مؤرخة أمريكية تكتب عن : إخـفاقـات السـياسة الـخــارجــية في عـهد عبـد الكريـم قـاســم

د. فيبي مار
ترجمة : مصطفى نعمان أحمد

انعكستْ عزلة قاسم الداخلية انعكاساً واضحاً على الشؤون الخارجية. فقد اتخذت كل من تركيا وإيران، العضوين السابقين في حلف بغداد، موقفاً معادياً جراء نقض قاسم لسياسته تجاههما وتدهورت العلاقات مع إيران، على وجه الخصوص، تدهوراً سريعا، ومع أن الظروف لم تتسبب باندلاع حرب، فانها أنذرت بالصراع الذي اندلع في عام 1980، فسقوط الملكية في العراق، والتحول صوب اليسار لحكومة قاسم، والنفوذ السوفيتي المتزايد في العراق أقلقت الشاه. وساءت الأحداث بعودة البارزاني وإعادة نشاط الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد. وقد أنهى انسحاب العراق من حلف بغداد التعاون تقريباً بين هذه القوى على الجبهة الكردية، ومع مضي الوقت، بدأ الكرد الإيرانيون والعراقيون بالتعاون على امتداد الحدود.

شط العرب
كان شط العرب ميدان الخلاف الأول. ففي تشرين الثاني من عام 1959، تشككت إيران بشرعية اتفاقية عام 1937، التي رسمت الحدود عند أدنى درجات الجزر في الجانب الايراني وأعطت العراق السيطرة على قناة الملاحة. وقد منحت الاتفاقية امتيازين لإيران – إقرار التالوك (الخط الوسطي للقناة) لثمانية كيلومترات حول ميناء عبادان والسماح للمراكب الحربية لأية دولة بالدخول إلى الموانئ الإيرانية عبر النهر. وفي كانون الأول من عام 1959، رد قاسم على إعادة إيران لفتح الخلاف بالغاء الاتفاقية وادعاء السيادة على منطقة المرسى حول عبادان. وردت إيران عندئذ بزعم مضاد يتعلق بمركز القناة عبر شط العرب. وأدت الحوادث الحدودية إلى إيقاف الملاحة في شط العرب في أوائل 1961، ولكن بحلول نيسان من ذلك العام اتفق الجانبان على تسوية خلافاتهما بالتفاوض. تفاقمت مشكلة شط العرب جراء تأكيد قاسم على المصالح العربية في الخليج، وبدأ بالادعاء بعراقية عربستان (الاسم العربي لإقليم خوزستان في إيران) الذي يمتد من ديزفول والأحواز إلى الخليج ويضم أغلبية إيرانية من ذوي أصول عربية. وفي الوقت نفسه، شجعت الحكومة العراقية المزيد من الطلبة الخليجيين على الالتحاق بالجامعات العراقية، وتحول اهتمام الاعلام العراقي إلى قضايا الخليج وكذا اهتمام عدد من الباحثين والمؤلفين العراقيين. وفي عام 1961، صدر قرار عن مجلس الوزراء العراقي بتسمية الخليج رسمياً بالخليج العربي، في سابقة للعراق بوصفه أول دولة عربية تقوم بذلك. وقد أغضبت هذه الاجراءات، ولا سيما الإجراء الأخير، إيران كثيراً. وفي هذه الأثناء كان حلفاء قاسم الطبيعيون في حالة كهذه: المصريون والسوريون، في عداء كامل معه جراء سياسته حيال القوميين العرب العراقيين في الداخل. ومع أن السوفييت قدموا بعض الدعم، فان الغرب كان قد اتخذ موقفاً مضاداً لقاسم – الولايات المتحدة الأمريكية بسبب ميوله اليسارية، والبريطانيون جراء سياسته النفطية. وفي عام 1961، اتخذ قاسم خطوة نهائية في الشؤون الخارجية تسببت بعزلته عزلة تامة. وهذه الخطوة هي قضية الكويت الشهيرة.

