طبيعة السيطرة التنظيمية للشريك الحكومي على العمليات الإنتاجية في عقود جولات التراخيص النفطية

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي
*: المقدمة:
على الرغم من مرور ثمان سنوات على إبرام العراق لعقود خدمة نفطية مع شركات النفط الدولية، إلا أن مساحة وعمق الجدل الأكاديمي والمهني الدائر حولها آخذة بالتزايد. يتوزع الجدل المعني بالأساس على مسارات سياسية واقتصادية وإيديولوجية، ستنشئها العمليات النفطية الجارية في الأمدين المنظور والبعيد المدى لتنفيذ هذه العقود، بينما غابت عنه تماما طبيعة وتداعيات المسار التنظيمي الداخلي لإدارة العمليات النفطية الجارية بموجب أحكامها. لقد أمّنت أحكام عقود جولات التراخيص النفطية لشركاتنا النفطية الوطنية دور الشريك التنظيمي الحكومي لائتلافات الشركات النفطية الدولية، بينما واقع حال هذه الأحكام في الممارسة العملية لإدارة العمليات النفطية ينفي هذا الدور، أو يجعله في أحسن الفروض دورا تنظيميا هامشيا، أو كما أسماه أحد الباحثين بحق دور “الشريك النائم”.
لقد طرحنا فكرة فقدان العراق لسيطرته التنظيمية الوطنية على العمليات النفطية الجارية بموجب عقدي جولتي التراخيص النفطية الأولى (عقد حقل الرميلة النفطي) والثانية (عقد حقل الحلفاية النفطي) في مؤتمر كلية الإدارة والاقتصاد/جامعة البصرة في آذار/مارس 2017، وهنا نحاول إشراك باحثي وقراء “شبكة الاقتصاديين العراقيين” الكرام بمناقشة الفرضية العلمية الآتية: “يفضي نمط العقد المختار (عقد الخدمة النفطية) في جولات التراخيص النفطية إلى تهميش الدور التنظيمي لشركاتنا النفطية، وفقدانها السيطرة التنظيمية الوطنية على إدارة العمليات النفطية الجارية بموجب أحكامه”، مع التأكيد هنا على استبعاد الجانبين الإيديولوجي والسياسي، في العقد وحول العقد، من التحليل.
تمت تجزئة البحث إلى ثلاثة أجزاء، يختص كل جزء منها بأطروحته العلمية الخاصة به ولكن في إطار الأطروحة المركزية للبحث نفسه والمعلنة في فرضيته العلمية الأولية. يتناول الجزء الأول شروط الاختيار التنظيمي لنمط العقد النفطي بمنهجية التحليل المقارن، بينما يختص الجزء الثاني بمؤشرات السيطرة التنظيمية للشريك الحكومي في العقد النفطي، أما الجزء الثالث من البحث فسيرصد طبيعة الدور التنظيمي للشريك الحكومي في العقد النفطي، فضلا عن إيراد استنتاجات وتوصيات البحث ومصادره العلمية.
الجزء الأول: شروط الاختيار التنظيمي المقارن لنمط العقد النفطي
يرتبط مفهوم “الدور التنظيمي” Organizational Role لشخوص الإدارة بالآليات التنظيمية Organizational Mechanisms، التي يجري بموجبها امتلاك واستخدام السلطة الإدارية في الفعل التنظيمي لإدارة نشاط منظمات الأعمال (أنظر تفصيل ذلك في: الكعبي، 2014: 346- 352). ويعدّ مفهوم “الاختيار التنظيمي” Organizational Choice، نموذجا سلوكيا لعملية يجرى بموجبها تكوين الهياكل التنظيمية، المجسّدة للآليات التنظيمية المعنية لممارسة الدور التنظيمي، كنتيجة لجهود واعية وهادفة من قبل المسيّرين فيها (أنظر تفصيل ذلك في: الكعبي، 2014: 271-290).
عادة ما يرتبط مفهوم الاختيار التنظيمي بالقرارات التنظيمية الإستراتيجية، والتي ينظر إليها بمثابة عملية تنظيمية احتمالية، تابعة لمستوى وعي الاختيار لدى المسيّر (الإداري) عند اختياره أحد البدائل التنظيمية الممكنة المتاحة أمامه لاتخاذ وتحقيق قراره الإستراتيجي، وهذا البديل في التحليل الأخير ما هو إلا آلية تنظيمية لردة فعله على ضغوط عوامل البيئة المحيطة بنشاط منظمة الأعمال، وأيضا تقييماته الشخصية لمصالح الشخوص التنظيمية فيها، كما حصل لفريق وزارة النفط العراقية إبان تفاوضه مع شركات النفط الدولية حول نمط وأحكام عقود جولات التراخيص النفطية. ومادامت ردة فعل وتقييمات الفريق الوطني المفاوض على ضغط عوامل البيئة المحيطة تقع في أساس اختيار الإستراتيجية المناسبة، وهي هنا إستراتيجية تطوير قطاع استخراج النفط بالتعاون مع شركات النفط الدولية على قاعدة نمط “عقد الخدمة النفطية”، عندها ستصبح ردة الفعل والتقييمات المعنية احتمالية أيضا، الأمر الذي يعني وجود احتمالين متاحين للفريق المفاوض لاتخاذ وتحقيق هذه الإستراتيجية:
الاحتمال الأول، ردة فعل تنظيمية متكيّفة، بمعنى اتخاذ وتحقيق إستراتيجية تضمن إحداث تغييرات هيكلية متواضعة في أطر الخبرة التنظيمية والتكنولوجيا السائدة في قطاع الاستخراج النفطي الوطني عبر استخدام هذه الأطر، التي تمتلكها الشركات النفطية الدولية، مع حضور تنظيمي شكلي لشركات النفط الوطنية في إدارة العمليات النفطية، كما في تجربة عقود جولات التراخيص النفطية الحالية في العراق؛
الاحتمال الثاني، ردة فعل تنظيمية إبداعية، بمعنى اتخاذ وتحقيق إستراتيجية تضمن إحداث تغييرات هيكلية كبيرة وعميقة تتخطى أطر الخبرة التنظيمية والتكنولوجيا السائدة في قطاع الاستخراج النفطي الوطني، باتجاه اكتساب مقومات الأطر المعنية، التي تمتلكها الشركات النفطية الدولية، مع حضور تنظيمي فاعل لشركات النفط الوطنية في إدارة العمليات النفطية، كما في التجارب الناجحة لهذا الاحتمال في النرويج وروسيا الاتحادية والمملكة المتحدة وغيرها من البلدان المستخرجة للنفط الخام والغاز الطبيعي.
وحسب قناعة عالم الإدارة الشهير Simon H.، حينما يصطدم الناس في حياتهم بمشكلة احتمالات الاختيار، فإنهم لا يستطيعون التعامل بنجاح كبير مع الواقع (عوامل البيئة المحيطة بنشاط منظمات الأعمال) بكل تجلياته وتعقيداته، الأمر الذي يضطرهم إلى اللجوء نحو نموذج مبسط للتعامل مع مشكلة الاختيار التنظيمي، وتقسيم تبعات هذا الاختيار إلى ثلاثة أجزاء (أنظر تفصيل ذلك في: لفته، 2004: 257-258):
التبعات المنشودة أو التي يراد التهرب منها، والقيّم الايجابية والسلبية، المراد مقارنتها عند تقييم النتائج؛
التبعات التي لا يكترث متخذ القرار نسبيا بها، سواء تحققت أم لا؛
التبعات البديلة التي ينبغي تجنبها، المرتبطة بتكاليف الاختيار التنظيمي.
إن الاختلاف بين الأشكال الثلاثة المذكورة في أعلاه لتبعات الاختيار التنظيمي هو اختلاف ذاتي، لأن عملية تقييمها خاضعة لمنظومة القيّم التي يسترشد بها صاحب هذا الاختيار. بيد أن الاختلاف هذا موجود في العملية الواقعية لاتخاذ القرارات الإستراتيجية، وهذه الحقيقة تجعل من اختلاف تبعات الاختيار التنظيمي مسألة جوهرية في فهم العملية الواقعية لإدارة منظمات الأعمال الكبيرة والمعقدة. على سبيل المثال، استبعد الفريق الوطني المفاوض من خياراته التنظيمية الأنماط الحديثة من العقود النفطية، مثل عقود المشاركة والامتياز، بسبب كون منظومة القيّم، كما نعتقد، التي استرشد بها الفريق الوطني المفاوض، تعدّ عقود المشاركة والامتياز عقودا منتهكة لمفهوم “السيادة الوطنية” في امتلاك وإدارة مواردنا النفطية.
