مهدّد بالانقراض وشح أراضي زراعته.العنبر أرشفة الذكريات في متحف الرائحة

 تحقيق/ نصير جابر

في مثل هذه الأيام .. وفي أصياف آفلة كثيرة .. كان الحديث الوحيد في (تسيارات) المساء هو (نزرع لو مانزرع) حيث يناقش (الفلاليح) بكثير من القلق مصدر رزقهم الوحيد وعماد حياتهم الاقتصادية.. وغالباً ماتنتهي النقاشات باللازمَة العراقية الشهيرة (الله كريم)… وقد وعيت على مواسم (خنياب) كثيرة حيث الدهلة الحمراء تهدّد جرف الشط بالماء الهادر القوي الذي يجرف كل شيء أمامه… كما سمعت من أهلي بمواسم (صيهود) كثيرة… والفلاح الفراتي لايعشق غير (الشلب) وتحديداً العنبر .. وهو من أجود الأنواع في العالم ويعدّ هوية مائزة للعراق …. ويكره بطبيعه الحال مواسم الصهيود ومحاصيلها مثل الماش والدخن حتى أنه يعلّم بها حوادث أيامه فهناك (سنة الماش) و(سنة الدخن)..

انقراض العنبر قريباً
هناك أيضاً مواسم (الياريت… والنعيمة.. والحويزاوي) وهي أصناف من الرز لكنها لا تدخل في صميم عشقه الأزلي للعنبر على الرغم من أن زراعته تحتاج الى صبر وخبرة ومهارة وهي تبدأ (بالتعشيب) حيث توضع (كواني) أي (أكياس) الرز المصنوعة من خيوط (الستلي) في مياه (الشاروغة) وهي ساقية صغيرة تتفرع عادة من (الرهط) وهو حوض الماطور المائي.. أو من (الطبر) وهو مجرى مائي أكبر من الشاروغة يمتد حتى (بزايز) الأرض أي الى نهايتها.. وتمتد فترة غمر أكياس الشلب في الماء 3 أو 4 أيام بعدها، تفرش حصران السعف أو (بواري) القصب و(يچمد) أي يغطى حتى تظهر عشبته (جنين الرز) وهي بطول ملمتر واحد بيضاء اللون تتصل بقلب البذرة بجذر رقيق جداً، وللعنبر وقت تعشيبه، رائحة هي من أجمل روائح الكون، وأظن أنه أخذ تسميته (عنبر) من الرائحة الشهيرة (العنبر) التي تستخرج من نوع من الحيتان يسمى (حوت العنبر) عرفه العرب منذ الأزل عن طريق التجارة وهو يأتي في مدوناتهم التأريخية مرتبطاً دائماً بالمسك (مسك وعنبر) …. بعدها ينثر (البزر) في ألواح يتم (سحكها) بالأرجل أي سحق الكتل الطينية التي غمرها الماء … ويحدث أن يبقى (بزر) (معشوشب).. والأرض غير مهيئة… فيقوم الفلاح (بشّر) البزر أي تعريضه للشمس .. حتى تتوقف عملية نمو العشبة التي تسمى (ميثة) التي ربما لها علاقة بالجذر العربي للفعل (ماث)… وحينما تنجز الألواح ينثر فتعود الحياة الى (الميثة)… والألواح يفصل بينها (الفرك) وهو حاجز طيني يتحكم بالماء .. وهناك طريقة ثانية ظهرت في زراعة الرز بعد ظهور شح المياه .. حيث ينثر الرز بدون عملية التعشيب لأن الرز (السحاك) يحتاج الى مياه كثيرة … ويفرّق الفلاح الفراتي بين العنبر المزروع بطريقة (السحاك) عن المزروع بالطريقة الثانية وتسمى (اليابس)… والعنبر المزروع بماء الدهلة يختلف بنظرهم أيضاً فهو أضخم حجماً وأزكى رائحة حتّى أن المرحوم (زامل سعيد فتاح) ألتفت الى ذلك فقال في قصيدة (قداح)
قداح
والقداح يذبل من تريد تجيسه
وخد الترف يكثر حماره ويرتوي بالبوسه
يابوسه العريس ليلة زفته لعروسه
ياعنبر بدهله انشتل مركوش ذب سبوسه
العنبر بدأ ينقرض وأغلب الأراضي بور أو يشغلها زرع آخر.. ولا أمل في رجوع تلك الرائحة التي كانت تضوع في كل الأرجاء.. و(الجيجان) نهر المهناوية الحنون يجفّ سريعاً… وكم كانت تلك الفراتية بعيدة النظر حينما قالت ..وهي تهمُّ بعبوره..

