من أوراق محقق شرطة مركـز شـرطــة الجـعيفـر وابـن كــزة

د . معتز محي عبد الحميد

كانَ كل شرطة مركز الجعيفر وضباطه يعرفونه حق المعرفة، كانوا يبتسمون كلما شاهدوه وربما استدعاه احدهم وتجاذب معه اطراف الحديث ليروح عن نفسه من متاعب العمل.. كان اسمه (عباس كزة) فقد كان بلا عمل يروح ويغدو طوال اليوم بملابسه الرثة.. ويصيح بالفاظ غير مفهومة.. فتراه يدور في درابين محلة الذهب والشيخ صندل وهو محزم على الدشداشة فيلاحقه الصبيان والاولاد ويرددون (عباس كزة.. بيك ….) فيلاحقهم عباس، ويرقص على النغمة وعلى تصفيق الصبية وهز ردفيه.. واصبح عباس حديث المحلات والدرابين في جانب الكرخ.. وغيرها.. وان كان بعضهم يتحدث عنه بكثير من الحسد.. ليس بسبب انه غير مضطر للعمل وانه يحصل على قوته وملابسه من احسان الاخرين.. وانما لان –عباس كزة.. كان قد تزوج منذ فترة بفتاة صغيرة رائعة الحسن ظهرت فجاة في محلة الذهب.. ولا يعرف احد من اين اتت هذه الفتاة.. وكيف رضيت به زوجاً.. وحدث تغير في أحوال عباس.. فقد دخل مركز الجعيفر ذات صباح وهو يصرخ ويهلل ثائراً..
– ساله الضابط متندراً: ماذا بك يا عباس؟!
– صرخ عباس.. ضربتني.. وطردتني من المنزل!
– ساله الضابط مندهشاً: من؟
– قال عباس: زوجتي….
– ساله الضابط: ولماذا تضربك وتطردك من بيتك؟
– قال عباس: انها تريد ان تنفرد باحد الجيران في بيتنا ولا ترغب في ان أكون بالبيت حتى لا اضايقها.
استغرق الضابط في الضحك من غرابة الموقف.
– وساله: وماذا تريد.. هل تريد ان نقبض على جارك وزوجتك؟
ظهرت علامات الذعر على وجه عباس.
– وصاح: لا.. ستغضب زوجتي اذا حدث ذلك.. وقد تحرمني من دخول المنزل الى الابد.
– ساله الضابط: اذن ماذا تريد؟
– قال عباس: ان تطلب منها الا تفعل ذلك.
– قال الضابط: لماذا اذن لا تطلقها يا عباس وتستريح؟
– قال عباس: انا احبها.
– قال له الضابط: اذن صارحها وقل لها ان ما تفعليه ليس من الصواب في شيء.. اخبرها انك تحبها.. ولا اظن انها ترضى بالاساءة اليك.
ورغم ان عباس كزة لم يقتنع بهذا الكلام.. الا انه غادر مركز الشرطة وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة.. لكنه عاد ليظهر في اليوم التالي.. وهو يصرخ في وجه كل من يقابله.
قائلاً: ساشتري مسدس.. وساقتله.
سالوه: من الذي سوف تقتله؟
قال عباس: الرجل الذي يتردد على منزلي.
فانصرفوا عنه غير عابئين بتهديده.. فهو مخبول لا يدري ماذا يقول.. لكن سكان المحلة.. روعوا ذات مساء بصوت طلقة نارية تمزق صمت الليل.. وعندما اسرعوا الى مصدرها.. كانت آتية من داخل بيت – عباس كزة – وجدوا رجلاً يرقد على الارض.. غارقاً في دمائه.. وقد لفظ انفاسه الاخيرة.. وعندما حاول بعضهم اسعاف الرجل فوجئوا بصوت في الظلام يقول: لا تتعبوا انفسكم.. فقد مات.. والتفتوا ليجدوا عباس كزة يبرز من الظلام وبيده مسدس.. وسرعان ما حضر رجال شرطة الجعيفر والقوا القبض عليه.. والذي اعترف بجريمته ببساطة شديدة.
– وقال: انا الذي قتلته.. لقد سبق ان شكوت من تردد شخص مجهول على بيتي اثناء غيابي.. انه لا يحق له التسلل هكذا في جنح الظلام الى بيتي.. كنت نائماً وشعرت بمن يفتح باب البيت.. فهرعت الى المسدس الذي اشتريته من سوق الشواكة وصحت فيه فلم يرد فاطلقت النار عليه.. لم اكن اقصد قتله بل كنت اريد تخويفه.. لكن الرصاصة اخترقت راسه فمات.
وبدأ التحقيق مع عباس كزة.. ساله ضابط التحقيق: هل كانت لزوجتك علاقة باشخاص اخرين؟
– قال بأسى: نعم.
