العراق: أكبر وأقدم مقبرة في العالم تروي قصص اكثر من 1400 عام

رغم صعوبة السير بين القبور لكن رائحة البخور وماء الورد تملآن المكان وتمتزج تلك الرائحة بصراخ الامهات والابناء على فراق الأحبة، ينتشر الأطفال الذين يغسلون قبور آبائهم ويمسحون صورهم، وفي الأعياد والمناسبات الدينية يتحول لون المقبرة من الرمادي الى السواد بسبب ارتداء زائريها اللون الأسود حزنا على ذويهم ولبس النساء للعباءة السوداء وهي الزي التقليدي في المدينة المحافظة.

من يشاهد مقبرة النجف او “مقبرة وادي السلام” وهي التسمية الرسمية لها من مكان مرتفع يخيل له أن ملايين الموتى قصدوها من جميع بقاع العالم وهذا ما يميزها عن غيرها فهي الأقدم في تاريخ العالم، إذ دفن في هذه المقبرة الأنبياء هود وصالح وملوك عرب وفرس فضلا عن قدم المواد التي بنيت بها القبور وتواريخ الدفن المدونة على الحجر.

وكانت المقبرة التي يتجاوز عمرها (1400) سنة بحسب الكتب التأريخية للمدينة لسنوات طويلة تأوي الهاربين من الخدمة العسكرية الإلزامية ابان الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي وهناك قصص وحكايات عدة تروى عن هذا الامر حتى ان بعض الهاربين عملوا لاحقا في دفن الموتى عقب اعتيادهم المكان.

الدفان محمد أبو اصيبع هو أحد أشهر الدفانين هناك، عمل في المهنة منذ ثمانينات القرن الماضي بعد هروبه من الخدمة العسكرية الإلزامية في زمن النظام السابق، بقي هاربا سنوات عدة يتنقل في المقبرة من سرداب الى آخر.

يقول “لجأنا الى سراديب مقبرة وادي السلام بعد مطاردات ومداهمات كثيرة من قبل النظام السابق لبيوتنا فأصبحنا على شكل مجموعات كل مجموعة تضم بين خمسة الى سبعة أشخاص نقضي النهار والليل في المقابر حيث لا تتمكن القوات الأمنية حينذاك الدخول الى المقبرة خوفا من الصدام معنا”.

ويضيف “كان عملنا مقتصرا على الليل فقط إذ نقوم بحفر القبور وبأسعار زهيدة جدا ونبعث بالأموال التي نحصل عليها مع إخواننا الصغار لجلب الطعام من المدينة او من بيوتنا ونعتمد على بقايا الشموع التي يتركها الزائرون للمكان على قبور ذويهم لاستخدامها في الإنارة”.

محمد الخفاجي رجل أربعيني عاش في المقبرة سنوات عقب فراره من الجيش يقول “في أول ليلة نمت فيها في سرداب مظلم شعرت بالخوف الشديد لأني لا أرى سوى بصيصا من ضوء القمر الذي يدخل من فتحة في سقف السرداب التي تترك عادةً للتهوية ولم أنم طوال الليل من الخوف لان الجرذان والفئران تنام معي في الفراش ذاته.

ويضيف “لوهلة أشعلت إحدى الشموع لأرى ماذا يدور بقربي فقام قريبي وضربني بشدة محذرا من أن ضوء الشموع سيجلب لنا رجال الأمن لأننا ننام على عمق سبعة أمتار فقط”.

في عام 2004 تحول المكان إلى ساحة قتال عنيف بين جيش المهدي والقوات الأميركية استمرت أسابيع بسبب معرفة عناصر جيش المهدي للمكان بشكل جيد واطلاعهم على الأماكن التي توفر لهم مواقع اختباء جيدة لقناصيهم ومقاتليهم وتهدمت نتيجة المعركة الشهيرة التي دارت هناك مئات القبور.

