عناقيد النار..جدلية التأويل في السياسة العراقية عبد الكريم قاسم وحكاية الكويت 7

د. حميد حمد السعدون

الخلاصةُ، انه بعد أن تراصّت الصفوف كل ضمن جبهته، وبعد أن أوحت السلطة القائمة انها (فوق الميول والاتجاهات ) وتركت الأحزاب تأكل بعضها بعضاً، فقد بات المشهد السياسي الحقيقي، لا يعني غير حزبين أساسيين، الحزب الشيوعي العراقي وحزب الَبعث العربي الاشتراكي، اللذين كانا يتصارعان مع بعضهما داخلياً وخارجياً، ويتصارعان كل على انفراد ضد السـلطة القائمة، مستندين في ذلك الى قوة أنصارهما ومؤيديهما وعلى شكل واتساع تحالفاتهما. الشيوعيون، بنوا ستراتيجيتهم على الشكل التالي: أن نظام قاسم على الرغم من  دكتاتوريته واضطهاده لهم فهو نظام وطني، لذلك عليهم الدفاع عنه بأي شكل، حتى وأن تطلب ذلك رفع السلاح دعماً له، لأنهم قدروا أن وجود هذا النظام، حماية لهم من الآخرين، مع كل مساوئه، وهـو ربط مصيري لم يكن على الحزب اتخّاذه، لأنه لم يكن شريكاً في السلطة، ومع ذلك وضع نفسه شريكاً في الموت وبلا داع. ويقول الدكتور عبد الحسين شعبان ناقداً تلك السياسة بأنها مائعة وليس لها لون أو طعم أو رائحة، لا سيما شعار الحزب “تضامن – كفاح – تضامن” الذي تحول لاحقاً الى “كفاح – تضامن – كفاح”. كما ان الشعار الذي رفعه الحزب بعد اندلاع الحركـة الكردية المسـلحة في 11 أيلول/ سبتمبر 1961 “السلم في كردستان” لم يكن له أي معنى، سوى التعبير عن تيه سياسي وعدم المقدرة في تجسيد الاولويات وتحديد الحلقة المركزية على نحو صحيح. ويعتقد – شعبان -، ان الحزب كان ينتظر ذبحه.. هكذا ظل ينتظر “البرابرة” على حد تعبير الشاعر اليوناني الكبير “قسطنطين كفافينس”. في حين ان البعثيين قدروا ان ستراتيجيتهم تقوم على اسقاط نظام قاسم، بالقوة وبكل ما يدعمها مع ضرورة الحفاظ على المكتسبات الوطنية التي تحققت في عهده، والعمل على تطويرها، مع ضرورة العمل على تحقيق جبهة وطنية واسعة. والحقيقة، فقد كان حزب البعث، يتطور ويقوى، مدعوماً بجبهة واسعة من التيار القومي، خصوصاً انه قاد أنشطة مهمة أبرز للخصوم والأصدقاء فيها، مدى قوته وتأثيره ومنها اضراب البانزين 1961 واستقبال قادة الثورة الجزائرية 1962، ومن ثم اضراب الطلبة أواخر 1962، والذي هيأ الأجواء لحركة 8 شباط/ فبراير 1963، هذا غير انفتاحه واستقطابه وكسبه لكثير من الضباط المؤثرين في العمل الحاسم، والذي كان للحزب الشيوعي دور في ايذائهم أو اعتقالهم أو احالتهم الى التقاعد. في حين كان الحزب الشيوعي اخذ يتراجع ويخسر جماهيريته الواسعة، جرّاء سياساته السابقة وفقدان وحدة قيادته التي كانت مفككة منذ اواسط العام 1959 وحتى النصف الثاني من العام 1962. كما ان السلطة لاحقته بعنف ونفضت يدها من تحالفها المؤقت معه، اضيف الى ذلك اصطدامه، مع تيارات مؤثرة، كالتيار الديني – بمختلف الوانه واشكاله-. وكانت أبلغ الضربات التي تلقاها في هذا الجانب، الفتوى التي أصدرها المرجع الديني الكبير السيد (محسن الحكيم) أوائل عام 1960، والخاصة بتحريم وتكفير الفكر الشيوعي والعاملين فيه، مما أضاف مُفجّراً وسبباً آخر، في حدوث الجزر في نشـاط الحزب. هذا غير علاقته المتوترة مع أوساط الجيش، وخصوصاً قياداته العليا، والتي تعكزت لاحقاً تحت ألف سبب وسبب للاصطدام به وتصفية حساباتها معه. لقد نجح حزب البعث العربي الاشتراكي، في إقامة تحالف واسع له، مع أطراف عدّة، لغرض الاطاحة بحكم – عبد الكريم قاسم -، فقاد بنجاح إضراب الطلبة الذي ابتدأ من الثانوية الشرقية في الكرادة في نهاية كانون الاول/ ديسمبر 1962، واتّسـع في عموم مدارس وكليات بغداد، مما هيأ الأجواء للضربة الساحقة في 8 شباط/ فبراير 1963. وعلى الرغم من أجواء التكتم والسرية التي تستوجبها مثل هذه الحالات، فقد عرف الحزب الشيوعي بنّية البعث على الثورة، وطرح ذلك علناً في بيان أصدره في 3 كانون الثاني/ يناير 1963، مؤكداً، (أن المعلومات المتيّسرة تشير الى أن كتائب الدبابات في معسكرات بغـداد واللواء التاسع عشر (*)، أصبح مركزاً لنشاط عدد من الضباط.. الذين يتوخّون قلب الأوضاع..). وألحقه ببيان آخر في 25 كانون الثاني/ يناير 1963، متوعّداً الثائرين بالرد العنيف والقاسي، داعياً السلطة الحاكمة الى تصفيتهم والانتباه على ماينوون القيام به، بل توافرت للحزب الشيوعي معلومات أكثر دقة عما يخطط حيث “كانت الخطة الانقلابية قد وصلت تفاصيلها الى سكرتير الحزب الشيوعي.. قبل خمسة أيام، ولم يبادر بالتحرك على الصعد كافة، بل بقى منتظراً الاحداث ليتخّذ القرار المناسب، متكّلاً على لجنته العسكرية غير المتخصصة وغير الكفء، ووجدت الخطة المكتوبة بجيب سلام عادل بعد اعتقاله”. ووضع الحزب الشيوعي كل امكاناته المعلوماتية والقتالية تحت تصّرف الزعيم قاسم، الذي جرى اخباره عن مجمل تقديرات الحزب على وفق ما وقع تحت يديه من معلومات، عن طريق مرافقه الأقدم العقيد (وصفي طاهر)، مما دعاه الى اتخاذ جملة من الاجراءات، مثل احالة مجموعة من الضباط الى التقاعد، واعتقال آخرين، وابعاد مجاميع منهم الى وحدات خارج بغداد. وكانت الضربة الأشد حينما نجحت مديرية الأمن العامة في اعتقال اعضاء من القيادة القطرية في دار طالب الشبيب في 4 شباط/ فبراير 1963، لكن مع كل ما حدث، فقد قاد حزب البعث، الانقلاب باصرار واضح وبثبات نحو تحقيق هذا الهدف، وهذا ما حصل حينما سقط – عبد الكريم  قاسم – وأركان حكمه مضرّجين بدمائهم في استوديو الموسيقى في مبنى الاذاعة والتلفزيون، ظهر يوم 9 شباط/ فبراير 1963م، وذلك حين تم تنفيذ حكم الاعدام بهم بعد محاكمة صورية، لم تدم سوى بضعة دقائق.