(العونة) أيام الحصاد
ولاينتهي العمل في العنبر أبداً.. فبعد وصوله لمرحلة معينة في النمو .. تجري عملية (الترقيع) أو كما يطلق عليها محلياً (الصلخي).. ويبدو أنها مشتقة من الفعل (سلخ) حيث يقوم الفلاح بنزع الشتلات من المناطق كثيفة النمو وتجميعها على شكل حزم صغيرة وأعادة غرسها في المناطق الأقل كثافة وتسمّى هذه العملية (شتال).. وقد يعمد الفلاح الى الطلب من جيرانه، لأن كثافة الزرع تؤذي وتضعف الإنتاج … ومثلما تحتاج زراعته الى مهارة وصبر يحتاج حصادة الى تعب (طبعاً هذا قبل دخول التقانة الحديثة) حيث كان يحصد يدوياً .. وتشارك العائلة تقريباً كلها في الحصاد، ولايبقى في البيت غير الصغار وكبار السن الذين لايتحملون التعب الشديد.. ويستعمل في حصاد العنبر المنجل، وهو أداة معروفة عند أهل العراق منذ القدم وهناك أيضاً (الباذورة) وهي أصغر من المنجل وتستعمل في (حش) الأدغال أيضاً.. ومن كنايات أهل الفرات (فلان باذورة) أي سريع الكلام مع لباقة لافتة للنظر.. وحينما تكون المساحات شاسعة ولاقبل للعائلة الواحدة على حصدها .. يلجأ صاحب الأرض الى (العونة) وهي طلب المساعدة من الجيران أو الأقارب وهو أمر شائع ومتعارف عليه جداً الى وقت قريب، وعادةً مايبدأ العمل في الصباح الباكر ولايرتاحون ألاّ وقت الفطور، وعادة مايكون هذا الفطور أو (الريوك) خبز (طاوة) وهو خبز مصنوع من عجين الحنطة المختمر الذي يخبز على شكل دوائر صغيرة ويقلّى بالزيت ويرش فوقه السكر ويؤكل مع زبدة الأبقار والشاي ويحمل هذا الفطور الى الحقول مع الشاي في صواني الألمنيوم (الفافون) ويغطّى بقماش سميك كي لايبرد .. ويجلسون على أكتاف (الطبر) المغطّى بالحشائش لأن الجلوس وسط الحقل المحصود صعب لوجود (الجلّة) أي بقايا الحصاد.. ولا يرجع الفلاح الى البيت ألا وقت الغروب وتجمع السنابل على شكل أكوام تسمى (مخلفة) تنقل ليتكون منها البيدر، حيث ترصّ المخالف على شكل دائري .. ثم يُداس الحاصل بواسطة الحيوانات… ليستخرج الشلب بعد تنظيفه مما علق به من أوساخ وحبوب أخرى تنمو معه مثل الدنان والشيلم وغيرهما… وأفضل طريقه هي (تذرية) أكوام الحبوب بواسطة (المرواح)هو أداة زراعية قديمة عرفها الفلاح منذ القدم تشبه المسحاة لكنها تنتهي بأعواد خشبية تشبه الكف المفتوحة.. ويقف الفلاح بمواجهة الريح و(يذري) لمرات عديدة.. أما مايتخلف من حصاد الشلب فيسمونه (باث) وهو قد يحتوي على سنابل لم ينتبه لها (الحاصود).. وعادة ما يعاد حصادها أو تترك للطير إذا كانت متفرقة لاقيمة لها … وقد انتبه لذلك الشاعر عريان السيد خلف فقال..
وصوابك .. يجرح الآخ .. كل آخ
التلجمه يزود
يمعتب هضيمه عليك .. تحصد ..
باثة المحصود
او تعتب والعتب مدفون .. جثة
التم عليها الدود

