في الذكرى الواحدة والسبعين لميلاد الحزب …. اصالة النهج ومواصلة البناء

احمد ناصر الفيلي
الحزب الديمقراطي الكوردستاني ، هوية نضالية لشعب كوردستان وعنوان انتصاراته التاريخية ، التي انبثقت منها ضرورات التحول والمبادرة ، تلك المبادرة التي ارست اسس النجاح والتقدم المنشود نحو حقوقه في الحياة والوجود ، وصنعت الثمار التي جناها ويجنيها اليوم على اكثر من مستوى وصعيد، محليا ، واقليميا ، ودوليا ، وبالشكل الذي اثار حفيظة المجتمع الدولي ، الذي بات يتساءل ويدعو الى تصحيح آثار ومخلفات صنع الخرائط ، التي جاءت بها نتائج الحروب الكونية وتداعياتها ، والحقت الضيم بأمم وشعوب ومنهم الكورد ، الذين لا يمكن النظر بواقع استراتيجيات الشرقين الادنى والاوسط من دونهم او مشاركتهم حاضراً ومستقبلا .
ان الحزب غدا منذ ظهوره الدعامة الاساسية في المجابهات والمعارك والمفاوضات التي خاضها الكورد ويخوضونها ، لانه يستلهم طريقه من تطلعات الجماهير الكوردستانية العريضة وآمالها في الغد المشرق ، ان التجارب الغزيرة وتراثه النضالي العريق جعله مدرسة الشعب الكوردستاني التاريخية الحية ورمز رهاناته المستقبلية . قدم على الدوام ويقدم ملاكات وكوادر كفوءة ومخلصة تعطي طاقة الحركة والفعل مدتّ وتمد المشوار النضالي للكورد وكفاحهم بوسائل النهضة ومستلزمات المجابهة.
تاريخياً يعّد الحزب استمراراً طبيعياً لحركة التحرر الكوردستانية ومستودع ذخيرتها النضالية وتتويجا لدروس تجاربها في انتصاراتها وانتكاساتها .
عرف في الاوساط الشعبية بـ (البارتي) وهي مفردة لغوية كوردية تعني اصطلاحاً الحزب. دشنت ولادته التاريخية عهداً جديداً تميز عن باقي المراحل الكفاحية السابقة ، بالقدرة على الاستمرار وانتزاع المبادرة بخط سياسي واضح الاهداف والملامح خلقت مداً جماهيراً واسعاً ، عدتّ مرحلة يقظة قومية واعية ومتميزة ، وضعت فاصلة تاريخية بينها وبين ما سبقها من مراحل ، إذ استطاع عن طريق حراكه إدارة الكفاح الكوردي بخط سياسي وكفاحي واع ، كانت له اثاره ليس على صعيد كوردستان فحسب وانما على عموم الحركة الوطنية العراقية.
تأسس الحزب على قاعدة جماهيرية عريضة كان قوامها الاتحاد الطوعي للأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية ، التي ظهرت على مساحة الفعل السياسي عام 1946 ولهذا الاتحاد مضمونه التاريخي والنضالي ، الذي يتمثل بانتقال التراث النضالي لهذه المجموعات المناضلة الى الحزب ، ما يشكل رصانة في بنائه وتعزيزاً في قدراته. تبلور الحزب وخطه السياسي بوساطة تلاحم ماضي التاريخ النضالي القريب لمختلف الاحزاب والجمعيات والشخصيات السياسية المناضلة بأدوات الحاضر، لتؤسس المستقبل الذي أتت ثماره بعد رحلة مخاض وكفاح مريرين امتدت لعقود طويلة.
اكتسبت المنطلقات النظرية والفكرية ، المزيد من النضوج بوساطة التجربة والعمل ، اذ تمتد الجذور الفكرية للأحزاب والحركات والشخصيات الوطنية الى مختلف الانتفاضات والثورات الكوردستانية الحديثة ، وهي كثيرة بدأت طلائعها مع الهزيع الاخير للقرن التاسع عشر، منذ عهد البدرخانيين العظام ، وثورة الشيخ الجليل عبيد الله النهري (1880-1881) ، مروراً بالنهضة الثقافية باصدار صحيفة كوردستان عام 1898 بمبادرة من احد المثقفين من اسرة بدرخان، والى انتفاضات بدايات القرن العشرين حتى الحرب الكونية الاولى ، وتغذت ايضاً من ثورات ملك كوردستان المغفور له الشيخ محمود الحفيد ، فضلا عن ثورات بارزان الباسلة منذ عهد عبد السلام البارزاني حتى ثورة بارزان (1941-1945) التي قادها البارزاني الخالد وبلا شك فان الميراث النضالي كان كبيراً وشاسعاً.
