الاستشراق المقاوم : جيمس دكنز مثالا

ماجد عبد الحميد الكعبي

يُعد بروفيسور جيمس دكنز (James Dickins) الاكاديمي الانكليزي المعاصر والمحاضر في جامعة ليدز البريطانية من ابرز المستشرقين الانكليز المعاصرين والمهتمين بقضايا الشرق الاوسط ولاسيما البلاد العربية. عاش لسنوات في السودان واليمن وارتحل الى بلاد عربية اخرى . وعلى الرغم من ان دكنز مهتم بدراسات الترجمة وعلاقتها باللغة العربية الا انه انماز عن غيره باهتمامه كذلك بالشؤون العربية السياسية وقضايا حقوق الانسان.

يمثل دكنز امتدادا لتيار من المستشرقين الانكليز(براون ، نيكلسون ، اربري) الذين ظُلموا مرتين. في المرة الاولى وقع عليهم الظلم في بلادهم الام حيث لم تسلط عليهم اضواء الاهتمام في حياتهم وبعد مماتهم بسبب مواقفهم من الاستعمار ومعارضتهم لسياساته. اما الثانية فعندما تم تصنيفهم ووضعهم بخانة الاتهام اسوة بغيرهم من المستشرقين الذين تورطوا بخوض غمار السياسة الاستعمارية لبلدانهم ، فلم تتم الاشادة بدورهم الايجابي والمناصر للقضايا العربية. كذلك لم تعتن مراكز الابحاث والدراسات ووسائل الاعلام في البلاد العربية بالثناء على دراساتهم والاشادة بأبحاثهم الا نادرا وبشكل مقتضب.

لم يرتض دكنز ان يتخذ دور الاكاديمي المحايد الذي يعيش بين رفوف المكتبة الاستشراقية الضخمة التي توارثها عن الاسلاف فينهل من المعرفة الارشيفية التي تم بناؤها في العهد الاستعماري ، تلك التي اتهمت بتنميطها للشرق على وفق المخيلة الغربية ، بيد انه انفرد باتخاذ دور المؤيد والمناصر للقضايا العربية العادلة ولاسيما القضية الفلسطينية. فهو عضو برابطة الاكاديميين الانكليز المقاطعين للجامعات الاسرائيلية والذين حظروا التعامل مع مراكزها البحثية بمختلف فروعها ايضا. و لم يبال دكنز بخطورة مثل تلك المواقف واثرها في مستقبله العلمي ومكانته الاكاديمية. كما لم يكن انتماؤه لتلك المجموعة شكليا بل اصر دكنز على تحويل المقاطعة الى فعل على ارض الواقع ، فراح ينظم الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تحث الاكاديميين الانكليز وغيرهم على مقاطعة الجامعات الاسرائيلية.

واتسع دور دكنز ونشاطه الفاعل في تاييد قرارات منظمات حقوق الانسان للشعوب العربية المضطهدة الاخرى في مختلف البلدان العربية التي شهدت تحولات دراماتيكية في اوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية – وهنا ايضا لم يتخذ موقف المحايد- بل اعلن عن ادانته لكافة الممارسات القمعية التي تمارسها الانظمة السياسية الحاكمة ملتحقا بالحملات التي تشنها منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان لاسيما تلك التي تعارض حروبا شاركت بها بلاده . فلم ينس دكنز ارض اليمن واهلها وما حل بها جراء الحرب التي تخوضها دول التحالف العربي بقيادة السعودية وانما اقتنص الفرص الكثيرة للتعبير عن رفضه لكل الممارسات غير الانسانية. وقد عبر عن رفضه باشكال مختلفة منها ما يتعلق بعقد الندوات الاكاديمية والحلقات الحوارية التي يشترك فيها ناشطون من الجامعة وخارجها ، فضلا عن حضور الفعاليات المناهضة لتلك السياسيات. ولم يكتف دكنز بتلك الوسائل بل حاول استغلال كل ما توفر له من مساحات يمكن ان يعبر من خلالها عن رأيه الرافض وان كان باب غرفته في الجامعة الذي تحول الى لوحة اعلانات لتلك النشاطات. كما انه استغل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) لنشر (بوستات) المقاطعة والرفض لكل ما يجري من انتهاكات لحقوق الانسان في البلدان العربية وليس اخرها المنشور الذي يطالب الحكومة البريطانية لوقف بيع السلاح للسعودية.

دكنز الاكاديمي والانسان الذي عاش بين الفقراء وبسطاء الناس في السودان واليمن لم تنجح في اغرائه اموال البترول وحياة الترف في الخليج ، وهو المؤهل للحصول على عقود العمل في تلك البلدان الثرية متى ما شاء.

لقد فضل دكنز ان يكون انسانا اكاديميا حرا ومستشرقا مقاوما وهو بذلك التوجه كشف عن الوجه الايجابي لمصطلح الاستشراق. الاستشراق الذي اصبح تهمة بالعمالة لايديولوجيا الهيمنة الاستعمارية ولصيقا بنظرية المؤامرة -لاسيما بعد صدور كتاب المفكر العربي ادوارد سعيد (الاستشراق) – لا بد ان يعاد اكتشاف المحطات الايجابية فيه فضلا عن التيارات الفكرية المقاومة للاستعمار وهيمنته لكي لا يُغمط حق لاكاديمي مستشرق مقاوم مثل جيمس دكنز.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here