من زاوية نظر أخرى، يشغل معيار التحالف المهيمن بين الشخوص التنظيمية داخل المنظمة (في مثالنا الشريك الحكومي وشركات النفط الدولية) مكانا بارزا في عملية الاختيار التنظيمي، إذ أن علاقات القوة والهيمنة في المنظمة (كما هو حال امتلاك ائتلاف الشركات النفطية الأجنبية 95% لحصة سيطرة تنظيمية من مجموع حصص المقاول في العقد النفطي بعد تعديله) تؤثر مباشرة على نمط ومسار الاختيار التنظيمي الإستراتيجي، بغرض تحقيق التغييرات التنظيمية المنشودة. وكما يرى أحد الباحثين (السالم، 2005: 214): “إن معرفة الهيكل السياسي للتنظيم، ومعرفة الأفراد ذوي القوة والنفوذ داخل المنظمة، والآراء الخاصة ببعض الأفراد ذوي القوة والنفوذ، وثقافة المنظمة بصفة عامة تعدّ من الأمور الهامة عند القيام بالاختيار الإستراتيجي. حيث أن مثل هذه المعرفة تضمن أن يكون هذا الاختيار أكثر واقعية، وأكثر قبولا من كل الأطراف التي تعمل في المنظمة”.
في إدارة صناعة استخراج النفط والغاز، لا يجري اختيار هذا النمط التنظيمي أو ذاك من أنظمة الإدارة المعروفة في هذه الصناعة، من دون معرفة الظروف المختلفة التي صاحبت هذا الاختيار أو حتى فرضه، كخيار تنظيمي إستراتيجي وحيد لإدارتها في هذا البلد المنتج للنفط أو ذاك. في مثال النرويج، يمكن لنا رصد الظروف الآتية، التي ساعدت الحكومة النرويجية في اختيارها التنظيمي لإستراتيجية تطوير صناعتها النفطية على قاعدة عقد “الامتياز النفطي الحديث” (أنظر تفصيل ذلك في: القاسم، 2010):
جرى اختيار النمط التنظيمي في ظروف بدايات تأسيس صناعتها النفطية الوطنية، وتطلب الأمر من النرويج أكثر من عشر سنوات لبلورة المكوّن التنظيمي لإدارة العمليات النفطية فيها، من خلال المراسيم والأنظمة في البداية، ومن ثم التشريع القانوني.
لم تكن النرويج، وقت بلورة خيارها التنظيمي، واقعة تحت ضغط “الحاجة الاقتصادية والمالية” للريع النفطي، بغرض تنمية وتطوير اقتصادها الوطني، فقد كان اقتصادها متطورا صناعيا، ومتسما بتوازن وتنوع هيكله، والمستوى العالي لوتائر نموه وتطوره.
كانت النرويج، ومازالت لغاية الآن، تتمتع باستقرار سياسي واجتماعي كبير ودائم، ولم يحدث النمط التنظيمي المختار لإدارة صناعة استخراج النفط فيها أي خلافات إيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية بين قواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة.
ومن المنطقي تماما، من زاويتي نظر سياسية واقتصادية، أن يثار بهذا الصدد التساؤل الآتي: إن الظروف الثلاثة، المشار إليها في أعلاه، تقود إلى ترجيح اختيار النمط التنظيمي القائم على “الاستثمار الوطني المباشر”، أو بدرجة أقل النمط التنظيمي القائم على أحكام “عقد الخدمة النفطية”، بديلا عن نمط “عقد الامتياز النفطي الحديث”، الذي تم تبنيه في النرويج لإدارة صناعتها الاستخراجية النفطية الفتية أوائل سبعينات القرن المنصرم.
من زاوية النظر السياسية، يضمن خيار الجهد الاستثماري الوطني المباشر و/أو طلب المساعدة الفنية من شركات النفط الدولية لاستغلال الموارد النفطية الوطنية تحقيق مبدأ “السيادة التنظيمية الوطنية”، وتحقيق هذا المبدأ بدوره سيضمن لحكومة البلد المنتج الوصول إلى “الشرعية السياسية” و”القبول الاجتماعي” أمام شعبها، وبالنتيجة فهو خيار تنظيمي “مربح سياسيا”، ولا يتضمن “تكاليف مؤسساتية سياسية” من أي نوع كان للقوة أو القوى السياسة الحاكمة. أما من وجهة النظر الاقتصادية، فخيار استخدام الجهد الاستثماري الوطني المباشر، وربما بمساعدة فنية خارجية، في بناء وتطوير الصناعة النفطية سيضمن للدولة المنتجة الاستحواذ الكامل على الريع النفطي لهذه الصناعة، بمعنى تحقيق مبدأ “الاستقلال الاقتصادي” في قطاع استخراج النفط والغاز، وتحقيق هذا المبدأ بدوره سيضمن لحكومة البلد المنتج تحقيق عوامل النمو والتطوير، وبالنتيجة فهو خيار تنظيمي “مربح اقتصاديا”، ولا يتضمن “تكاليف مؤسساتية اقتصادية” من أي نوع كان للقوة أو القوى السياسة الحاكمة، ربما باستثناء تدبير كلفة الأموال الاستثمارية عند الانطلاق والخبرة الفنية اللازمة.
بيد أن النرويج في السبعينات، ومن ثم المملكة المتحدة في الثمانينات، وروسيا الاتحادية في نهاية التسعينات من القرن الماضي، لم تستخدم قط المنطق المؤسساتي المشار إليه قبل قليل، بشقيه السياسي والاقتصادي، لتبرير اختيارها للنمط التنظيمي القائم على أحكام عقد الامتياز النفطي في نسخته الحديثة، والمتضمن الشروط التنظيمية العامة لعقد “المجازفة المشتركة” Joint Venture. في حالة النرويج مثلا، كانت الحكومة تنظر للصناعة النفطية وقت بدايات التأسيس بكونها صناعة “معولمة تنظيميا”، وما دامت هذه الصناعة تتسم بهذه الصفة الفريدة لنشاطها، فمن المنطقي تماما أن تأخذ زاويتي النظر السياسية والاقتصادية في اختيار النمط التنظيمي لإدارتها صفة العولمة أيضا، بمعنى النظر إلى عملية الاختيار التنظيمي لإستراتيجية التطوير بمفاهيم “السياسة المعولمة” و”الاقتصاد المعولم” و”التكنولوجيا المعولمة” و”التنظيم المعولم”، وليس بمفاهيم “السياسة المحلية” و”الاقتصاد المحلي” و”التكنولوجيا المحلية” و”التنظيم المحلي”.
في العراق، وبنهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حسمت الحكومة العراقية خيارها التنظيمي في تطوير صناعتها الاستخراجية النفطية لصالح “عقد الخدمة النفطية”. وكما هو حال أي اختيار آخر من بدائل متعددة، جرى اختيار النمط التنظيمي لعقد الخدمة النفطية في العراق تحت تأثير وبفعل الظروف المختلفة الآتية:
لم يأت اختيار نمط “عقد الخدمة النفطية”، من قبل الفريق الوطني المفاوض في جولات التراخيص النفطية، بغرض التأسيس التنظيمي لولادة صناعة استخراجية نفطية وطنية جديدة، وإنما جاء الاختيار لتنظيم إدارة صناعة استخراج نفطي قائمة وناشطة منذ نهاية عشرينات القرن المنصرم. من الناحية التنظيمية، هذا يعني أن الاختيار المعني جاء، ونحن نفترض ذلك، بعد قيام الفريق الوطني المفاوض بتحليل مقارن شامل للأنماط التنظيمية السابقة على نمط “عقد الخدمة النفطية” في إدارة الصناعة النفطية الوطنية. منذ بداية صناعة النفط في العراق ولغاية تأميمها، كان يجري تنظيم نشاطها بأحكام “عقد الامتياز النفطي التقليدي” الممنوح لشركات النفط الدولية، ومنذ تأميمها ولغاية إبرام عقود جولات التراخيص النفطية في نهاية العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين جرى تنظيمها من خلال نمط “الاستثمار الوطني المباشر”، مع بعض مساعدة فنية أجنبية. لقد رجحت الحكومة العراقية، على ضوء نتائج التحليل المقارن الشامل الذي افترضنا وقوعه، خيار تنظيم صناعة استخراج النفط على قاعدة نمط “عقد الخدمة النفطية”، على النمطين النقيضين: نمط “عقد الامتياز النفطي التقليدي” ونمط “الاستثمار الوطني المباشر”. ولكن المشكلة المؤسساتية في هذا الاختيار، وعلى خلاف النرويج والبلدان الأخرى، تكمن في إخفاق الحكومة العراقية أولا، بتكوين بيئة مؤسساتية تشريعية حاكمة للشكل التنظيمي المختار، إذ جرى اعتماد وتنفيذ عقد الخدمة النفطية من دون وجود ضوابط قانونية للاعتماد والتنفيذ في أرض الواقع؛ وثانيا، بصياغة بنود العقد على نحو مؤسساتي تنظيمي يضمن سيطرتها التنظيمية الكاملة على العمليات النفطية.