كان ميلاد الحزب لحظة التحام تاريخية يقظة اشبه بجبهة سياسية وطنية عريضة ، حازت روحية العمل الجبهوي التي حافظ عليها الحزب حتى اليوم ، واضافها الى اجندته السياسية المتجددة المفعمة بالاستقلالية الفكرية، والقدرة في الاصلاح الذاتي ومجاراة التطور على مختلف الصعد ، وهي ما اكسبت نهجه في الواقعية والاعتدال على طول الخط. ومن منطلقاته الفكرية وتراثه النضالي ، طرح الحزب على مر تاريخه افكاراً وبرامج شكلت عمقاً لاستراتيجية عمله وكشفت عن قراءته الواعية لمسار الواقع والاحداث. فقد طرح الحزب على الصعيد النضالي الكوردستاني شعاره (الحكم الذاتي لكوردستان والديمقراطية للعراق) ، كاشفاً التلازم الموضوعي لحركة حقوق الشعب الكوردية واهمية اشاعة الديمقراطية في البلاد عبر نظام ديمقراطي يضمن حقوق الجميع ، وتحولت الفكرة على يديه بطرحها على البرلمان الكوردستاني عام 1992 الى الحل الفيدرالي واقامة الكيان الفيدرالي الكوردستاني ، بل اصبحت فكرة الفيدرالية فكرة عراقية يكفلها الدستور مع ضرورة بناء نظام ديمقراطي فيدرالي.
احتلت الديمقراطية حجر زاوية في منهاجه وممارسته ، وبناءً عليها طرحت فكرة اشاعة الديمقراطية في صفوف الحزب خاصة والحركة الكوردستانية عامة ، ولا يزال يرى ان اهم ما تحتاجه الاحزاب الكوردستانية والعراقية هو اشاعة الديمقراطية في صفوفها وفي تعاملها مع الشعب ونبذ اساليب العنف والاكراه .
قاد الحزب ثورة 11 ايلول عام 1961 المجيدة ، التي استطاعت تجسيد تجربة نضالية فريدة ، مزجت بين المواجهة والبناء ، فيدٌ كان الحزب بها يقاتل ، واخرى تحاول بناء اسس الحياة في مناطق الثورة ، وانتزعت الثورة الاعتراف بحقوق الشعب الكوردستاني من اعتى الانظمة التي عرفها العراق والمنطقة. اهتم الحزب بنظم الادارة الكوردية بعد عام 1991 مستفيداً من خبراته في المشاركة في الحكم منذ مرحلة السبعينيات ، واستطاع في مدة وجيزة اقامة إنموذج جيد اشادت به الصحافة العالمية وتقارير الامم المتحدة ، كما اصبح الاقليم مرتكز توازن محلياً واقليمياً.
رسخ الحزب نهج التعددية وقبول الآخر ومارسها عملياً ، اذ دخل في صيغ جبهوية وتحالفات وائتلافات وطنية متعددة وطرح فكرة التعددية والاعتراف بالآخر في آب 1976، ودعا الى تشكيل جبهة كوردستانية وجبهة عراقية من فصائل المعارضة وحققها بالتعاون مع الاحزاب الاخرى عام 1981. وشهدت الاعوام التي تلت انبثاق الجبهة الكوردستانية العراقية في ايار عام 1988 ، التي اوصلت الكفاح الكوردستاني الى انتفاضة عام 1991 وانتخاب اول برلمان كوردستاني ، وتشييد صرح اول حكومة في الاقليم ، فضلا عن اسهاماته الجادة في مؤتمرات المعارضة العراقية ، وصياغة تحالفاتها المتعددة منذ السبعينيات حتى سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003.
ولإيمانه بالنهج السلمي وضروراته في التقدم والبناء ، بادر الى الاستجابة لجميع المحاولات السلمية وطرح بدوره مبادرات سلمية ، سواء ، ما تعلق منها بالبيت الكوردستاني والحركة الكوردستانية ، ام بالحكومات العراقية انطلاقاً من اهمية الاستقرار ودور روح التسامح في بناء النسيج المجتمعي . طرح الحزب بأشكال متعددة فكرة السلام الاهلي على اساس المصالحة الوطنية ومارسها في عدة مراحل وصاغها الرئيس بارزاني عام 1989 ، ثم عادها بعد سقوط النظام لتكون خطوة في مصالحة وطنية عراقية شاملة تحقق السلام الاهلي وتحرر طاقات الشعب للبناء ومواجهة الصعاب والتحديات ، وعلى الطريق نفسه احتضنت العاصمة اربيل مؤتمر المصالحة والسلام على 2004 بحضور شخصيات سياسية وثقافية واجتماعية من مختلف محافظات العراق.
