الخرف وما إقترف!!

القراءة المتأنية التحليلية العلمية النفسية الموضوعية للتأريخ تُظهر أن البشرية قد وقعت ضحية للقائد الخَرِف في أمم متعددة , مما تسبب بدمارات متوالية ومتعاقبة عبر الأجيال.
فالخرف عاهة تصيب البشر عندما يتجاوز عمرا معينا , إذ يفقد قدرات العقل السليم , وتتحكم به النوازع والتفاعلات الآنية مع المواقف والتحديات , التي لايستطيع تقديرها وتقييمها والتعامل معها على ضوء التفكير الواعي الحكيم.
فالخَرِفُ يتحول إلى آلة تصوير شمسية قديمة تعكس ما حولها وحسب , ولا يمكنها أن تستوعب أبعد من ذلك , ولا تجد فيها إلا ورقة سوداء متفاعلة مع الضوء المتصل بها.
وفي التأريخ البشري يتم إضفاء هالات متنوعة على القادة وإخراجهم من أفق البشرية , والتعامل معهم على أنهم آلهة أو موجودات مقدسة لا يجوز النظر فيما تقوله وتفعله , وبسبب ذلك يصابون بالخرف ومَن حولهم لا يشعرون , ويتصرفون على ضوء ما يؤمرون , والقادة لا يدركون ما يقولونه ويفعلونه , مما يترتب على ذلك نتائج خطيرة ومروعة.
والأمثلة عديدة ومتراكمة في جميع الأمم المجتمعات , ذلك عندما يُنظر للأحداث والتطورات والتداعيات الحاصلة في الواقع البشري , يتبين أنها من نتائج أولئك الخرفون المطوّقون بالقدسية والقيادة الجبروتية , بل أن بعضهم كان مصابا بأمراض أخرى بدنية ونفسية وعقلية , لكن الهالة التي تسوّرهم تمنع الآخرين من النظر السليم إلى أوضاعهم العقلية والسلوكية , خصوصا عندما يكون الخوف والرعب مهيمنا ومدمرا لكل شكاك أو متسائل عما يحصل , لأنه يُحسب عدوانا وتعارضا مع إرادة الكرسي العظيم.
وفي المجتمعات التي يكتسب فيها القائد أو الحاكم السلطة المطلقة ويكون فوق القانون ولا يعترف بالدستور , فهو الذي يحررهما ويمسحهما أنى يشاء ووفقا لما تقتضيه رغباته وتوجهاته الخفية والعلنية , يكون من المستحيل إثارة الموضوع أو القول بأن الحاكم مريض وعليه أن يتنحى عن السلطة , لأن ذلك إتهام خطير يؤدي إلى القضاء على الشخص الذي تجرأ وقال بذلك.
فالمجتمعات التي يسود فيها الخوف من السلطان والرعب من أعوانه وحاشيته , تكون ضحية للعديد من الحكام الخرفين والمصابين بالأمراض العقلية والنفسية , وهم في غفلة عنهم وخوف شديد منهم.
وتأريخنا ربما فيه الشواهد على سلوك الخرف الذي أصاب الأمة بمقتل , وما شعرت الأجيال بما حصل وتحسبه ما تحسبه , وتغفل بأن للخرف دور كبير في الأحداث المريرة التي حصلت في مسيرتها.
وما دام السلطان يبقى على كرسي الحكم حتى الموت , فأن الخرف سيداهمه عندما يمتد به العمر إلى ما بعد السبعين , وإن أخطأ الخرف البعض فأنه لا يخطئ الجميع فنسبته معروفة بين الناس وكلما تقدم العمر إزدادت النسبة.
ولهذا تستوجب القراءة المنصفة للتأريخ أخذ هذه العلة وغيرها من العلل بنظر الإعتبار , ومقارنة أعراضها وعلاماتها بما كان يقوم به السلطان ويتخذه من قرارات ويأتي به من تصورات.
وستبقى قراءة التأريخ ناقصة وغير صادقة إذا أهملنا دور العلل العقلية والنفسية في وقائعه وأحداثه المريرة.

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here