سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر (7)

سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر العراقي المناضل عزيز السيد جاسم (7)

د. محسن الموسوي
خاص بالصفحة

كما زَارنا السيد محمد السيد جدوع، فقيه شيوخ المشخاب آل فرعون. قال السيد محمد: ما كان لكما ان تثقا كثيرا بالناس وبهذا الحال. ويعني أننا صدقنا بدولة حرة متقدمة قادرة على النمو والنجاح، ونسينا (قروية)، الحكام ومحدودية الأذهان الطاغية. اتصل بي أبو فرح، وسألني: هل زرت أبا خولة؟ قلت: أين؟ قال: في منزله. وزرته فعلا. وجاء حميد سعيد بأريحيته المعهودة وصدقه الصدوق، يرافقه من ينحرون خروفا في دائرتي، وفي دار أبي خولة احتفاء بذلك. كانت مفاجأة أبي فرح (جلميران) غريبة: فلا أحد يبلغ أحدا، إلاَ إذا جاء الأمر كأنه خبر عابر من خلال المديرية. قال لي العقيد باسل: إذا سألك شخص قل كنت مسافرا. ويبدو أنهم لم يذكروا ذلك لأبي خولة. أخبرني أن مدير الأمن العام استضافه صباحا، وجلس معه باحترام جم. وترك اللقاء انطباعا حسنا في قلب أبي خولة. كما ذكرت، مثل هذه اللقطات الإنسانية التي تظهر من يتحملون مسؤولية ما يتصرفون بأريحية في ظروف مختلفة تلغي ما قبلها في قلب أبي خولة الذي لا يكن ضغينة لأحد، ويرى الدنيا زائلة لا تستدعي كراهية أو حقدا. لكنه يرفض رؤية أناس معينين يراهم مجبولين على الشر، وهو يرفض لقاء هؤلاء، ويتجنب مصادفتهم في الطريق أو في مجتمع ما. قال الوزير، حاول أن تقلل من العلاقة بأبي خولة. قلت له: هل تظنني أراه يوميا؟ قال: ألا يأتيك إلى الدائرة؟ قلت له: لم يأت يوما، ويأنف من زيارة الدوائر والوزارات. وأسعى أسبوعيا لزيارته يوم الجمعة فقط. صمت ثم أضاف: أظنني محتاج إلى أن أصطحب من ينحر خروفا أمام منزله. يبدو أن السيد لطيف نصيف كان يكشف لي عما يوحي أنني وشقيقي نلتقي ونتداول في أمور كثيرة. وهو أمر لم يكن صحيحا. كنت أزور أبا خولة ظهر الجمعة بصحبة ولدي عدنان، وهو لم يزل طفلا صغيرا. كان ذلك يوم البهجة عند أبي خولة: ورغم فقر حاله وعسر اليد، كان السمك يعد في الدار، ويحرم أهل بيته من كثير من الأشياء لتدبير هذا الغداء. كان ذلك يتكرر كل يوم جمعة لحين تعثر ذلك جراء ضغوط رسمية وغيرها، وجراء تأزمي لأمور لم تعد شيئا. كنت كمن يدرك أننا على وشك الافتراق، وأني بحاجة للتدرب على هذه الوحشة، وحشة الافتراق عن أبي خولة. في واحد من تلك الأسابيع، عند يوم الجمعة، وجدت أبا خولة وقد وضع أمامه مجموعة ملونة من أربطة العنق. واستغربت فأبو خولة لا يضع ربطة عنق أبدا. قال وقد رأى الدهشة على وجهي: كان عباس حمادي هنا، وقد زارني. لم أكن عرفت عباسا. لكني سمعت من أبي خولة كيف أن عباسا الذي كان في يوم ما من قادة الحرس القومي في 1963 في الناصرية قد طرد من حزب البعث. وفي عام 1970 سعى أبو خولة عن طريق عبد الخالق السامرائي لإعادة عباس إلى الدولة. ويبدو أنه شغل مكانا ما خارج البلاد. وعاد ليزور أبا خولة بهدايا عديدة. كان يحب عزيزا ويوده. أخبره عباس بكل ما فعله فاضل البراك من الألف إلى الياء. تلك القصة لم تعد مجهولة عند أبي خولة. فقد جعلته المديرية أثناء التحقيق، يستمع إلى التسجيلات الهاتفية، أحدها عندما كان يتحدث مع صديقه أيام الناصرية (أي المدينة) عبد الرزاق رشيد الناصري الذي كان يسأله عن كتابه (علي بن أبي طالب سلطة الحق) وعما إذا كان يبحث عن ناشر عربي، وعما إذا كنت سأعينه في ذلك- وكان عبد الرزاق قد اتصل بي لهذا الغرض، مقترحا ضرورة مساعدة أبي خولة في إيجاد ناشر. ويبدو أن الدكتورة (ح ، س) قد أقنعت عبد الرزاق بمثل هذه الأسئلة عبر الهاتف، بينما كان هناك من يرصد هذه المكالمات لتكوين قضية كادت تودي بحياتنا حينذاك، 1988. كان ذلك التسجيل مصدر ألم لأبي خولة لأن عبد الرزاق صديق عتيق، وجاء به أبو خولة إلى بغداد مع آخرين من أهالي المدينة ليجدوا عملا في المؤسسات الإعلامية والثقافية. قلت له، لربما لم يكن يعي ما يراد وما يدبر. قلت لأبي خولة: أن البراك الذي يبدو أنه جرد من مهنة المخابراتية اتصل بي ليلة خروجي من السجن مهنئا بالسلامة. وأخبرتني