طرح الرئيس بارزاني الفكرة على مجلس الحكم حينها ، الذي قرر تبنيها وتشكيل لجنة عليا لمتابعتها وانتقلت فكرة المصالحة الى برنامج الحكومة الانتقالية والحكومات الوطنية التي تلتها. لكن الفكرة مع الاسف لم يُهتم لها كما ينبغي. اذ لو تم انضاج الفكرة بشكل جدي لكان الواقع العراقي قد تمخض عن حلول اكثر واقعية مما جرى عليه الان ولكان الوضع مختلفاً. ويحتضن الاقليم اليوم ، وعلى مر السنوات الماضية اعداداً مليونية من النازحين والهاربين من بطش الارهاب ، ليجدوا على اديم ارض اقليم كوردستان الملاذ والاستقرار والامان ، وقد اكد الرئيس البارزاني ان هؤلاء اشقاؤنا ويجب مساعدتهم والوقوف معهم في محنتهم . وفيما يخوض الاقليم حرباً ضروساً ضد الارهاب الداعشي الاسود ، الذي كسرت شوكته ببسالة وبطولات البيشمركة الابطال ، حين وقفوا سداً منيعاً بوجه امتداده والحقوا به الخسائر التي قصمت ظهره ، ومهدت لتحطيم قوته وشلها بشكل نال اعجاب العالم الحر الذي اشاد بدورهم البطولي، وعند مقارعتهم الارهاب نيابة عنه . وهي بلا شك من المنجزات الكبيرة. لكن مما يؤسف له ان كل تلك المجابهات والانتصارات توالت ، فيما الحكومة الاتحادية لا تزال تتجاهل حقوق ومستحقات الشعب الكوردستاني عامة والبيشمركة خاصة ، وقد بادرت دول صديقة لتقديم صنوف من المساعدة للبيشمركة وتعزف الحكومة الاتحادية عن ذلك ، فضلا عن اشكال عدم الالتزام بالدستور والتوافقات التي تأسست عليها مجمل العملية السياسية ، ومحاولات الهيمنة على مفاصل الدولة ، والسعي الى اعادة تجديد الدولة المركزية برغم انهار الدماء الزكية التي اريقت لازاحتها عن وجه البلاد .
حرص الحزب على نجاح التجربة الديمقراطية وقدم الكثير في هذا المجال على الاصعدة كافة، وحاول بشتى السبل ان يكون الحوار الوطني العميق والجاد طريقاً لتذليل الصعاب وتقارب وجهات النظر بما يؤسس لشراكة تدعم التجربة الديمقراطية الجديدة ، لكن النزعات والميول السلطوية وكوارث حكومة الثمان سنوات جعلت تلك الجهود في مهب الريح من دون حساب العواقب الوطنية. يتجه الشعب الكوردستاني (بعد ان استشف من تجاربه المديدة ان الحكومة الاتحادية لا تريده شريكا في البلاد) الى تقرير مصيره في ايلول المقبل ، ويرى في هذا طريقا آخر لحل المشكلات بعيدا عن العنف لان استمرار الحكومة الاتحادية على تلك النهوج ، ما كانت تؤدي سوى الى المزيد من الاحتقان ، وهو ما يضر بعموم الشعب العراقي وبمستقبله .
ان الاستفتاء سيدشن عهدا جديدا يمكن للمنطقة ان تعيش في ظل مناخ قائم على التعايش واحترام مصالح شعوب المنطقة وتقاربها . والاستفتاء ليس طريقا موجها ضد احد ، انه حق من حقوق الشعب الكوردستاني بعد ان وصلت الامور مع الاخوة في بغداد الى طريق مسدود .
في الذكرى الواحدة والسبعين لميلاد البارتي نؤكد منهجه الديمقراطي ورسالته في دعم التعايش السلمي بين الشعوب واحترام مصالحها ، ومواصلة دحر الارهاب وقبره الى الابد من اجل حياة افضل لعموم شعوب المعمورة، ومواصلة البناء برغم كل اشكال التحديات والكفاح من اجل غد اكثر اشراقا لكل الجماهير الكوردستانية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here