إن غياب البيئة المؤسساتية التشريعية والتنظيمية من تنظيم عمليات تطوير صناعة استخراج النفط، على الرغم من وجود بيئة مؤسساتية دستورية ملائمة لهذا الأمر، سيضع النمط التنظيمي المختار في دائرة فقدان التوجه الإستراتيجي لإدارة عمليات التطوير المستهدفة، وربما سيفضي تنفيذه إلى النتائج نفسها التي أفضت عنها نتائج تطبيق عقد الامتياز النفطي التقليدي والاستثمار الوطني المباشر السابقة عليه، ويأتي في مقدمتها إنتاج الريع النفطي، وعدم فاعلية إدارة عمليات التطوير النفطي، واغتراب نشاط القطاع النفطي عن بيئته الاقتصادية المحلية، ووقوع إدارة عملياته النفطية في دائرة الفساد الإداري والسياسي.
في التجربة النرويجية، لم تكن الدولة واقعة تحت ضغط “الحاجة الاقتصادية” للعوائد النقدية لتصدير النفط الخام والغاز الطبيعي وراء اختيارها نمط تنظيم صناعتها النفطية الوطنية، وإنما كانت واقعة تحت ضغط حاجة أخرى يمكن لنا تسميتها باسم “الحاجة التنظيمية” لربط اقتصادها المحلي بالاقتصاد الدولي، عبر إدماج مواردها النفطية عضويا بدائرة النفوذ والإمكانات والفرص والتهديدات، التي توفرها صناعة النفط الدولية. هذه الحاجة التنظيمية لم تكن متوفرة للعراق وقت ترجيح خياراته التنظيمية لصالح عقد الخدمة النفطية في تطوير صناعته الاستخراجية النفطية، لأن نمط الامتياز النفطي التقليدي كان قد سلب العراق سيادته التنظيمية الوطنية على موارده النفطية وأوقع اقتصاده الوطني في شراك إنتاج واستهلاك الريع النفطي، بينما نمط الاستثمار الوطني المباشر قد أنتزع السيادة التنظيمية على هذه الموارد من يد الشركات النفطية الأجنبية، ولكن وضعها في يد “شخص الحاكم” وقتها، لتكون ملكا سياديا له ولحزبه ولأصدقائه من الأفراد والشركات والدول، وهو الأمر الذي قاد إلى تعميق الصفة الريعية للاقتصاد العراقي. وبالنتيجة، جاء الاختيار التنظيمي لنمط عقد الخدمة النفطية في جولات التراخيص تحت وقّع ضربات مطرقة “الحاجة الاقتصادية” للدولة من زاويتين اقتصاديتين متداخلتين مع بعضهما البعض: الأولى، زاوية الحاجة إلى الاستثمارات والتكنولوجيا والخبرة التنظيمية لشركات النفط الدولية لتطوير الصناعة النفطية الوطنية؛ والثانية، زاوية الحاجة إلى استخدام العائدات النقدية لتصدير النفط الخام في تلبية الحاجات المعاشية للناس، وضمان متطلبات عمل أجهزة السلطة الحكومية وأمن البلاد وغيرها أيضا.
جرى اختيار نمط عقد الخدمة النفطية بعد سنوات قليلة من تغيير سياسي ودستوري عاصف في البلاد، حدث بنتيجة غزو واحتلال عسكري أجنبي خارجي، وما صاحبه من اضطراب وعدم استقرار سياسي وأمني كبيرين، يعاني العراق من تداعياتها حتى اللحظة الراهنة. لم يحظ اختيار الحكومة لهذا النمط من العقود التنظيمية بموافقة وتأييد الكثير من القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في البلاد، كما واختلف الخبراء النفطيون والاقتصاديون العراقيون بشأن قدرته وفاعليته في تطوير صناعة النفط الوطنية، وكذلك بشأن النتائج التي ستتمخض عن تطبيقه في أرض الواقع. إن عدم حصول عقد الخدمة النفطية على وفاق سياسي واجتماعي عام، لم يكن مرده اختلاف المواقف الإيديولوجية للقوى السياسية والاجتماعية في تفضيلاتها التنظيمية ما بين أنماط تنظيم صناعة النفط الرئيسة (الاستثمار الوطني المباشر، الامتياز النفطي، المشاركة بالإنتاج، الخدمة الفنية، وغيرها) فحسب، وهو أمر طبيعي ومتوقع، ولكن الخلاف كان يدور أيضا حول تفسيراتها لمواد دستور عام 2005، الحاكمة والناظمة دستوريا لعمليات تنظيم استغلال موارد البلاد النفطية، مثل ملكية الثروة النفطية، وشخوص وموضوعات إدارتها الإستراتيجية والعملياتية، وخيار منفعة الشعب العراقي القصوى من استغلالها وتطويرها وغيرها من الأحكام الدستورية بهذا الشأن. وبالنتيجة، قاد عدم الوفاق السياسي والاجتماعي حول المواد الدستورية ذات الصلة بتنظيم استغلال الموارد النفطية إلى الفشل في تشريع قانون دستوري منظّم للعمليات النفطية في البلاد. وتحت ضغط الحاجة الاقتصادية، لم يكن أمام الحكومة حينها، كما يبدو، متسعا من الوقت لانتظار حصول الوفاق المعني، وحسمت أمرها في جولات التراخيص النفطية لصالح عقد الخدمة النفطية، كبديل تنظيمي وسط ما بين البدائل التنظيمية الأخرى الآتية:
عقد الامتياز النفطي التقليدي، وهو بديل تنظيمي مرفوض سياسيا واجتماعيا ويتعارض مع أحكام الدستور النافذ.
عقد الامتياز النفطي الحديث (كما في تجربة النرويج وروسيا الاتحادية مثلا)، وهو أيضا بديل تنظيمي مرفوض سياسيا ويتعارض مع أحكام الدستور، وتفتقد الحكومة فيه المقومات الاقتصادية والتكنولوجية والخبرات التنظيمية المطلوبة لتحقيقه في الممارسة العملية.
عقد المشاركة بالإنتاج، وهو أيضا بديل تنظيمي مرفوض سياسيا ويتعارض مع أحكام الدستور النافذ، وتفتقد الحكومة فيه المقومات الاقتصادية والتكنولوجية والخبرات التنظيمية المطلوبة للمشاركة العادلة والفاعلة في العمليات النفطية.
عقد الاستثمار الوطني المباشر، وهو بديل تنظيمي يفتقد من حيث المبدأ لمقومات نجاحه الاقتصادية والتكنولوجية والتنظيمية، وقد فشلت تماما تجربة تطبيقه على مدى أكثر من أربعين سنة.

الجزء الثاني: مؤشرات السيطرة التنظيمية للشريك الحكومي في العقد النفطي
شغلت أطروحة “السيطرة التنظيمية” للعراق على شروط إدارة موارده النفطية، ركنا بارزا في السجال السياسي والعلمي الدائر حول جولات التراخيص النفطية وعقودها المبرمة مع شركات النفط الدولية عام 2009، على اعتبار أن “عقد الخدمة النفطية” يوفر قدرا مطلقا من “السيطرة” التنظيمية الوطنية، ويشغل حالة تنظيمية وسطية بين عقدي “الامتياز” و”المشاركة” من جهة، وحالة “الاستثمار الوطني المباشر” من جهة أخرى. سنتفحص هذه الأطروحة النظرية من زاوية المكوّن التنظيمي في عقدي المكامن النفطية المطورة والمنتجة للنفط (عقد حقل الرميلة) والمكامن النفطية غير المطورة وغير المنتجة للنفط (عقد حقل الحلفاية) من عقود جولات التراخيص النفطية.
يعّد مفهوم السيطرة التنظيمية Control Organizational على شروط عدم التأكد في النشاط الإداري لمنظمات الأعمال من المفاهيم التنظيمية الشائعة الاستخدام في نظرية المنظمة المعاصرة، حيث يصف شروط وحالات وطبيعة الوصول الى السلطة الإدارية الفعلية في المنظمة (أنظر تفصيل ذلك في: الكعبي، 2014: 189- 195). في النص الانجليزي لعقد حقل الرميلة، يرد مفهوم “السيطرة” بمثابة نظير لمفهوم “Control”، ولكن ليس بمعنى وظيفة “الرقابة” الإدارية المعروفة، وإنما بمعنى التحكم أو الهيمنة، أو كما أسماها النص العربي للعقد، بمفهوم “السيطرة”، والذي نعتمده في هذا البحث، على النحو الآتي: “السيطرة تعني القدرة على فرض وتوجيه سياسة شركة ما بشكل مباشر أو غير مباشر، على أكثر من خمسين بالمائة (50%) من أسهم أو حقوق التصويت لهذه الشركة” (الفقرة 3 من المادة 1)، بينما في عقد الحلفاية يرد المفهوم المعني على النحو الآتي: “السيطرة تعني الصلاحية لإملاء وتنفيذ سياسة الشركة عبر السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على أكثر من (50%) خمسين بالمائة من الأسهم أو حقوق التصويت في هذه الشركة” (الفقرة 2 من المادة 1). تجدر الإشارة إلى أن مواد العقدين لم تشر إلى وجود نص عربي لهما معتمد.