الانقضاض تركنا سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي – حسين احمد الرضي – وقد ايقظته أصوات طلقات الرصاص والمدافع من نومه في البيت الحزبي الذي كان يقيم في منطقة (كمب سارة). وكان يعيش معه في هذا البيت الحزبي، كل من (هاشم ذنون) وزوجته (آمنة الحكيم) وأختها (بتول) زوجة مرشح المكتب السياسي (عبد السلام الناصري)، وكذلك ابنه الطفل (علي) الذي لم يتجاوز عمره (3) سنوات، والذين اعتقلوا جميعاً، في مساء التاسع عشر من شباط – فبراير 1963م. بعد ان استمع – الرضي – لما تذيعه الاذاعة من بيانات مناهضة للحكم، فقد أدرك خطورة الأحداث وأهميتها، لذلك أجرى مجموعة من الاتصالات الهاتفية مع بعض أطراف الحركة الوطنية مثل – كامل الجادرجي – و – محمد حديد – و – عزيز شريف – وكذلك مع رفاقه أعضاء سكرتارية الحزب، ومع أعضاء اللجنة المركزية المتواجدين في بغداد، واتّفق على لقاء سريع يتم في مطبعة الحزب، وهذا ما تحقّق بعد الساعة العاشرة صباحاً. ولم يحضر جميع من اتّصل بهم. وقد وافق الجميع على مسوّدة البيان الذي كتبه سكرتير الحزب – سلام عادل – والمناهض للحركة، وبدأ بطبعه فوراً، وقد جرى توزيعه في الشوارع بعد الساعة الحادية عشرة صباحاً، وقرأ على الجماهير المحتشدة في الباب المعظم وساحة التحرير والكاظمية، في وقت كان مناصرو الحزب ومنظماته القريبة يطوقون وزارة الدفاع، ويهتفون للزعيم و   للسلاح.

المشرق

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here