العنبر وليل النساء الطويل
أما التبن المتبقي من عملية (الدايس) فيجمع بأداة مختلفة تسمى (الدكرة) وهي تشبه المرواح لكن يكون العمود المصنوعة منه أكثر متانة ويسمى (الربد) وتنتهي بخشبتين يشبهان أظلاف الماعز .. ويجمع التبن على شكل أكوام ترصّ فوق بعضها البعض حتى يتكون مايسمونه (چل) .. وهو علف حيواناتهم المفضل والأكثر فائدة في الشتاء حيث يقل الدغل … ينقل العنبر بعدها الى (الحلّة) وهي صومعة لحفظ الرز وتصنع على شكل دائرة من (بواري) القصب ويكون عادة قطرها متر ونصف المتر، وتغطّى بحصران السعف والتبن والطين لمنع الماء من التسرب الى داخلها وهي وسيلة خزن آمنة، لأن البواري القصيبة ستسمح للهواء بالدخول فلا تتعفن البذور، وهناك وسيلة خزن أخرى تسمى (السدانة) وهي تشبه التنور الطيني لكن قطرها يبقى واسعاً ولايضيق وليس لها فتحات من جوانبها .. أما جرش الرز فيكون بالمجرشة التي رافقت ليل النساء الطويل وكانت معهن دائماً حاضرة في أحزانهن وأفراحهن النادرة لذلك عبر عن تلك العلاقة المرحوم ملا عبود الكرخي (1861..1946) في قصيدته الشهيرة المجرشة..
ساعـة واكسـر المجرشـة وألعـن أبـو السواهـا
إشجم سفينـة بالبحـر يمشـي ابعكسهـا اهواهـا
إيصيـر أظلّـن ياخلكـك متجابلـة آنـه ويـاهـا
كلمـا يكيّرهـا النـذل آنــي بحيـلـي ابريـهـا
وبعد أن تنفصل القشور التي تسمّى (سبوس) وهو عادةً يفرش في أرضية (المراح) أي المكان الذي تربط فيه الأبقار أو يستعمل أحياناً كوقود .. يؤخذ الرز المجروش الى (الجاون ) المصنوع من جذع شجرة على شكل أناء عميق … ومعه (مدكة) مصنوعة من عمود قوي ينتهي برأس مدورة عادة حتى (يركش) أي يدق الرز وتستمر عملية التهبيش طويلاً حتى يستوى الرز … ويصبح جاهزاً للطبخ … وعادة ما يطبخ العنبر بدون أي أضافات عدا الملح ويسمونه (طبيخ) بكسر الطاء، لأنه يؤكل مع اللبن الرائب … وبعضهم يفضل (الفوح) وهو الماء الذي طبخ به الرز.. وله فائدة ورائحة زكية جداً وفي بعض الحالات يعطى للأطفال الرضع بعد أن يخفف قليلاً بالماء…كما يصنع من طحين العنبر خبز (الطابگ) الطيني الذي هو عبارة عن قرص من الطين يصنع من الغرين (الطين الحريّ) كما يسمونه.. ويترك في الشمس لعدّة أيام حتى يجف تماماً ويؤكل هذا الخبزعادة مع السمك المشوي.. وهناك نوع آخر من الخبز يسمونه (المحرّش) حيث يخلط مع العجين نوع من السمك الصغير ويخبز.. ويؤكل مع البصل الأخضر .
في أحد مواسم الجفاف.. ذهب أحد الشيوخ الى وزير الزراعة الذي كان لمّاحاً فتوقع سبب زيارة الشيخ له ..فقدم له الشاي ولم يجلب معه كأس ماء كالمعتاد .. فقال له الشيخ وقد عرف مرامية (لازم ماعدكم ماي بالوزارة)…فقال (عمي بس أجيبلك ماي تشرب… تريد ماي تزرع) والحمد لله أن مظفرنا العظيم عاش زمن الخير والسنابل ليكتب لنا تلك الجملة الشعرية الأكثر دهشة ووجعاً في تأريخ الأدب ..
يا ريل …
صيح ابقهر …
صيحة عشك.. يا ريل
هودر هواهم
ولك ..
حدر السنابل كطة
المدى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here