في الممارسة العملية لإدارة العمليات النفطية بموجب عقود جولات التراخيص النفطية، يمتلك ائتلاف الشركات الأجنبية حصة مقدارها (75%) من عدد أعضاء “لجنة الإدارة المشتركة” في عقد حقل الرميلة، والنسبة نفسها من عدد أعضاء “مجلس الإدارة” في عقد حقل الحلفاية، والحصة المتبقية (25%) من نصيب الشريك الحكومي في العقدين، قبل تخفيض الحصة الأخيرة إلى (5%). وباستخدام التعريف المعطى لمفهوم “السيطرة” في العقدين، يمتلك ائتلاف الشركات الأجنبية القدرة والصلاحية لإملاء وتنفيذ سيطرة تنظيمية رسمية كاملة (100%) في إدارة العمليات النفطية بموجب هذين العقدين. بكلمات أخرى، يدور مفهوم “السيطرة” في العقد حول مؤشر كمي واحد هو “الرأسمال” في مظهرين تنظيميين مختلفين: الأول، مظهر عدد الأسهم (وهذا المظهر يجري تحقيقه عند التصويت في اجتماعات الجمعية العمومية للشركة المساهمة. بيد أن عقد الخدمة النفطية لا يؤسس لقيام شركة مساهمة لإدارة العمليات النفطية)؛ الثاني، مظهر حقوق التصويت (وهذا المظهر يجري تحقيقه عند التصويت في اجتماعات “لجنة الإدارة المشتركة” و”مجلس الإدارة”.
ولأغراض هذا البحث، يعني مفهوم السيطرة التنظيمية في نشاط مختلف أنواع المنظمات قدرة الشخص التنظيمي، أو جماعة العمل، أو التقسيم التنظيمي، أو المنظمة نفسها على تخفيض مستوى عدم التأكد في دائرة العلاقات التنظيمية الداخلية والعلاقات بين منظمات الأعمال في البيئة الخارجية لنشاطها، وضمان السيطرة في الوقت عينه على دائرة علاقات العمل والأفعال التنظيمية المتبادلة للمشاركين في إطاره. هذا يعني، كاستنتاج، أن كل شخص تنظيمي أو جماعة عمل أو تقسيم تنظيمي يمتلك قدرا معينا من السلطة الإدارية الفعلية في المنظمة، بيد أن السلطة الإدارية الفعلية ستوجد في قبضة من باستطاعته السيطرة التنظيمية بفاعلية على الدوائر المهمة من النشاط الوظيفي، المتسمة بشروط عدم التأكد العالية. هذا الاستنتاج أكثر اتساعا ولا يتقاطع أو يتعارض، من ناحية الجوهر Substance، مع التعريفين المعطيين لمفهوم “السيطرة” في العقدين المذكورين. هل يمكن تعميم هذا الاستنتاج التنظيمي النظري على الشركات النفطية (الأجنبية والوطنية) الناشطة وظيفيا في إدارة العمليات النفطية ضمن أحكام عقود جولات التراخيص النفطية؟
في إدارة منظمات الأعمال، ومنها شركات النفط الكبيرة المتكاملة تنظيميا، تكتسب دوائر النشاط التنظيمي الواقعة في المنطقة العازلة Puffer Zone (على سبيل المثال أقسام المبيعات، المشتريات، التسويق، العلاقات العامة)، إمكانية السيطرة التنظيمية الكاملة على النشاط في شروط حالة عدم التأكد العالية في البيئة الخارجية للمنظمة المعنية، وبالتالي إمكانية الحصول على سلطة إدارية فعلية لتقرير نوع ومسارات القرارات الإدارية المتخذة بهذا الشأن في البيئة الداخلية لهذه المنظمة، مقارنة بالنشاط الوظيفي للنواة التقنية Technical Core، أي في دائرة العمليات الإنتاجية والتكنولوجية لنشاطها الوظيفي (أنظر تفصيل ذلك في: الكعبي، 2017: 442 – 445).
وعلى وفق هذا المنطق للسلوك التنظيمي داخل منظمات الأعمال الكبيرة، يفترض بالشريك الحكومي في عقد حقل الرميلة مثلا، وهو “شركة تسويق النفط العراقية” (SOMO)، أن يكون “سيّدا!” تنظيميا لنشاط المنطقة العازلة في تقرير اتجاهات ومضامين القرارات الإدارية في النشاط الوظيفي لحقل الرميلة النفطي، مقارنة بمشاركي النشاط الآخرين كشركة نفط الجنوب العراقية (SOC)، وشركة BP البريطانية، وشركة Petrochina الصينية. ولكن هذه “السيادة التنظيمية” لا أساس لها من الوجود الفعلي، وهي وإن تطابقت مع النموذج النظري في تفسير السلوك التنظيمي للمشاركين في النشاط الوظيفي (الشخوص والتقسيمات التنظيمية)، إلا أن “السيادة” المعنية ستكون من نصيب دائرة الإنتاج والتكنولوجيا في السيطرة التنظيمية على شروط عدم التأكد المصاحبة لنشاط الاستخراج النفطي ضمن عقود الخدمة النفطية مع الشركات الأجنبية. وكمثال عن ذلك، عندما قرر الطرف الحكومي المشارك في عقد حقل الرميلة (شركة نفط الجنوب) تخفيض مستويات الإنتاج (بسبب ظروف عدم التأكد العالية في سوق النفط الدولية في عام 2014)، جرت عملية تنظيمية كبيرة لتعديل العقد النفطي باتجاه تخفيض حصة الشريك الحكومي (شركة تسويق النفط العراقية) من 25% إلى 5%، وإلغاء “معامل الاسترداد R. Factor” في احتساب أجور ربحية الشركات الأجنبية، وتعليق تطبيق “معامل الأداء Performance Factor”، وغيرها من الترتيبات التنظيمية. والأمر نفسه حصل في عقد الحلفاية مع الشريك الحكومي في العقد (شركة نفط الجنوب).
وبالنتيجة، أصبح “المكوّن التنظيمي” لأحكام عقد الخدمة النفطية في عقود جولات التراخيص النفطية العراقية عائقا جديا كبيرا أمام سيطرة الطرف والشريك الحكوميين في العقد النفطي على طبيعة وشروط إدارة إنتاج الموارد النفطية الوطنية، ذلك أن عطب المكوّن التنظيمي لهذه العقود يتجسد في أمرين على أقل تقدير: الأول، الحضور التنظيمي الشكلي للشريك الحكومي بالتوازي مع حضور تنظيمي فاعل للمقاول الرئيسي في العقد؛ الثاني، إلزام الطرف الحكومي في العقد بدفع ثمن تنظيمي باهظ لقاء تحقيق السيطرة التنظيمية في أرض الواقع، إذا ما رغب في تعديل بعض أحكام هذه العقود (أحكام المادة 12 من عقدي الرميلة والحلفاية مثلا). يمكن لنا التأكيد بثقة عالية، على أنه لولا وجود أمريّ عطب المكوّن التنظيمي للعقود النفطية المذكورة في أعلاه، لما رغبت شركات النفط الدولية بإبرامها مع الحكومة العراقية.
ولكن هل تستحق رغبة الطرف والشريك الحكوميين في الحصول على سيطرة تنظيمية كبيرة دفع هذا الثمن التنظيمي الفادح؟ وبما أن هذا البحث يستبعد الجانبين السياسي والإيديولوجي من التحليل، كما ذكرنا في مقدمته، فسيكون الجواب عندها نعم يستحق ذلك بكل تأكيد، لأن “الحاجة الاقتصادية” للحكومة العراقية وقتها وقواعد “اللعبة التنظيمية” داخل منظمات الأعمال الكبيرة والمعقدة تشترط دفع هذا الثمن مقابل ضمان “التوازن التنظيمي” و”التوافق التنظيمي” لنشاط المنظمات الكبيرة والمعقدة مثل شركات النفط الدولية (أنظر تفسير هذه المفاهيم في: الكعبي، 2014: 246 – 271).
سنحاول التفتيش عن مظاهر السيطرة التنظيمية الوطنية على نشاط إدارة العمليات النفطية في دائرة العلاقات التنظيمية بين المشاركين في النشاط المذكور (الشركات النفطية الوطنية والشركات النفطية الأجنبية)، ضمن أحكام عقد الخدمة النفطية نفسه. لهذا الغرض، سنختار مواد العقد الآتية، والتي نعتقد أن لها صلة تنظيمية قريبة بمفهوم السيطرة التنظيمية، الذي نبحثه هنا: “المساهمة”، “الشراكة”، و”المشاركة”.
