية الطلاب، وعليك أن تحصل على إجازة من الإدارة أو تأتي بورقة طبيب تثبت أنك كنت مريضاً.

وكان ذلك درساً بليغاً للشقيق الأصغر صنع بقية حياته الدراسية، حيث دخل فيما بعد كلية الطب.

في الصف كان معنا طالب محترف في رياضة (الكراتيه)، فأراد أن يستعرض قوته، فراح يضرب إحدى الرحلات بقبضته، حتى كسر لوحها السميك. وحين دخل الأستاذ عبد الصاحب عطره، سأل الطلاب من تسبب بكسر الرحلة؟ ولم ينتظر جواباً، فقد أردف قائلاً:

ـ لا أريد أن أعرف من فعل هذا، ولكني أقول له، عندما ترغب أن تكسر شيئاً في هذه الإعدادية، فتعال الى بيتي وحطّم أي قطعة.

وراح يتفحص اللوح المكسور، ويهز رأسه أسفاً، وكأنه يتمنى لو يستطيع إعادته لحالته الأولى.

في يوم من النصف الثاني من تلك السنة الدراسية كان منهمكاً في التدريس، فسمعنا ضجة في الخارج، تبين أنه حريق بسيط نشب في مخزن الإعدادية، فخرج من فوره راكضاً، يحمل دلو الماء مرات عديدة لإطفاء النار، كان رغم عمره الخمسيني آنذاك، يركض بهمة الطلاب الشباب، وحين تم إخماد الحريق راح يتفحص المكان، يقلب القطع المتفحمة، وكانت دفاتر امتحانية قديمة.

تشكلت لجنة تحقيقية، وتم اكتشاف أن الحريق كان بسبب عقب سيجارة، وقد بقي الاستاذ عبد الصاحب عطره، مهموماً لعدة اسابيع، وكلما دار الحديث عن الحريق، يقول:

ـ هذا جزء من تاريخ المدرسة احترق.

لإستلام مقالاتي على قناة تليغرام اضغط على الرابط التالي:
https://telegram.me/saleemalhasani

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here