عتاب صاحبي الفلسطيني حقٌ.. ولكنْ!

رشيد الخيّون

لا أظن أن هناك صاحب ضمير حيٍ لم يتضامن، ولو بأضعف الإيمان، مع فلسطين، فالاحتلال أقسى احتلال لأنه سُكاني، لا يؤمل بجلاء عساكره، مثلما جرى الحال مع بقية البلدان والشُّعوب المُحتلة، وبعد الاستيطان التدريجي، جاءت الموجة الكبرى (1948)، وتشكيل دولة إسرائيل، ثم الاستيطان بعد حرب (1967)، ومنذ ذلك اليوم والمستوطنات تبنى، وليس مِن قوة كبرى أو صُغرى توقفها. شعب تشتت على قارات الأرض، والمشتتون صاروا أجداداً، وأجيال بعدها أجيال تتناسل على ذِكرى ظلال الزيتون ورائحة البرتقال، وها هو يحاول البقاء على رمزية القدس بانتفاضة حجارة مقابل أحدث الأسلحة وأفتكها، والتهديد مستمر بمصادرة ما تبقى مِن القدس.

بعد هذه المقدمة الموجزة لقضية تاريخية موجعة، آتي إلى عتاب الصَّديق الفلسطيني إياد بركات المختص في الإنترنت، والمولود بأكناف القدس، والمشارك وهو يافع في انتفاضة الحِجارة الأولى (1987)، ومازالت شظايا الرَّصاص توسم ساقه. كان عتاب إياد منطلقاً مِن حديثي معه عن كتاب «إتحاف الأخصَّا بفضائل المسجد الأقصى» للمنهاجي السَّيوطي (ت880هـ)، والمهدى لي مِن الأديب سمير نقاش (ت2004)، رابطاً بين تذكر مواطنينا اليهود العراقيين يقابله تساهل في التضامن مع القُدس، وكأنه استعظم عليَّ تذكر الصَّداقة مع يهودي عراقي، في ظرف القدس الرَّاهن.

على الرَّغم أن يهود العراق رفضوا ما عُرض عليهم مِن وعد بلفور، وقالوا: «وطننا هذه البلاد، التي عشنا في ربوعها آلاف السنين، وعملنا بها، وتمتعنا بخيراتها. فإذا رأيتم أن تساعدوا هذه البلاد وتحيوا اقتصادياتها وتسندوا تجارتها وماليتها، فإننا نشارك في الرخاء العام» (بصري، ملحق نزهة المشتاق). كذلك شكل يهود عراقيون «عصبة مكافحة الصهيونية»، وجاء فيها:«إن الصُّهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب، وعلى وحدتهم القومية. ونحن إذ نتصدى لمكافحتها علانية وعلى رؤوس الأشهاد، إنما نعمل ذلك لأننا يهود» (منهاجها الداخلي 1946).

كانت حجة صاحبي أن أولاد وأحفاد هؤلاء ذابوا في المجتمع الإسرائيلي، فلماذا يُذكر هذا التَّاريخ، الذي لم يُعد له معنى؟! ونحن نقول: لماذا تُهمل الحقائق، ومَن المسؤول عن وضع هؤلاء بهذا الموقف؟! أليس هم أنفسهم الذين كانوا يدعون الحرص على معاداة إسرائيل، ولم يُحسنوا السِّياسة، حتى جعلوا يهودياً يعيش بقرية عراقية نائية منذ (2500) عام عدواً؟!

ليس عتاب الفلسطيني بمستغرب، لكن لابد مِن مراعاة الظروف الكارثية التي مرت على العراقيين، حتى جعلتهم جهلاً يُحمّلون الفلسطينيين كل جريمة فلسطيني انخرط في صفوف «القاعدة» و«داعش»، ويحمّلون الفلسطينيين القاطنين العراق، وزر سياسات النِّظام السابق، وحصل أن أُذي هؤلاء بعد الغزو(2003)، على أنهم أعداء. كذلك مِن العراقيين مَن يرى أن القضية الفلسطينية بمجملها؛ كانت وراء التفريط بالاستقرار السياسي، فباسمها وتحت رايتها صعد الديكتاتوريون للحكم، وباسمها قوض العهد الملكي(1921-1958)، وكان الأكثر استقراراً بين الأنظمة العراقية، فـإذاعة «صوت العرب» المصرية الموجهة إلى الشعب العراقي كانت تُغلي الجمهور بتحرير فلسطين، بينما الغاية كانت التحشيد ضد العهد الملكي، حتى صُور لنَّا ذلك العهد مجرد عصابة، وباسم فلسطين قُتل عبد الكريم قاسم (1963)، مع أنه المقاتل في (1948)، وأول جيش لتحرير فلسطين (1959) تشكل بأمره (جبهة التحرير الفلسطينية)، قبل منظمة «فتح» وغيرها. بمعنى تضررت القضية الفلسطينية كثيراً بممارسة الأحزاب القومية والحُكام ضد شعوبها، ومازالت القوى الإسلامية ترتكز على قضية فلسطين لإخضاع الشعوب لها، تحت عنوان «قوى الممانعة».

إن مجمل تلك الظُّروف جعلت عراقيين يتساهلون بالتَّضامن مع القدس، بل يتجرأ بعضهم، عبر التَّواصل الاجتماعي، بالدعوة إلى التعاطف مع كيان غاشم كإسرائيل. أما خارج العواطف فما زال القدسيون يتذكرون مدرس العربية الرَّصافي (ت1945)، وتأليفه لكراس الأناشيد المدرسي الذي يُعلم في المدارس (1924)، ومشاركة الشيخ محمد الحُسين كاشف الغطاء (ت1954) في مؤتمر القدس(1935)، وكان قد قدمه مفتيها أمين الحُسيني (ت1974) ليؤم نحو عشرة آلاف مصلٍ (الثَّعالبي، مؤتمر القدس)، وجلهم كانوا مِن أهل السُّنة، وكان موقفاً قاهراً للطائفية حتى يومنا.

ليس أكثر مِن المواقف المتضامنة مِن قِبل مراجع الدين والحكومات العراقية، والشعراء حتى قبل (1948) مع فلسطين، يقول الشَّرقي (ت1964):«يا فلسطين ويا أرض الجدود/أنت أمجاد وبعث ونشور/حرثنا في عهد عادٍ وثمود/فرع أشجارك منا والجذور«(الدّيوان 1947). وللجواهري (ت1997):«ناشدتكِ الله والظلماءُ مطبقةٌ/على فلسطين أن تُهدي لها قبسا» (تموز 1948)، هذا غيض مِن فيض ما قاله شعراء العراق.

لصاحبي الحق بالعتاب على العراقيين، لكن عذرهم بما أفسد المشاعر التي تحلى بها يهودهم وشعراؤهم مِن قَبل، عتاب قد يوقظ المشاعر الكامنة، ولابن الجهم (قُتل249هــ):»أعاتب ذا المودّة من صديق/إذا ما رابني منه اجتناب/إذا ذهب العِتاب فليس ودٌّ /ويبقى الودّ ما بقي العتاب»(ابن عبد البرِّ، بهجة المجالس).

الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here