أولا. مساهمة الطرف الحكومي في عقد الخدمة النفطية:
تأتي مساهمة الطرف الحكومي في عقد الخدمة النفطية تحت تسمية “المساعدة التي تقدمها شركة نفط الجنوب” في عقد حقل الرميلة، وتحت تسمية “المساعدة التي تقدمها شركة نفط ميسان” في عقد حقل الحلفاية، من المادة (7) في كلا العقدين. تتشابه أوجه ومجالات “المساعدة Assistance” التي تقدمها كلا الشركتين للمقاول والمشغل في العقد لتسهيل قيامهما بتنفيذ العمليات النفطية في “منطقة العقد”. تشتمل مساعدة الطرف الحكومي للمقاول في عقد الخدمة النفطية على المجالات الآتية (باختصار شديد من أحكام المادة 7 لعقد حقل الرميلة النفطي، وأحكام المادة 7 أيضا لعقد حقل الحلفاية النفطي):
تزويد المقاول بالبيانات الفنية المتاحة.
ضمان أن منطقة العقد تكون خالية من الألغام ومن أي مطالبات من قبل أطراف ثالثة.
توفير الحماية الكافية من خلال القوات العراقية المسلحة ضمن منطقة العقد.
المساعدة في تأمين سمات الدخول أو تصاريح العمل لموظفي المقاول والمشغل.
تمكين المقاول والمشغل مجانا من الدخول إلى منطقة العقد.
إن مجالات المساعدة، المذكورة في أعلاه، التي يقدمها الطرف الحكومي للمقاول والمشغل في عقد الخدمة النفطية المبرم بينهما، تعدّ مجالات وواجبات عمل سيادية لأجهزة وسلطات الحكومة المضيفة، ولا يمكن، من الناحية التنظيمية، عدّها “مساهمات تنظيمية” يقدمها الطرف الحكومي في العقد بنفسه لتنفيذ العمليات النفطية. يشير أحد الباحثين (العطار، إحسان إبراهيم، 2016) إلى أن المصادر الأجنبية لتعاقدات المشروعات تطلق تسمية “الشريك النائم” Sleeping Partner على الشريك الحكومي في عقود الخدمة النفطية، وهو فعلا شريك نائم تنظيميا.
وكما هو واضح من مضمون مجالات المساعدة، إن مساهمة الطرف الحكومي تقتصر فقط على استخدام نفوذه كمؤسسة حكومية لتسهيل إجراء العمليات النفطية، وليس لتنفيذها كشخص تنظيمي في العقد. إن الفارق بين الحالتين أعلاه، حالة تسهيل إجراء العمليات النفطية وحالة تنفيذ العمليات النفطية، تكمن في أن الحالة الأولى تقع خارج الحدود التنظيمية والإنتاجية والتكنولوجية للعمليات النفطية، بينما الحالة الثانية تقع داخل الحدود التنظيمية والإنتاجية والتكنولوجية لهذه العمليات. وبالنتيجة، تفتقد المساعدة التي يقدمها الطرف الحكومي في العقدين للقواعد ولآليات والأدوات المؤسساتية التنظيمية، والتي تشكل بمجموعها مع الحقوق المؤسساتية، ما أسميناه في هذا البحث بمفهوم “المكوّن التنظيمي” لعقد الخدمة النفطية في العراق بموجب جولات التراخيص النفطية.

ثانيا. الشراكة Partnership في عقد الخدمة النفطية:
جاءت موضوعة “الشراكة” بين الشركات النفطية الدولية والشركات النفطية الوطنية كأطراف في العقد (في مثالنا شركة نفط الجنوب في عقد حقل الرميلة، وشركة نفط ميسان في عقد حقل الحلفاية) في المادة (24) من النص العربي للعقدين، وكذلك في النص الانجليزي لعقد حقل الرميلة، التي عنوانها: “الشراكة والتعويض والتأمين”. في الفقرة (1) من المادة (24) في النصوص الثلاثة لعقدي الخدمة النفطية، جاء الحديث عن مفهوم “الشراكة” على النحو الآتي:
1. النص العربي لعقد حقل الرميلة:
“من المتفق عليه صراحة أنه ليس غرض أو نية هذا العقد، ولا يجب تفسير هذا العقد على أنه يرمي إلى إنشاء أي شراكة تنقيب، أو مشاريع مشتركة، أو شراكة تجارية أو أي شراكة أخرى”.
2. النص العربي لعقد حقل الحلفاية:
“قد تم الاتفاق بوضوح على أن هذا العقد لا يهدف إلى، وليس بصدد أن يخلق، ولا يمكن أن يفسّر أو يأوّل بأنه قد يخلق أي مشاركة استخراجية، أو مشروعا مشتركا أو مشاركة تجارية أو مشاركة أخرى بين الطرفين”.
3. النص الانجليزي لعقد حقل الرميلة:
“it is expressly agreed that it is not the purpose or intention of this Contract to create, nor shall this Contract be construed as creating, any mining partnership, joint venture, commercial partnership or other partnership”.
لم يجر إعطاء تعريف محدد لمفهوم “الشراكة” في النصوص الثلاثة للعقدين، لا في نص المادة (24)، ولا في نص المادة (“1 – تعريفات”). والمشكلة هنا لا تتعلق بغياب تعريف مفهوم تنظيمي، أفردت له مادة خاصة في العقد (المادة 24)، وإنما وجه الغرابة المنهجية يكمن في الآتي: في الوقت الذي يتبرأ فيه عقد الخدمة النفطية من مفهوم “الشراكة”، ويرفض تسمية هذا العقد بعقد شراكة، ولكنه بالمقابل لا يعطي تعريفا محددا لهذا المفهوم، ولا يقدم الأسباب والدوافع للبراءة من “الشراكة” ورفضها. ليس من الحكمة والمنطق أن يرفض و/أو أن يقبل الأفراد والمجتمعات والحكومات والمنظمات مفاهيم غير معرّفة من قبلهم، وخاصة إذا كانت هذه المفاهيم ذات صلة بتعاونهم لانجاز عمل أو فعل مشترك فيما بينهم. اعتقد، ولا أجزم بهذا الاعتقاد الآن، أن سبب غياب تعريف مفهوم “الشراكة” والبراءة منه ورفضه في العقد كانت تقف وراءه دوافع سياسية متبناة من قبل الفريق الوطني المفاوض لشركات النفط الدولية وقتها، إذ يخشى من قاموا بصياغة مواده وأحكامه من الخبراء العراقيين أن ينسب ما أسموه بتسمية “عقد الخدمة النفطية” إلى مجموعة ما تسمى “عقود المشاركة”، التي لا تحظى بالقبول السياسي والاجتماعي الوطني الكافي. أما من جانب شركات النفط الدولية، فالأمر سيان لها، ذلك أن غياب تحديد المفهوم المعني والبراءة منه في العقد لا يؤثران بأي قدر تنظيمي كان على طبيعة المكوّن التنظيمي للعقد النفطي، لأنه في صالحها.
ربما يكون وصف “الشريك النائم”، حسب رأي الخبير العراقي الذي أوردناه قبل قليل، مجحفا ومهينا بحق السمعة التنظيمية والمهنية لشركتي نفط الجنوب ونفط ميسان وشركة تسويق النفط الوطنية، ولكن حتى أصحاب الشأن في عقود الخدمة النفطية العراقية (شركتي نفط الجنوب وميسان وشركة تسويق النفط العراقية، والشركات النفطية الأجنبية، ومن قاموا بصياغة العقود وتوقيعها والمصادقة عليها من الأفراد والمؤسسات) يحرمون شركاتنا النفطية المعنية من التمتع التنظيمي بصفة “الشريك” في إدارة مواردنا النفطية، ويبقون لها فقط صفة “النائم” عن إدارة هذه الموارد. فضلا عن ذلك، إن الحرمان من صفة الشريك لا يعني هنا غيابه الشكلي (الرسمي) من العقد، فهو موجود مثلا في المادة (27) في عقدي شركة نفط الجنوب وشركة نفط ميسان تحت تسمية “الشريك الحكومي”، ولكن الحرمان الذي نعنيه هو “الحرمان التنظيمي” لشركاتنا النفطية من الشراكة الفاعلة في إدارة العمليات النفطية بموجب عقود الخدمة النفطية، التي يتبرأ فيها أصحاب الشأن في العقدين المذكورين أعلاه، من إطلاق صفة “الشراكة” بين أطراف العقد. بعبارة أخرى موجزة، عندما يرفض أصحاب الشأن النفطي في العقد فكرة “الشراكة” من ناحية المكوّن التنظيمي، ولكنهم في الوقت نفسه يقرّون بفكرة “الشريك” من الناحية المؤسساتية الشكلية، فإن موقفهم المؤسساتي التنظيمي هذا لا يغير من جوهر المسألة المطروحة في هذا التحليل: حرمان الطرف والشريك الوطني في العقد من امتلاك أي نوع من القواعد والآليات والأدوات المؤسساتية التنظيمية للتأثير في عمليات إدارة مواردنا النفطية بموجب أحكام هذه العقود.
