مرة اخرى جدلية الريف والمدينة

مرة اخرى جدلية الريف والمدينة

في اطار الجدل الازلي بين المركز والأطراف او “الريف” و”المدينة” سؤال كبير مسكوت عنه او مؤجل بسبب انعكاسات الخدمات وتراكماته السلبية ناهيك عن ارهاصات الملف الامني واولوياته الملحة جدا، من المسؤول عن تراجع المدنية في العراق..؟
هذا السؤال المثير للجدل ينطلق معظم المتجادلين حوله من مزاجية مفرطة في التعامل مع ظاهرة سلبية اجتاحت العراق منذ بداية الدولة العراقية الحديثة وربما ابعد من ذلك وفي مرحلة ما انعكست سلبا حتى على الحياة السياسية في العراق.

نعم لاينكر احد ان هجرة الريف الى المدينة لها انعكاسات سلبية على الريف نفسه الذي يفقد سكانه الحقيقيين وايديه العاملة وسكانه القادرين على التعايش الفاعل مع تلك البيئة، كما لهذه الهجرة ايضا انعكاسات سلبية على المدينة نفسها، فابن البيئة الريفية سوف يضطر للعيش في بيئة لايعرفها بشكل جيد، وربما يتحول دوره فيها الى دور هامشي جدا. لكن تلك الانعكاسات السلبية لهجرة الاطراف الى المركز لايمكنها على الاطلاق تبرئة هذا التراجع المدني في المدينة ذاتها! وربما يعكس ذلك التراجع المخيف هشاشة المدنية التي تتحلى بها المدينة اساسا، بحيث تنهزم بهذه السهولة امام ايّ موجة من الترييف.
المفترض ان المدينة اكثر عراقة و اكثر سكانا وحركة وفاعلية، ثم فيها طبقة واسعة من المتعلمين، وهي اقرب من الريف الى معرفة الانظمة والقوانين والاعراف والتقاليد الحضرية، فهل يعقل مع تلك المعطيات ان تنهزم بهذه السهولة امام الترييف؟! الريفي يتحمل جزءا من تراجع القيم المدنية في المدينة، ولكن ايضا الجزء الاكبر المشكلة تتحمله المدينة. المدينة التي تسيطر على القرار الاداري وتتحكم حتى في الفضاء الريفي لم تستجب لمتطلبات ذلك الريف وما تحتاجه الحياة الريفية من خدمات.. أوليست تلك نظرة ضيقة من قبل الفاعلين والمؤثرين في المدينة تحملهم جزءا كبيرا من تلك الهجرة السلبية باتجاه المدينة؟! الا يعكس ذلك بساطة في التفكير وتراجعا ثقافيا فكريا في المدينة؟!

هل كانت الشرائح المدنية في اعرق المدن العراقية وخصوصا العاصمة قادرة على استيعاب الطبقات المسحوقة فيها ام كانت طاردة لها بسلوك وخطاب نرجسي…؟! واذا كانت تتعامل بفوقية مفرطة مع الشرائح الفقيرة من سكان المدن الأصليين فهل تمتلك القدرة أساسا على استيعاب القادم من خارج تلك المدن؟

ثم اساسا للريف اعرافه وتقاليده الغارقة في انسانيتها وحسها الاخلاقي الرفيع وفيه من الاعراف والتقاليد الغارقة جدا في قسوتها وظلمها للاخرين، هذه الثنائية ذاتها وبتجليات مختلفة تنطبق على المدينة، فهذه الاخيرة فيها من الرقي والقيم الانسانية والاجتماعية ما لاينكره احد، وفيها من القسوة ايضا ما يعجز حتى القانون من الحد منه. وبالتالي فهناك انتقائية احيانا في توصيف الكيان الريفي بشكل عام على انه شيطان يقف خلف جميع الانحرافات المدينية، فيما الكيان المديني ملاك طاهر يخطّأ فقط حينما يرادوه ذلك الشيطان! من هنا ليس صحيحا التعامل باستعلاء مفرط من قبل ايّ بيئة تجاه البيئة الاخرى، واصدار الاحكام المزاجية والمندفعة التي تبرر لكل طرف تحميل الطرف الاخر مسببات ذلك الواقع المتردي. نحن لانملك ريفا عصريا، ولم نهتم بالريف في يوم من الايام كما ينبغي، كما لانملك مدنا تمتاز بطابع المدنية والحضرية الملهم والمؤثر والمستوعب بمرونة ونضج كافي لاي وافد من خارجها.. لذلك نحن جميعا شعبا ومؤسسات رسمية نتحمل المشكلة بنسب متفاوتة.

جمال الخرسان
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here