– ولماذا لم تحاول الانتقام منهم جميعاً؟
– لم اكن استطيع التصدي للجميع.. وعندما حصلت على المسدس تشجعت.. وحدث ما حدث.
– هل تريد اتخاذ الاجراءات القانونية ضد زوجتك.
– لا..
– لماذا؟
– لاني احبها..!
وقام قاضي التحقيق باستدعاء زوجة عباس.. فجاءت.. صبية في العشرين.. باهرة الحسن.. تبدو من عينيها نظرات حادة أخاذة تنم عن ذكاء شديد.
– سالها القاضي: ما معلوماتك عن الحادث.
– قالت: لا اعرف شيئاً.. فقد كنت نائمة واستيقظت على صوت رصاصة.. اعتقدت ان لصاً تسلل الى البيت.. فصرخت وهرعت لاجد زوجي واقفاً ممسكاً بالمسدس وعلى الارض كان يرقد القتيل.
– الا تعرفين شخصية القتيل؟
– ابداً.
– زوجك يقول ان القتيل كان قادماً اليك في جنح الظلام وانه كان على علاقة غير مشروعة بك؟
– زوجي مخبول.. يقول ما لا يعني او يفهم.
– لقد سبق ان اتهمك بانك على علاقة باخرين؟
– الم اقل لك يا سيدي انه مخبول.. ولا يعرف ماذا يقول!
كانت كل الظواهر تشير الى ان جريمة – عباس – لا تعدو ان تكون حادث دفاع عن الشرف.. لكن ضابط الشرطة كان يخامره احساس غامض بان في الامر شيئاً غير منطقي.. ومضى ضابط التحقيق المكلف بالقضية بالبحث عن شخصية القتيل بواسطة بصماته.. لانه لم يعثر معه على ما يفيد شخصيته الحقيقية.. ولم يتعرف عليه احد من سكان المحلة.. وكان قاضي التحقيق قد قرر حبس –عباس- عدة ايام.. ثم قرر بعدها ارساله الى مستشفى الشماعية للتأكد من سلامة قواه العقلية.. لحين تقديمه الى المحاكمة بتهمة القتل للدفاع عن الشرف.. وترك غياب عباس عن المحلة فراغاً فلم يشاهد يتجول في الشوارع وخلفه الاطفال في مظاهرة كبيرة.. حتى حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان.. اخيراً تمكن ضابط التحقيق من تحديد شخصية القتيل وكانت المفاجاة انه ابن عم زوجة عباس.. وهو مزارع ثري ويملك اراضي زراعية في الحبانية واكدت المعلومات ان القتيل وهو اعزب ليس من ذلك النوع من الرجال الذي يقيم علاقات غرامية محرمة.
ومضى ضابط التحقيق الى قضاء الحبانية ليجمع خيوط القصة.. وفي النهاية تمكن من الحصول على الحقيقة المثيرة.. وكشف غموض الجريمة.. واكتشف ضابط التحقيق ان الجريمة لم ترتكب بسبب مغامرة غرامية للقتيل او علاقة غير مشروعة كانت بينه وبين ابنة عمه زوجة عباس.. وانما هي جريمة قتل مدبرة بعناية وسبق اصرار وترصد.. اكتشف الضابط ان الوريث الوحيد للقتيل هي ابنة عمه زوجة – عباس كزة – وان ذهنها الشيطاني تفتق عن التخطيط لارتكاب الجريمة البشعة كي ترث ثروة واراضي ابن عمها.. ووضعت خطتها مع زوجها المجنون!.. فاتفقت معه على ان يختلق روايات كاذبة عن علاقات مشبوهة بينها وبين بعض الرجال.. وعن عزمه على الانتقام دفاعاً عن شرفه.. ثم أرسلت زوجها الى ابن عمها ليزعم له ان خلافاً حدث بينهما.. ويرجوه الحضور للإصلاح والتوفيق بينهما.. واقتنع المسكين بالقصة الوهمية وسافر ليصلح بين ابنة عمه وزوجها وسقط في الفخ الشيطاني.. وبدلاً من ان يستقبلاه بالترحيب وجد رصاصة الغدر تنتظره فسقط قتيلاً.
تم جلب عباس من مستشفى الشماعية مع تقرير اللجنة الطبية المختصة فتبين انه سالماً لقواه العقلية.. وانه ممثل بارع ويؤدي دوره كرجل مجنون بإتقان..! وأحيل الاثنان الى محكمة جنايات الكرخ وقضت المحكمة بالإشغال الشاقة المؤبدة على الزوجة وعلى عباس كزة.. وهكذا انتهت أسطورة عباس كزة من محلة الذهب.

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here