لا ينبغي تفسير هذا الاستنتاج بكونه بلاغة لغوية يتمتع بها كاتب هذه السطور، وإنما الحديث يجري عن “حضور” أو “غياب” ركن أساسي من أركان إدارة الأعمال الثلاثة: ركن شخص الإدارة، ركن موضوع الإدارة، وركن العلاقات التفاعلية ما بين شخص الإدارة وموضوعها. وفي سياق ما نقوم بتحليله، فإن شخوص الإدارة في عقد الخدمة النفطية هم شركات النفط الوطنية (الطرف الحكومي، والشريك الحكومي) وشركات النفط الأجنبية، وموضوعات الإدارة هي ما نصت عليه مادة “نطاق العقد”، أما علاقات التفاعل المتبادل بين شخوص وموضوعات الإدارة فهي ما ستقرر طبيعة الحراك التنظيمي بينها، والذي أسميناه في هذا البحث بمفهوم “المكون التنظيمي” لعقود الخدمة النفطية.
إذن، “غياب” شخص الإدارة الوطني من معادلة إدارة العمليات النفطية بموجب هذه العقود لا يعني اختلال أو عرقلة تنفيذ المعادلة المعنية (لأن شخص الإدارة الأجنبي مازال حاضرا فيها)، وإنما يعني غياب “الحضور التنظيمي الوطني الواقعي والفاعل” من تقرير مسارات ومضامين ومقادير العمليات التنظيمية والإنتاجية والتكنولوجية لإدارة العمليات النفطية الجارية بموجب عقود الخدمة النفطية. ندرج في أدناه بعض أمثلة عن غياب الحضور التنظيمي الوطني التام من إدارة بعض العمليات النفطية الرئيسة:
تقع المكاتب الرئيسية لشركات النفط الأجنبية لإدارة العمليات النفطية بموجب عقود جولات التراخيص النفطية خارج العراق، وأيضا خارج “منطقة العقد” (منطقة العمليات النفطية).
تقع عمليات تكوين تكاليف العمليات النفطية في قبضة شركات النفط الأجنبية (في عام 2014 كان مقدار تكاليف بند “المعدات” لشركة BP في حقل الرميلة 50 مليون دولار، بينما مقدار تكاليف بند “الإطعام” كان 65 مليون دولار، مع العلم أن صناعة استخراج النفط تتصف بكثافة “الرأسمال” وليس بكثافة “الطعام”!).
إذا رغب الطرف الحكومي بتعديل معدلات الإنتاج النفطي، المتفق عليها مع شركات النفط الأجنبية لأسباب تتضمنها إحدى مواد العقد النفطي، حينها يتوجب تعديل بعض مواد العقد لصالح شركات النفط الأجنبية، منها مثلا مادة “مدة العقد” ومادة “حصة الشريك الحكومي” وغيرها من المواد.
التفاوت الكبير في أجور عمل الكادر الأجنبي ما بين الشركات النفطية الأجنبية، والتدني الفادح لأجور عمل الكادر المحلي، العامل في هذه الشركات، مقارنة بالكادر الأجنبي.
إن غياب الحضور التنظيمي الفاعل لشركاتنا النفطية الوطنية من إدارة عقود الخدمة النفطية، من زاوية المكوّن التنظيمي للعقد، يجعل من هذه العقود شبيهة بعقود “الامتياز التقليدية” التي كانت سائدة في العراق وغيره من البلدان المنتجة للنفط قبل خمسينات القرن المنصرم، من منظور غياب الإرادة الوطنية في عمليات إدارة صناعة استخراج النفط فيها.

ثالثا. المشاركة Participation في عقد الخدمة النفطية:
جاء في الفقرة (60) من المادة (1) لعقد حقل الرميلة النفطي تعريف مصطلح “حصة المشاركة” على النحو الآتي: “تعني، فيما يتعلق بكل جهة تابعة للمقاول، الحصة غير المقسّمة والمعبّر عنها على أنها النسبة المئوية المحددة وفقا للمادة 27,1 لمشاركة هذا الطرف في حقوق وفوائد وامتيازات ورسوم وخصوم والتزامات المقاول”، والمقاول هنا SOMO وائتلاف شركات النفط الأجنبية بزعامة BP. وجاء في الفقرة (63) من المادة (1) لعقد حقل الحلفاية النفطي تعريف مصطلح “حصة المشاركة” على النحو الآتي: “تعني لكل كيان من الكيانات المؤلفة للمقاول، الحصة غير المقسمة (الكاملة) والمعبر عنها كنسبة مئوية لمساهمة هذا الطرف في الحقوق والمنافع والامتيازات والواجبات والمسؤوليات والالتزامات للمقاول”، والمقاول هنا SOC وائتلاف شركات النفط الأجنبية بزعامة Petrochina.
بشكل عام، تتحدث الفقرات الثلاث للمادة (27) من عقد حقل الرميلة (وأيضا عقد حقل الحلفاية) عن حصص “مشاركة الشريك الحكومي” (قبل تخفيض حصص الشريك الحكومي في العقدين من 25% إلى 5%) للمقاول في المؤشرات الاقتصادية الآتية:
حصة من الرأسمال (الثابت والمتغير)، المستثمر من قبل المقاول.
حصة من التكاليف النفطية والتكاليف الإضافية، التي يتحملها المقاول.
حصة من رسوم التعويض المدفوعة أو الربحية المدفوعة للمقاول.
لم يجر في العقدين، تحديد طبيعة أو الإشارة إلى أي مؤشر من المؤشرات التنظيمية للعمليات النفطية الجارية بموجب العقدين، يمتلك فيها الشريك الحكومي ما نسبته (25%). إن اتفاقات المشاركة تعني عادة المشاركة في الرأسمال والتكنولوجيا والإنتاج والإدارة وغيرها، بينما في عقدي الرميلة والحلفاية يجري الحديث حصرا عن مشاركة الشريك الحكومي بنسبة 25% من “إجمالي حصة مشاركة المقاول” في الرأسمال (عقد الرميلة)، و25% من “مجموع حصص المشاركة الكلية للمقاول” في الرأسمال أيضا (عقد الحلفاية). وهكذا يلاحظ، عدم وجود أي مؤشر تنظيمي للنشاط تطاوله حصة الشريك الحكومي البالغة 25% من هذا المؤشر التنظيمي أو ذاك.
في نص الفقرة (1) من المادة (27) من العقدين، يجري الحديث عن حصة للشريك الحكومي مقدارها 25% من حصة مشاركة المقاول. ولكن، ما هي طبيعة “مشاركة المقاول” في العمليات النفطية الجارية بموجب العقدين؟ أجابت عن هذا السؤال مادة “نطاق العقد” في العقدين المذكورين. إذن، المقاول يشارك بالرأسمال والتكنولوجيا والخبرة الفنية والتنظيمية المطلوبة لتنفيذ العمليات النفطية. في هذه الحالة، يفترض بالشريك الحكومي أن يمتلك أيضا حصة مقدارها 25% من الرأسمال والتكنولوجيا والخبرة الفنية والتنظيمية المطلوبة لتنفيذ العمليات النفطية بموجب العقد.
وبما أن العراق، وقت إبرام هذين العقدين ضمن جولتي التراخيص الأولى والثانية، لم يكن يمتلك الرأسمال والتكنولوجيا والخبرة الفنية والتنظيمية المطلوبة، عندها ألزم المقاول نفسه بتكوين نسبة مشاركة رأسمالية كاملة، أي (100%) من الرأسمال المطلوب لتنفيذ العمليات النفطية على حسابه الخاص، ومن هذه النسبة منح الشريك الحكومي نسبة 25% منها. ولكن مقابل ماذا تم منح الشريك الحكومي هذه النسبة من الرأسمال مجانا؟ وكما هو معروف في عالم الأعمال الدولي الكبير، وخاصة النفطي منه، لا يوجد شيء مجاني، كل شيء بثمنه. وماذا دفع العراق من ثمن، إذن، مقابل حصوله على حصة مقدارها 25% من الرأسمال المطلوب؟ وكما نرى، إن الثمن الذي دفعه الشريك الحكومي في عقد الخدمة النفطية هو تخليه عن المقومات التنظيمية والفنية لترجمة السيطرة التنظيمية الوطنية على عمليات استغلال الموارد النفطية الوطنية. وبما أن المقاول قد دفع “ثمن فاتورة العشاء”، فسيكون من حقه طلب “نوع الموسيقى” المصاحبة له!
فضلا عن ذلك، وبصرف النظر عن التوافق أو الاختلاف في المعنى اللغوي لتعبيري “وجوب حصول” أو “امتلاك” الشريك الحكومي حصة 25% من حصة مشاركة المقاول والبالغة 75% (النقطة 1 من المادة 27 في عقدي الرميلة والحلفاية)، عند من قام بصياغة العقدين، فإنهما بالمعني التنظيمي متطابقان، ذلك أن وجوب الحصول على حصة من الرأسمال أو امتلاك حصة في الرأسمال يؤسسان لحقوق امتلاك سيطرة تنظيمية فعلية في صناعة قرارات الشأن النفطي، تتناسب طرديا مع مقدار الحصة من الرأسمال. بكلمات أخرى، كلما زادت حصة الشريك الحكومي في الرأسمال، كلما زادت حقوق سيطرته التنظيمية الفعلية على عمليات صناعة القرارات الإدارية العملياتية والإستراتيجية، والعكس صحيح أيضا.