الدكتورة (ح، س) أنه بعدما أخذ أبو خولة ثانية، جاءها البراك إلى الدار، وسأل بلهفة عن أخبار أبي خولة. وفي تقديري، أنه أدرك متأخرا أن ما دبره ضدي وما اضطر فيه إلى تأليب التيار الطائفي واليميني في الدولة ضد عزيز قد أدى الآن إلى المكيدة الثانية، أي اعتقال سنة 1991 ومن ثم إعدامه في السجن بعد توقيفه واعتقاله مباشرة. وبعد قرابة خمسة أشهر من بدء الهجوم على العراق سنة 1991، وأبو خولة قيد السجن السري المجهول، دعتني الدكتورة بمعية حميد سعيد لنتناول العشاء في دارها مع الدكتور فاضل البراك. قبلنا الدعوة كل منا لسبب أو لآخر. كنت قد أزمعت ترك العراق ليلة ذلك اللقاء. ولهذا حضرت الدعوة لئلا يكون هناك أدنى شك عن نيتي في الخروج. قلت: يمكن أن أذهب إلى الناصرية لبضعة أيام. كنت قد سعيت مكثفا لمعرفة أخبار أبي خولة، ومكان اعتقاله. لم أترك أحدا أعرفه بدون سؤال. زرت عبد الجبار محسن في داره، وكانت السيدة المهذبة الأديبة زوجته أمل الشرقي قد شجعت ذلك. وقال عبد الجبار: يمكن أن أكتب طلبا. وكتبت ذلك. ثم التقيت به ثانية: وأراني هامشا على الطلب يقول: الأستاذ ليس لدى الجهات الأربع (يعني الأمن والمخابرات والاستخبارات والأمن الخاص). عرفت حينذاك أن الكذب على قدم وساق. لكن حميدا، كما قلت من قبل، استثمر فرصة لقاء صدام حسين بالكتابة عن الحرب، وسأله أمام الملأ عن ضرغام هاشم (وهو صحفي اعتقل بالكتابة ركنا أدبيا بارعا وذكيا رادا على تعليقات وافتتاحيات في جريدة الثورة أو بقلم عبد الجبار محسن تتهم الجنوب العراقي بعجمته أو أصوله الهندية. واتهم أهل الهور بأنهم من مربي الجاموس الذين توارثوها من أجدادهم الذين جاء بهم محمد القاسم من الهند قبل قرون. كان رد صدام على الانتفاضة الشعبية، انتفاضة العامة، داميا استخدمت خلاله الصواريخ دون هوادة، وضربت خلال ذلك النجف وكربلاء والحلة وكركوك والعمارة والبصرة والكوت والديوانية. كتب ضرغام رده وهو يمتلئ بالمرارة. ثم سأله عن أبي خولة: وصديقي؟ أجابه صدام: اتركوه. في اليوم الثاني كنت مع حميد سعيد في مكتبه عندما جاءه مراسل من القصر يحمل مظروفا. فتحه حميد سعيد، ودفعه بجرأة لقراءته. فيه ما يشبه الاعتراف المفترض بخط ضرغام هاشم يقول فيه أنه يشتغل مع منظمة الجهاد الإسلامي. يبدو أن الاعتراف مفبرك مهما يكن كتب حميد سعيد هامشه طالبا أن يؤخذ طبع الشباب ونزواتهم بنظر الاعتبار وبعين الرأفة. لم يرد ذكر لأبي خولة. قال حميد: لا يعني ذلك أنه لم يزل حيا؟ كنت أراهن على أنه لم يزل حيا. فالخوف من موته كان يداهمني، يحاصرني. كنت أخشى ذلك. وبقيت أماطل هذه الخشية لسنوات. والسؤال الذي لم يزل يتكرر بين العارفين والجهلة على حد سواء: لماذا؟ هل لأن أبا خولة تحول إلى التصوف والدين؟ أم لأنه كتب عن آل البيت؟ هل نقل عنه انتقاد؟ هل كتب رسالة لصدام يشكو فيها مما جرى للبلاد والشعب؟ دعوني أقول أن أبا إبراهيم، المهندس محمد فخري، كان يحضر اجتماعات لجنة الإعلام التي تعقد في الملجأ المخصص لوزارة الثقافة والإعلام. تكررت اجتماعات اللجنة. وحضر صدام مرات ومعه ارشد ياسين مرافقا. قال أحد الحاضرين وكان من بين (المثقفين والأدباء): أين هم الذين يعدون أنفسهم أو يحسبهم الناس مفكرين أو ماركسيين؟ أجابهم صدام بعد لحظات: لا تسامح هذه المرة. وفي لقاء أسبق، وقبيل التراجع المزري والفاجع للجيش العراقي، وما قاد له من مأساة جراء ضرب الأمريكان للجيش بالقنابل، كان صدام فرحا جذلا عندما أخبر أن العراقيين دخلوا الخفجي. نظر حواليه لأعضاء اللجنة المذكورة، وقال: هذا العام ستكون العمرة بدون جوازات. ثم أضاف: في ليلة قريبة حضر خالي في الحلم، وهو يحمل قلادة وضعها حول رقبتي، وقال عليك بالجنوب. صدام كان يثق بالأحلام، وبخاله الحاج خير الله طلفاح الذي عرف بين الناس بسلاطة لسانه ونزقه وكفره. وجل الذي جرى كان أيضا من وحي مثل هذه الأحلام والهلوسات التي تتناقض مع المنطقية التي تسود كلامه في أحيان أخرى. وأغلب الظن أنه يشكو ازدواجية شديدة، ازدادت حدة بعد تفاقم الأزمات.

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here