هؤلاء في حياتي (١٥) أبو إبراهيم الناصري.. الأمين على الأموال

هؤلاء في حياتي (١٥)
أبو إبراهيم الناصري.. الأمين على الأموال
سليم الحسني

في شقة الأمين بدمشق، كنا نشترك بتكاليف التسوق والطبخ، وقد قع الاختيار على المرحوم (الشيخ أبو إبراهيم الناصري) ليتولى مهمة الصرفيات الشهرية، فكان يضع المجموع في علبة معدنية يسميها (الصندوق)، وقد كان حريصاً على الصرف، يفرض علينا الأرخص من الأطمعة، وحين نلاطفه بأن يتسامح معنا، يجيب: (هاي فلوس أخوتكم) وتتعالى الضحكات، فنحن الأخوة لا غيرنا. وقد كان يقولها ليس للمزحة، إنما يعيش هذا الشعور العالي بالمسؤولية مع المال، ويشعر بأن هناك غيرنا بحاجة اليه.

في بدايات عام ١٩٨١، زارنا الوجيه المحسن المعروف (الحاج شاكر محسن) رحمه الله والد الصديق العزيز (أبو عامر)، وقد تبرع بصمت الرجل المؤمن الصادق بمبالغ مالية للعوائل العراقية الفقيرة، وللجنة تنظيم سوريا لحزب الدعوة، إضافة الى مبالغ مالية لكل داعية، فتوقعنا أننا سنعيش أياماً من تحسن نوعية الطعام وتنوعه، لكن الأمر لم يتغير مع (الشيخ أبو إبراهيم)، وحين قلنا له عن المساعدة المالية التي قدمها والد (أبو عامر) أجابنا بقوله: (هاي فلوس أخوتكم).
طيب، طيب.. يخدم الآخرين بشعوره ولا شعوره. يفتش عن أماكن الخير ليدخلها، وحين لا يعثر عليها، يستحدث أمراً لفعل الخير.

كان الشباب الصغار من أبرز اهتماماته، فيرعاهم ويساعدهم ويشرف على توجيههم وتربيتهم، ويسعى لتوفير المساعدات للفقراء وما أكثرهم، ويشتري لهم الكتب الإسلامية، ويعقد لهم المحاضرات التربوية والثقافية. ويفعل كل ذلك بصمت وهدوء.

أخبرني الأخ العزيز (الدكتور مصطفى الركابي/أبو سحر) وهو صديق عمره منذ الطفولة، بأنه ذات يوم من عام ١٩٧٩، أقام سفرة لشباب صغار من الناصرية الى النجف الأشرف، وصادف في ذلك اليوم، إجراءات أمنية مشددة، فتم اعتقال مجموعة منهم في سيارة أمن كبيرة، وكان (أبو إبراهيم) على مبعدة منهم، فسارع يركض وراء السيارة صارخاً: (أنا معهم) وبالفعل ركب معهم سيارة الأمن البعثي. وقد فعل ذلك، لأنه شعر بأنه المسؤول عنهم، فكيف ينجو ويتعرضون للتعذيب، فأراد ان ينقذهم ويُعرّض نفسه للاعتقال والتعذيب.

عندما أوكل له حزب الدعوة العمل الاجتماعي في مخيمات المهاجرين في مدينة (آبدنان) النائية المهملة، صار هو الأب للجميع، يرعى الأطفال والعوائل، يسعى طوال الليل والنهار لتوفير ما يحتاجون اليه من مواد غذائية وملابس ومساعدات مالية.

وكان رحمه الله، يزورني في طهران في فترات متباعدة، يقضي يوماً واحداً، يكون هو الأجمل والأكثر مشقة عليّ في نفس الوقت. حيث أقضي معه النهار من أوله في التسوق، يشتري الحاجات المختلفة للأطفال، وينتقي الحلويات للصغار، وحين يتفحصها تنطلق من لسانه كلمات الرحمة الانسانية تلقائياً: (يا يمه شلون راح يفرحون) يقولها هامساً مع نفسه. ويمضي النهار وقد امتلأت سيارتي بالأكياس وصناديق الكرتون، ثم أقله الى الكراج المركزي (تيرمنال جنوب طهران)، فيصعد الحافلة ليمضي أكثر من (١٢) ساعة في رحلة مرهقة، يعيش فيها الراحة التامة لأنه يحمل معه المساعدات وحلويات الأطفال.

حين سقط نظام البعث، عاد الى مدينته الناصرية، عاد اليها بكل طباعه كما تركها أول مرة، وكما عاش في الغربة، بنفس التوجهات الانسانية والطيبة والإخلاص، بل زاد عليها تصميماً في خدمة الفقراء ورعاية الإيتام ومساعدة المحتاجين بأوسع ما يستطيع.
على مقربة خطوة منه، كانت تقف المناصب والمراكز الحكومية، وعلى بعد نصف خطوة، كانت أبواب المال مشرعة أمامه، فصرف وجهه عنها، استهجنها، رأى فيها منظراً بشعاً، وشمّ منها رائحة نتنة، فأدار وجهه صوب الفقراء وبيوت الطين والأقدام الحافية والملابس الرثة والدموع الحائرة.. فيها يجد الجمال بأبهى صوره، ومعها يشم أزكى العطور.

أقسمُ ألف مرة، ويقسم معي من يعرفه أكثر من ألف مرة، بأنه لو فُرضت عليه أي مسؤولية حكومية، لما امتدت يده الى الحرام، كان سيقطعها باليد الأخرى بمجرد أن يسمع وسوسة النفس والشيطان بالخيانة المالية. إنه (أبو إبراهيم الناصري) الأمين على المال بالعمل والتطبيق وبالصمت والسكوت، وليس هو من أمثال فلان وفلان، يتحدثون بالنزاهة والأخلاق ومفاهيم الدين وشعارات الوطن، فيما لا تتعب أيديهم من السرقة، ولا يتحرك فيهم ذرة من غيرة، على تاريخ كبير من التضحيات، شوهوه بافعالهم.

كانوا يسرقون اللقمة من أفواه الفقراء.. وكان أبو إبراهيم يكافح من أجل توفير لقمة صغيرة تعوضهم عن حقهم المسروق.

اسمه (أحمد الشويلي/ الشيخ أبو إبراهيم الناصري) هكذا ورد في الجنسية العراقية وفي الأوساط الاجتماعية، لكن اسمه الصحيح (الداعية الحقيقي).
لقد ساعدت الفقراء طوال حياتك، نحتاج الى نسمة بسيطة من روحك الطيبة.
أبو إبراهيم.. أنا وأخوانك في شقة الأمين، اشتقنا اليك سريعاً.

لإستلام مقالاتي على قناة تليغرام اضغط على الرابط التالي:
https://telegram.me/saleemalhasani

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here