طبيعة المقبرة جغرافيا وامتدادها على مساحة واسعة جعل منها تتداخل مع ما يسمى (بحر النجف) وهو منخفض مشهور في المدينة المحافظة دينيا، إذ تروي الحكايات انه كان بحرا فيما مضى لكنه جف بسبب العوامل البيئية وبات اليوم منخفضا خاليا تظهر في بعض أجزائه أشجار النخيل، كما تجاور بعض الأحياء السكنية المكان العتيق منها.

المقبرة احتضنت أيضا في سنوات الاحتقان الطائفي بين عامي (2005- 2006) آلاف الجثث مجهولة الهوية من ضحايا القتل الطائفي في بغداد ومدن أخرى مختلطة مذهبيا، وحينما زاد العدد عن الحد المعقول تم تحديد قسم خاص في المقبرة لمجهولي الهوية.

يقول الدفان حسن علي إن “مقبرة مجهولي الهوية أخذت مساحة من المقبرة بسبب كثرتهم وخصوصا في اعوام 2005 الى 2007 اذ كانت أعداد كبيرة تأتي من المحافظات وخصوصا بغداد وضواحيها وكان أهالي الضحايا يقومون ببناء قبورهم بعد التعرف على صورهم ومستمسكاتهم وهوياتهم التي وجدها العاملون في الطب العدلي بحوزتهم قبل الدفن”.

يحاول العراق اليوم إقناع اليونسكو بضم المقبرة إلى لائحة التراث العالمي في وقت قريب لكنه لم يتم استعداداته لذلك. ويقول محمد الميالي مدير اثار وتراث النجف ان “ملف دخول مقبرة وادي السلام اكتمل من الناحية الفنية بعد عمل دام سنوات عدة من التحضير والزيارات المتكررة من قبل اليونسكو”.

ويؤكد أن العائق الوحيد الذي يحول دون وضع المقبرة على لائحة التراث العالي هو الخلاف بين ديوان الوقف الشيعي ومديرية بلدية النجف حول عائدية المقبرة، إذ أن كل جهة منهما تتمسك بعائدية المقبرة لها ولم يتم حسم الخلاف بعد.

الباحث التاريخي حسن الحكيم يقول إن “مقبرة وادي السلام تمتد من مرقد الإمام علي إلى جهة شمالي المدينة محاذية لبحر النجف اذ بدأت مساحة المقبرة تتسع بسبب قيام ميسوري الحال ماديا بحجز مساحات تتراوح من (20-100) متر مربع لدفن موتاهم”.

يذكر الحكيم ان تاريخ المقبرة يعود إلى عصور موغلة في القدم حيث تضم المقبرة أيضا مدفن نديمي الملك الشهير النعمان بن المنذر الذي حكم دولة المناذرة المسيحية فضلا عن قبور عدد من الملوك الحمدانيين والجلائريين والصفويين الذين توفوا منذ مئات السنين، إذ كانت مقتصرة على اصحاب السلطة من أمراء وسلاطين وشخصيات مرموقة لتوفر الإمكانيات لديهم على نقل جثامينهم الى النجف.

ويقول أيضا ان هناك مقابر لجنسيات مختلفة في المكان ضمن مقبرة النجف المترامية الأطراف إذ توجد مقبرة للبريطانيين الذين قتلوا في ثورة العشرين وأخرى للهنود الذين كانوا يمكثون في النجف لمدة طويلة في القرون الماضية ولهم مؤسسات في النجف، فكانت لهم مقبرة بين النجف والكوفة وهاتان المقبرتان قضي عليهما من أجل توسيع الشوارع، رغم العمق التاريخي الكبير لهما، لأنهما تمثلان قِدَماً يعود لمئات السنين.

وكان بعض الأغنياء من الهنود ومناطق إسلامية مختلفة من العالم يوصون بالدفن في وادي السلام، وكانت تأتي جثثهم إلى النجف على شكل ودائع (عظام فقط) إذ يدفن الميت في أرضه وبعد أن تتفسخ الجثة وتصبح عظاماً تنقل إلى النجف لتدفن في المقبرة داخل كيس، وذلك لظروف سياسية أو اقتصادية أو لبعد المسافة، مع وجود وسائط النقل البسيطة جدًّا في ذلك الوقت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here