نجاح السياسة النقدية في دعم الاقتصاد الوطني العراقي

محمد رضا عباس

نظريا , ان السياسة النقدية في بلد مثل العراق يجب ان تكون سياسة مستقلة تماما عن السياسة المالية . السياسة النقدية يقودها محافظ البنك المركزي العراقي , وان كان تعينه من قبل رئيس مجلس الوزراء وبموافقة مجلس النواب , الا ان المحافظ يجب ان يلعب دورا مستقلا عن توجهات الحكومة الاقتصادية , وان وظيفة البنك المركزي تتركز بتحديد سعر الفائدة واستقرار قيمة الدينار العراقي في الأسواق العالمية. بالمقابل , هناك سياسة مالية تقودها الحكومة , او رئيس مجلس الوزراء وظيفتها استقرار او تطوير الاقتصاد الوطني من خلال وظيفتين مهمتين وهما فرض الضرائب و طريقة صرفها .و من خلال هاتين الوظيفتين يستطيع رئيس مجلس الوزراء التحكم بالاقتصاد الوطني. الضرائب , على كل حال, لا تشكل أدوات مهمة في الاقتصاد الوطني العراقي لأنها لا تشكل نسبة كبيرة في ميزانية الدولة , وفي احسن الأحوال لا تشكل الا 5% من حجم ميزانية الدولة وبذلك فان الدولة لا تستطيع الاعتماد عليها كأدوات استقرار او دفع للاقتصاد الوطني مثل الواردات النفطية والتي تشكل ما يقارب 90% من ميزانية الدولة العراقية. من خلال الواردات النفطية تستطيع الدولة التحكم بالاقتصاد الوطني , حيث ان هذه الموارد تعطي الحرية للحكومة الصرف على مشاريعها المختلفة , مثل الطرق العامة , بناء السدود والإصلاح الزراعي , بناء المدارس والمستشفيات , دفع رواتب موظفي الدولة من المدنيين والعسكريين , إضافة الى ان هذه الموارد استخدمت من قبل النظام السابق في حروبه مع الداخل والخارج.
العراقيون مدينون الى البنك المركزي العراق في وقوفه بجانب الحكومة منذ عام 2014 ولحد هذا التاريخ , ولولا تعاون البنك المركزي العراقي مع الحكومة لكان حال الاقتصاد العراقي خلال أعوام انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية لا يختلف كثيرا عن حال الاقتصاد العراقي وقت المقاطعة الاقتصادية العالمية ضد العراق بعد احتلال دولة الكويت . من عاش هذه الفترة التاريخية الغير سعيدة من تاريخ العراق سيتذكر جيدا ان الدولار الأمريكي اصبح يساوي 5000 دينار عراقي , وارتفع التضخم المالي ليصبح ما يساوي 24000% , وهي نسبة تضخم لم يشاهدها بلد سوى المانية في زمن الحرب العالمية الثانية . البنك المركزي العراقي استمر بتمويل الاستيرادات العراقية على الرغم من تراجع الواردات النفطية وتناقص احتياطيه الى حوالي 42 مليار دولار بعد ان كان ما يقارب 80 مليار دولار قبل تراجع أسعار النفط في السوق العالمية.
ان استمرار البنك المركزي العراق بتغطية الاستيرادات وبأسعار تحويل ثابته , انتج عنه حالتين صحيتين وهي توفير ما يحتاجه الاقتصاد الوطني من سلع وخدمات اجنبية والسيطرة على التضخم المالي في البلاد . تصور لو كان هناك خلاف وعدم انسجام بين الحكومة العراقية و محافظ البنك المركزي وامتناع البنك بتمويل الاستيرادات , ماذا سيجري في البلاد ؟ سوف يضطر التاجر العراقي شراء الدولار من السوق السوداء وبأسعار مرتفعة و, بدون شك ستكون هناك شحة في السلع والخدمات وسوف تكون أسعار هذه السلع والخدمات عالية الثمن لا يمكن للفقراء التقرب لها. البنوك المركزية في النظم الديمقراطية تستطيع اسقاط حكومات اذا لم تجري تفاهمات بينها وبين الحكومات , والبنك المركزي العراقي كان باستطاعته اسقاط الحكومة من خلال فرض سياسة وقف الصرف . ولكن البنك المركزي العراق اختار طريق دعم الحكومة ودعم الاقتصاد الوطني من خلال استمراره الالتزام بأسعار تحويل ثابته وتوفير كل ما يحتاجه الاقتصاد الوطني من العملات الأجنبية.