قضية الكويت
بدأت الأحداث في حزيران من عام 1961، ففي تبادل للرسائل، اتفقت بريطانيا والكويت على إنهاء الاتفاقية المبرمة عام 1899، التي جعلت من الكويت محمية بريطانية. وأصبحت الكويت الان دولة مستقلة وحين سارعت الدول الأخرى إلى إرسال برقيات تهنئة، أرسل قاسم رسالة غامضة إلى حاكم الكويت ترحب بـإلغاء الاتفاقية من دون ان تتطرق إلى الاستقلال. ولتشكك حاكم الكويت بالأمر، فقد تشاور مع السفير البريطاني للحصول على مساعدة بريطانية إذا اقتضت الضرورة. وفي بيان إذاعي بعد خمسة أيام، في الخامس والعشرين من تموز من عام 1961، صرح قاسم بان الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، قائلاً أن الكويت كانت يوماً منطقة تابعة لولاية البصرة الخاضعة للحكم العثماني. وفضلاً عن ذلك، أعلن قاسم تعيين حاكم الكويت قائممقاماً لها، خاضعاً لسلطة متصرف البصرة. ويعود الخلاف إلى نهاية القرن التاسع عشر، حين كانت الكويت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ولمواجهة النفوذ الالماني المتنامي في الشرق الأوسط، وقع البريطانيون اتفاقية حماية مع الكويت. وعند معرفة الأتراك بالاتفاقية، ردوا بـإعلان الكويت جزءاً من ولاية البصرة وتسمية شيخ الكويت قائممقاماً لها. ويقوم قاسم الان باثارة هذا الادعاء. ومع ان قاسم تطرق إلى عدم نيته استخدام القوة، لكنه لم يستبعد هذا الاحتمال. وراجت شائعات عن وجود تحركات للقوات العراقية على الحدود الكويتية. وعلى أي حال فقد جرى إرسال القوات فعلياً إلى المنطقة المتنازع عليها. وفي واقع الأمر، كان الحل العسكري مستبعداً لأن السواد الأعظم من الجيش العراقي كان يقاتل في الشمال، ويكاد لا يوجد في الجنوب سوى لواء واحد. كانت المضاعفات فورية، فقد طلب الكويتيون الحماية البريطانية، وفي الأول من تموز دخلت القوات البريطانية إلى الكويت. وكان استفزاز قاسم للكويت ودخول القوات البريطانية بسببه عاملاً في تنامي العداء العربي للعراق، فقد قررت الجامعة العربية تجميع قوة عربية تحل محل البريطانيين. وصلت الفرقة الأولى إلى الكويت في أيلول من عام 1961، وفيما عدا المصريين، بقيت القوات العربية حتى عام 1962، حين بدا الخطر يتلاشى. تحولت الأحداث عندئذ إلى الجبهة الدبلوماسية. تقدمت الكويت بطلب إلى الجامعة العربية لقبولها عضواً، وفي العشرين من تموز تم قبول طلبها. لذا أوقف العراق كل أوجه التعاون مع الجامعة العربية، ولم يكتف بهذا الأمر، ففي السادس والعشرين من كانون الأول من عام 1961، أعلن هاشم جواد، وزير خارجية قاسم، أن العراق سيعيد النظر بعلاقاته الدبلوماسية مع أي بلد يعترف بالكويت، ونتيجة لتزايد الاعتراف بدولة الكويت، بدأ العراق باستدعاء السفير تلو السفير، مع أن الكادر الدبلوماسي بقي في الدول المعنية، وخلال عام 1962، ضمت القائمة الطويلة، من بين دول أخرى: الأردن، وتونس، ولبنان، والولايات المتحدة الأمريكية. تسببت قضية الكويت في عزل قاسم عن كل جيرانه العرب، ولم يكسب منها شيئاً. ولم يحل المشكلات الداخلية. وبحلول نهاية عام 1962، لم يكن لقاسم أصدقاء في داخل العراق سوى حزب شيوعي ضعيف ومجموعة من ضباط الجيش، ولم يكن له أصدقاء في الخارج سوى الاتحاد السوفيتي، الذي كان بدوره مستاءً على نحو متزايد من الحرب الكردية ومهتماً بمصر أكثر من اهتمامه بالعراق. والأسوأ، أن الوعد بتحقيق ثورة اجتماعية بدأت في عام 1958 قد تداعى. فالاصلاح الزراعي كان يواجه مشكلة عميقة، والتصنيع لم يحقق تقدماً، وخطط التنمية لم تنفذ، وعوائد النفط أخذت بالتضاؤل. وأصبح واضحاً للجميع أن تغييرا ما ينبغي أن يحدث. وكان السؤال من سيقوم بهذا التغيير؟ ومتى؟

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here