لغتنا، ولغة الصمت ! (*)

لغتنا العربية ولغة الصمت ! (*) بقلم د. رضا العطار

ضحكت كثيرا عندما روي لي صديق لي من كلية الاداب في جامعة القاهرة، جانبا من مشاهداته الغريبة عندما زار مؤخرا مدينة كلكتا بالهند، للاشتراك في دورة دراسية
قال : عندما ذهبنت الى كلية الاداب هناك، شاهدت في المدخل منظرا اثار دهشتي فقد كان هناك رجل يجلس على الباب الخارجي في هدوء تام وسكون مطلق، كأنه تمثال اصم، لا يضع على جسده من الثياب الا ما كاد يستره. القيت عليه تحية الصباح، لكنه لم يرد، ثم سألته عن رئيس القسم فلم يُجيب. فتركته وشأنه ودخلت حيث التقيت ببعض الاساتذة وعرفتهم بنفسي. وعندما طلبت منهم مقابلة رئيس القسم، أخبرني القوم انه هو ذلك الرجل الذي يجلس بالباب الخارجي فصعقت، وعندما اخبرتهم انني حييته فلم يرد، افهموني انه لم يكن في استطاعته ان يتحدث، لانه صائم عن الكلام منذ ثلاثة اشهر، بغية التأمل !

اطرقت صامتا استرجع المغزى العميق الذي يستهدفه هذا الفيلسوف الهندي من صومه الطويل هذا وتذكرت قول الفيلسوف الالماني الشهير شوبنهاور ( من راي ان مقدار الضوضاء الذي يمكن للأنسان ان يتحمله دون ان يثيره، يتناسب تناسبا عكسيا مع مقدرته العقلية، فيمكننا بهذا ان نتخذ الضوضاء مقياسا للكفاءة بالغا في الدقة .. فالضوضاء تعذب روح كل من يعمل بعقله من الناس ) وشعرت في الحال اننا في مجتمعاتنا العربية احوج ما نكون الى هذه اللغة.

نعم، اننا في حاجة ماسة الى الصوم عن الكلام او الاقلال منه، حتى نتمكن من العمل، بل خُيل اليّ اننا ينبغي ان نعوّد اطفالنا ونحن نعلمهم اللغة ان يكفوا عن الكلام بين الحين والحين، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه: فاما ان يتكلم او ان يصغي، اما ان يثرثر او يعمل، اما ان يتحدث او ينتج ! ولهذا كان مقياس الرجل المتحضر – كما قال شوبنهاور بحق – عدم قدرته على تحمل الضجيج. والجلبة والاصوات المرتفعة !
فقد كانت المجتمعات المتخلفة هي التي تحتشد فيها اصوات السيارات مع صراخ الناس مع الاذاعات، مسموعة ومرئية. اما المجتمع المنتج فهو الذي يقلّ فيه الصوت المرتفع وتكاد تتلاشى الجلبة والضوضاء ليحل محلها الفعل والعمل والانتاج.
لهذا اتخذ الفلاسفة منذ قديم الزمان من طائر البوم رمزا للحكمة، لأن هذا الطائر لا يعيش إلا في الاماكن المعزولة، بعيدة عن الضوضاء، يجد في صمته، راحة البال.

(*) مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه امام عبد الفتاح امام.

اوفي هذا السياق يتذكر كاتب السطور زيارته لليابان عام 1978 بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي لطب العيون هناك فيقول: اخذت قطار (الطلقة) من طوكيو الى العاصمة القديمة كيوتو. وقد ازدحم القطار بالمسافرين لدرجة اضطررت انا وزوجتي الوقوف طيلة ندة السفر، وقد وقف الى جانبي شخصان، ملاصقين لي، يتحدثان مع بعضهما بلغة (حركة الشفاه)، فكنت من وقت لاخر اسيغ السمع لالتقاط لفظة واحدة لكن دون جدوى.

وصلنا قاعة المؤتمرات الكبرى وكانت مكتظة بحوالي خمسة آلاف طبيب عيون حضروا من معظم دول العالم، ثم ظهر الملك وهو ابن الامبراطور (إلاله) هيرو هيتوا، ، وافتتح المؤتمر بكلمة قصيرة حيا فيها الضيوف. وبعد الانتهاء من المراسيم،
اقيم للمؤتمرين حفلة كوكتيل كبرى في حدائق شاسعة غناء، تزينها اجمل احواض الزهور، تخترقها نهيرات تحوي على اسماك نادرة، زاهية الالوان، وفوق الهضاب الخضراء من حولنا، كانت الموسيقى اليابانية تصدح متناغمة مع رقصة الثعابين التقليدية تحت زرقة السماء الصافية. كانت مئات الفتيات الصغيرات، يقمن بتقديم اطباق الطعام واخريات بحفظ النظافة – – – انها كانت حقا ساعات حلوة مرًت عبر العمر، التقطت خلالها الصور التذكارية، كان للوفد العراقي منها نصيب.

وفي حينها اعلن ان الصور ستكون جاهزة للبيع بعد ساعة. حضرت في الوقت والمكان المحدد، ودفعت الى البائعة ثمن الصور التي ابتغيها، وهي بدورها طلبت مني تزويدها بعنوان اقامتي ورقم الغرفة، ثم قالت لي : ان الصور ستكون جاهزة في غرفتك في تمام الساعة السابعة من هذا المساء. لكن عندما اخبرتها اني تارك الغرفة في السابعة، بدأ البعض من حولي يتململ، ينظر احدهم للاخر وبدوا يضحكون، مما اثار فضولي – – فسألتها عن سبب تضاحكهم، فقالت وهي خجلى : حضرتك تكرمت بأضحاكنا، – – وكيف ؟ ، قالت : لأنك كررت نطق كلمة السابعة، وهي في العادة تنطق عندنا مرة واحدة. وقد علمت فيما بعد ان تكرار الكلمة في اليابان يُعدُ من النكت الشعبية، تدخل ضمن نطاق الوقت الضائع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here