ولكن البنك المركزي لا يستطيع الاستمرار على سياسته الحالية الى ما لا نهاية , وبسبب بسيط ان استمرار تدهور أسعار النفط في الأسواق العالمية واستمرار تعطيل القطاع الزراعي والصناعي والخدمي سوف يفرض ضغوط كبيرة على احتياطي العملة الأجنبية تحت يد البنك المركزي العراقي وان استمرار تقلص احتياطي العملة الأجنبية سوف يؤدي الى عدم استطاعة العراق الإيفاء بالتزاماته المالية تجاه العالم , ارتفاع كبير في معدل الأسعار (تضخم) , وتراجع في الاقتصاد الوطني وارتفاع كبير في عدد العاطلين عن العمل.
ما العمل؟ لا يجوز الاعتماد على قطاع النفط في التنمية الاقتصادية , لان تجارب الشعوب اثبتت بدون شك ان الاعتماد على إيرادات سلعة واحدة سوف يعرض الاقتصاد الوطني الى عدم الاستقرار , تماما كما نلاحظه الان في العراق و بقية الدول المصدرة للنفط. نعم , يجب الاستمرار بإنتاج النفط وبيعه ولكن يجب ان لا يكون المورد الوحيد او الأكبر في الاقتصاد الوطني . القطاع الصناعي والزراعي يجب ان يتحركا لدعم الاقتصاد الوطني بمقدار القطاع النفطي. القطاع النفطي وان يستطيع توفير العملة الصعبة للبلاد , الا انه لا يستطيع توفير فرص عمل للبلاد وذلك بسبب طبيعة هذا القطاع في العراق . قطاع النفطي في العراق يستخدم التكنلوجية في انتاج النفط وان هذه التكنولوجيا لا تحتاج الى يد عاملة ضخمة , بينما تحريك القطاع الصناعي والزراعي يحتاج الى يد عاملة ضخمة . ثم ان عودة العافية الى القطاع الزراعي وقدرته على توفير كل ما يحتاجه العراق من حبوب وفاكهة وخضر سوف يوفر على العراق المليارات من الدولارات وسوف يدعم احتياطي العراق من العملات الصعبة. في مثل هذا الحال لا يحتاج تاجر الحبوب بتحويل دنانيره الى دولارات من اجل دفع كلفة استيراد حبوبه. هذا المثال ينطبق أيضا على القطاع الصناعي , حيث من خلال بعث الحياة الى هذا القطاع يقل الطلب على البضائع المصنعة ويقل بذلك الطالب على العملات الصعبة .على سبيل المثال , عندما تقوم وزارة النفط بتأسيس مشروع انتاج أسطوانات الغاز , فان هذا القرار له منفعتين وهما استخدام الايدي العاملة المحلية وثانيا توفير العملة الصعبة للبلاد . وتصور لو بدء العمل بالمصانع المتوقفة والتي يفوق اعدادها العشرة الاف مصنع , فان العراق سيرفع عن كاهله ثقل رعاية العاطلين عن العمل و تسرب المليارات من الدولارات لبضائع مستوردة من السهولة انتاجها داخل العراق. وهذا ينسحب أيضا على قطاع الخدمات والذي بضمنها قطاع الرعاية الصحية. تصور لو استطاعة وزارة الصحة انشاء معهد متخصص بأمراض القلب او العيون , او العظام . هذا التحرك سوف يخلق فرص عمل لمئات العراقيين , اختصار الوقت والكلفة على المرضى وذويهم , وبقاء العملة الصعبة داخل البلد.
أتمنى ان يستمر التعاون بين البنك المركزي العراق والحكومة الفدرالية من اجل تقدم البلد والذي تخلف كثيرا عن بقية الدول المجاورة والغير مجاورة. كما واعتقد ان الاقتصاد العراقي متوجه نحو التقدم وارقي , حيث ان اخر المعلومات تفيد ارتفاع قيمة الدولار بوجه الدينار بسبب الطلب الكبير على مواد البناء المستوردة . اذا كان هذا هو السبب الحقيقي لارتفاع قيمة الدولار داخليا، فان خروج الاقتصاد العراقي من مرحلة الركود الاقتصادي الحالي ستكون اكيدة , وسيعم خيره على جميع القطاعات الاقتصادية : المقالع , الصناعة , الزراعة , والخدمات .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here