ولكن في الممارسة الإدارية الاعتيادية لمنظمات الأعمال الكبيرة، لا يكفي مقدار حصة المالك في الرأسمال المستثمر في العمليات الإنتاجية أن يضمن له سيطرة تنظيمية تتناسب مع ذلك المقدار، وإنما الأمر هذا خاضع أيضا للكيفية التنظيمية التي يجري بها “التصرف” بهذا الرأسمال. في العملية الإنتاجية يأخذ “الرأسمال المستثمر” شكل أصول أو موجودات ثابتة ومتغيرة، أو ما يطلق عليه بمصطلح “الموجودات الرأسمالية”، وقد خصصت المادة (22) في عقدي الخدمة النفطية المعنيين لكيفية التصرف بهذه الموجودات الرأسمالية. أسميت هذه المادة “حق ملكية الموجودات” في عقد حقل الرملية، و”ملكية الموجودات” في عقد حقل الحلفاية.
استنادا إلى منطق الفقرة (1) من المادة (22) في العقدين المذكورين، تصبح حصة مشاركة شركاتنا النفطية الوطنية في ملكية الموجودات الرأسمالية التي أدخلها المقاول إلى العراق أو التي اقتناها من العراق ابتداء هي 100%، وحتى قبل تشغيل هذه الموجودات في العمليات النفطية، بينما حصة مشاركة المقاول في ملكية هذه الموجودات التي دفع ثمنها ابتداء هي صفر بالمائة. في هذه الحالة، تصبح حقوق التصرف بملكية الموجودات الرأسمالية تحت السيطرة التنظيمية الكاملة (100%) وغير المقيدة بشرط للشريك الحكومي في العقد النفطي. وبما أن تكاليف تكوين وتشغيل الموجودات الرأسمالية النفطية هي تكاليف مستردة، ستتناقص عندها حقوق تصرف الشريك الحكومي بها بمقدار النسبة المئوية للاندثار السنوي لهذه الموجودات طيلة مدة العقد (20) سنة، أو بعد تعديلها إلى (25) سنة.
وبما أن حقوق الملكية الكاملة على الموجودات الرأسمالية تعطي سيطرة تنظيمية كاملة أيضا على التصرف بهذه الموجودات، إلا أن منطق الفقرة (2) من المادة (22) في العقدين المذكورين سيبدد هذا “الوهم التنظيمي” لسيطرة الشريك الحكومي التنظيمية المطلقة في التصرف بالموجودات الرأسمالية المخصصة لتنفيذ العمليات النفطية، إذ أن العقد قد أعطى المقاول والمشغل حق الاستخدام الكامل (التصرف المطلق بحقوق الملكية) وغير المقيّد بشروط تنظيمية و/أو تكنولوجية أو اقتصادية وغيرها، طيلة مدة العقد.
فضلا عن ذلك، فرضت الفقرة (2) من المادة (22) في العقدين حكما عقديا على الشريك الحكومي أن لا يقوم بالتنازل أو البيع أو التصرف بطريقة أخرى بالموجودات الرأسمالية إلا باتفاق مشترك مع المقاول. بيد أن إلزام المقاول أيضا بهذا الحكم العقدي يشكل مفارقة تنظيمية واضحة وكبيرة، لا أجد لها تفسيرا علميا أو منطقيا يتوافق مع مبادئ علم الإدارة والمنظمة. إن من يمتلك “حقوق التصرف” بالموجودات الرأسمالية من تنازل وبيع وما شابه، هو فقط الشخص التنظيمي الذي يمتلك “حقوق الملكية” على هذه الموجودات (أنظر تفصيل ذلك في: لفته، 2011: 99 – 164). وكما أسلفنا ذكره في أعلاه، فإن نسبة حقوق الشريك الحكومي في الموجودات الرأسمالية هي (100%) ابتداء، وتتناقص هذه النسبة بمقدار الاندثار السنوي للموجودات الرأسمالية طيلة مدة العقد لتصبح (0%) في نهاية السنة الأخيرة من هذه المدة، بينما نسبة حقوق المقاول في الموجودات الرأسمالية هي (0%) ابتداء، وأن الاسترداد السنوي لقيمة الموجودات الرأسمالية في شكل كلف رأسمالية وتشغيلية سوف لن يزيد من نسبة حقوق الملكية للمقاول لتصل إلى (100%) بسبب استرداد قيمتها وخروجها الاقتصادي من الخدمة.
في السياق الذي نبحثه هنا، لا شأن للشريك الحكومي أيضا بحقوق ملكية تكنولوجيا الإنتاج المستخدمة في تنفيذ العمليات النفطية، أو بعمليات نقلها له، بموجب عقود الخدمة النفطية لجولات التراخيص العراقية، ذلك أن هذا الشأن خاص بالمقاول فقط. على سبيل المثال، تشير الفقرة (4) من المادة (33) لعقد حقل الرميلة (وكذلك الحال في عقد حقل الحلفاية) إلى ملكية التكنولوجيا المستخدمة في العمليات النفطية على النحو الآتي: “… ويجب أن تبقى أي تكنولوجيا من هذا القبيل ملكا للجهات التي تشكل المقاول (أو شركاته الفرعية) وفقا لأي ترخيص أو ترتيبات أخرى ملائمة تدخل ضمن ما يتصل بالعمليات النفطية. ويجب أن يكون للمشغل الحق في استخدام هذه التكنولوجيا للعمليات النفطية فقط، بما يخضع لشروط هذا الترخيص أو لترتيبات أخرى”.

الجزء الثالث: طبيعة الدور التنظيمي للشريك الحكومي في إدارة العقد النفطي
في إدارة منظمات الأعمال الكبيرة، تؤدي الشخوص التنظيمية المختلفة أدوارا تنظيمية مختلفة بحسب مواقعها من الهيكل التنظيمي لإدارة المنظمة المعنية، المتكوّن من تقسيمات تنظيمية مختلفة هي الأخرى، على وفق مقدار ما تمتلكه من سلطات وصلاحيات وحقوق وواجبات لاتخاذ القرارات الإدارية المختلفة.
في إدارة العمليات النفطية لعقد حقل الرميلة، تتكون الشخوص التنظيمية من: “المقاول” (شركات النفط الأجنبية والشريك الحكومي SOMO)؛ و”المقاول الرئيسي” (شركة BP)؛ و”المشغل” (في البداية شركة SOC، ومن ثم قسم تشغيل الحقل نيابة عن المقاول الرئيسي)؛ وأخيرا “الشريك الحكومي” (شركة SOMO). تنتظم الشخوص التنظيمية المذكورة في هيكل تنظيمي، يتكون من التقسيمين التنظيميين الآتيين من الأسفل نحو الأعلى على سلم الهيكل التنظيمي: “قسم تشغيل الحقل”؛ و”لجنة الإدارة المشتركة”؛ و”الإدارة العليا” Top-management لجميع الشخوص التنظيمية في العقد النفطي (يتم اللجوء إلى الإدارة العليا فقط في حال عدم التوصل إلى إجماع باتخاذ القرارات في التقسيمات التنظيمية المعنية).
في إدارة العمليات النفطية لعقد حقل الحلفاية، وعلى الرغم من اختلاف عدد وتسميات الشخوص والتقسيمات التنظيمية مع نظيراتها في عقد الرميلة، إلا أن هذا الاختلاف لا يغير شيئا جوهريا من طبيعة “المكون التنظيمي” للإدارة في كلا العقدين، كما سنرى. في عقد الحلفاية، تتكون الشخوص التنظيمية من: “المقاول” (شركات النفط الأجنبية والشريك الحكومي SOC)؛ و”المشغل” (مشغل المقاول أو شركة التشغيل المشتركة)؛ و”مشغل المقاول” (شركة Petrochina)؛ وأخيرا “الشريك الحكومي (شركة SOC). تنتظم الشخوص التنظيمية المذكورة في هيكل تنظيمي، يتكون من ثلاثة تقسيمات تنظيمية هي الآتية من الأسفل نحو الأعلى على سلم الهيكل التنظيمي: “شركة التشغيل المشتركة” (يتشابه الوضع التنظيمي لهذا التقسيم مع نظيره “قسم تشغيل الحقل” في عقد حقل الرميلة، ولكنه يختلف عنه في إجرائية التأسيس، بكونه شركة تؤسس في العراق ويكون مقرها الرئيسي في بغداد)؛ و”لجنة الإدارة المشتركة” (يتشابه الوضع التنظيمي لهذا التقسيم مع نظيره “لجنة الإدارة المشتركة” في عقد حقل الرميلة، ولكنه يختلف عنه في عدد الأعضاء: 8 للحلفاية و10 للرميلة)؛ و”مجلس الإدارة” (يجري إحلال هذا التقسيم محل التقسيم “لجنة الإدارة المشتركة” في وقت محدد من بدء العمليات النفطية في الحقل النفطي، منصوص عليه في العقد النفطي)؛ و”الإدارة العليا” Top-management لجميع الشخوص التنظيمية في العقد النفطي (يتم اللجوء إلى الإدارة العليا في حال عدم التوصل إلى إجماع باتخاذ القرارات في التقسيمات التنظيمية المعنية).
تؤدي الشخوص التنظيمية أدوارها التنظيمية في إدارة العمليات النفطية ليس فقط على وفق ما مرسوم لها في أحكام العقود النفطية، وإنما أيضا على وفق تخصصها الوظيفي في الصناعة النفطية. وبما أن شركات النفط الأجنبية واسعة التخصص الوظيفي، ويغطي نشاطها عمليا جميع حلقات السلسلة التنظيمية/التكنولوجية لصناعة النفط، فإنها، لهذا السبب، ستكتسب مواقع تنظيمية قوية في إدارة النشاط، مقارنة بالمواقع التنظيمية التي يشغلها الشريك الحكومي (المتصف بضيق التخصص الوظيفي) في عقود جولات التراخيص النفطية.
من منظور التخصص الوظيفي للنشاط، وعلى خلاف الحال في عقد الرميلة النفطي حيث كانت شركة تسويق النفط العراقية SOMO الشريك الحكومي في العقد، تبدو الوظيفة التنظيمية لشركة نفط الجنوب SOC في عقد حقل الحلفاية النفطي منطقية ومجدية أيضا، إذ أنها متخصصة بإدارة العمليات النفطية، كما هو حال “شريكاتها” الأجنبية في العقد Petrochina، Petronas، Total، وهذا التشابه في التخصص الوظيفي للشركات ربما يقود إلى عدم تفرّد الشركاء الآخرين في العقد بالسيطرة التنظيمية على كامل عمليات اتخاذ القرارات الإدارية والاقتصادية والإنتاجية والتكنولوجية وغيرها، الخاصة بتخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة…الخ العمليات النفطية. ربما الدراية المهنية للشريك الحكومي، قد تكون مقدمة وظيفية تنفي أو تقلل من مستوى السيطرة التنظيمية الشاملة لائتلاف شركات المقاول الأجنبية في إعداد وصياغة وتنفيذ خطط وبرامج العمليات النفطية الجارية بموجب العقد النفطي. ولكن، في الواقع الفعلي للممارسة التنظيمية، لم تشفع الدارية المهنية لشركة SOC بتحقيق حتى قدر محدود النطاق من السيطرة التنظيمية على إدارة العمليات النفطية في عقد الحلفاية، حالها في ذلك حال الشريك الحكومي SOMO في عقد حقل الرميلة، المتصف بعدم الدراية المهنية بإدارة العمليات الإنتاجية والتكنولوجية النفطية.
تمارس الشخوص التنظيمية لعقديّ الرميلة والحلفاية، كما أسلفنا، أدوارها التنظيمية من خلال مواقعها في الهيكل التنظيمي لإدارة العقد النفطي، المتكوّن من ثلاثة تقسيمات تنظيمية مختلفة: اثنان لحقل الرميلة (“قسم تشغيل الحقل”، و”لجنة الإدارة المشتركة”)، وثلاثة لحقل الحلفاية (“شركة التشغيل المشتركة”، “لجنة الإدارة المشتركة”، و”مجلس الإدارة”).
إن تأسيس “قسم تشغيل الحقل” لإدارة العمليات النفطية خلال فترة زمنية قصيرة من تاريخ نفاذ عقد حقل الرميلة النفطي كان أمرا ضروريا من الناحية العملية، لضمان تواصل الإنتاج النفطي من هذا الحقل وقتها. بيد أن الطريقة التنظيمية المعتمدة في العقد النفطي لتأسيسه تثير الكثير من المشكلات التنظيمية، المتعلقة بمساهمة شركتي النفط الوطنية في إدارة العمليات النفطية بموجب أحكام العقد النفطي، المشاركة فيه بصفة “طرف أول” (شركة نفط الجنوب) وبصفة “شريك حكومي” (شركة تسويق النفط الوطنية). من المشكلات التنظيمية، ذات الصلة بطريقة التكوين والهيكل التنظيمي ووظائف قسم تشغيل الحقل، نذكر الأساسية الآتية:
ليس من الواضح تنظيميا، المعنى المقصود من عبارة أن قسم تشغيل الحقل هو “جهة غير ربحية وغير مندمجة”. ولكن من الواضح تماما أن قسم تشغيل الحقل هو تقسيم وظيفي/تنظيمي غير ربحي يقع ضمن هيكل تنظيمي مقرر مسبقا لإدارة العمليات النفطية، متكون من شخوص تنظيمية وتقسيمات تنظيمية محددة في العقد. وما دام الأمر كذلك، فليس من المفهوم أيضا الإشارة إلى أن هذا التقسيم الوظيفي/التنظيمي غير مندمج مع بقية التقسيمات التنظيمية للهيكل التنظيمي لإدارة العمليات النفطية في حقل الرميلة. لقد جرى تأسيس قسم تشغيل الحقل ليحل محل التقسيم الوظيفي المشابه لدى شركة نفط الجنوب لتشغيل الحقل المعني، المسمى (وحدة القوة العاملة التشغيلية القائمة في الحقل)، ومن ثم يواصل قسم تشغيل الحقل أداء مهامه حتى نهاية مدة العقد، كما تشير إلى ذلك الاتفاقية الملحقة (3)، في المادة (12) منها على النحو الآتي: “يجب أن يمتد الحد الأدنى لبقاء قسم تشغيل الحقل إلى نهاية مدة العقد بما في ذلك أي تمديدات تطبق عليه”.
إن العمل الإداري المشترك، هو عمل تعاوني بطبيعته. وبما أن قسم تشغيل الحقل هو تقسيم وظيفي/تنظيمي منفرد ضمن هيكل تنظيمي متكون من تقسيمات تنظيمية أخرى، فمن الطبيعي والمنطقي أن يجري العمل الإداري التعاوني المشترك لهذه التقسيمات جميعا باستقلالية تامة عن تأثير نفوذ الشخوص التنظيمية المختلفة المشاركة في هذا العمل. بيد أن تأكيد أحكام العقد النفطي على استقلالية قسم تشغيل الحقل عن شركة نفط الجنوب، وهو أمر تنظيمي مسلّم به من وجهة نظر علم الإدارة، لا يعفي القسم المذكور من الوقوع في تبعية تنظيمية مزدوجة لسلطة ونفوذ “المقاول”. من جهة أولى، يقع قسم تشغيل الحقل ضمن السلطة الإدارية الرسمية للمقاول، عندما أكدت الفقرة (35) من المادة (1) للعقد النفطي على أن هذا القسم يعمل “… حصريا بمثابة مشغل للحقل لإدارة العمليات النفطية تحت إشراف وتوجيهات وإدارة المقاول …”. من جهة ثانية، وهي جهة نفوذ المقاول، أناطت الفقرة (10) من المادة (9) مسؤولية تجهيز قسم تشغيل الحقل بالمهارات البشرية المطلوبة بالمقاول نفسه، على النحو الآتي: “… يجب على المقاول توفير مهارات إدارية وتكنولوجية مناسبة وموظفين لقسم تشغيل الحقل لضمان أنه يمكن القيام بالعمليات النفطية وفقا لأفضل الممارسات الدولية …”.
على الرغم من إشارة الاتفاقية الملحقة (3) في المادة (1) منها إلى: “بمقتضى المادة 9 من هذا العقد، يجب أن تقوم شركة نفط الجنوب والمقاول بإنشاء كيان تشغيلي مشترك غير مؤسسي…”، إلا أن مواد العقد النفطي، ومواد الاتفاقية الملحقة (3) لم تشرّ قط إلى القواعد والآليات التنظيمية المؤسساتية المستخدمة في عمليات إنشاء قسم تشغيل الحقل، الأمر الذي سيجعل عملية الإنشاء خاضعة لسيطرة المقاول التنظيمية.
أشارت الفقرة (1) من المادة (9) للعقد النفطي إلى مسألة وراثة قسم تشغيل الحقل لخبرات ومهارات قوة العمل في شركة نفط الجنوب، على النحو الآتي: “… يرث قسم تشغيل الحقل وحدة القوة العاملة القائمة التي يجب أن تنفصل عن شركة نفط الجنوب لتسيير العمليات النفطية”. ليس لدى كاتب هذه السطور معلومات موثقة عن مدى استطاعة شركة نفط الجنوب ضمان وراثة قسم تشغيل الحقل لخبرة “وحدة القوة العاملة القائمة”، التي كانت مشغلة لحقل الرميلة قبل نفاذ العقد النفطي، في الوقت الذي تطلب فيه الشركة من المقاول تجهيز القسم المذكور بالمهارات البشرية المطلوبة لتسيير العمليات النفطية في الحقل المعني.
بعد تمكين قسم تشغيل الحقل من تسيير العمليات النفطية، وعلى مدى مدة العقد بكاملها، لا يمتلك هذا التقسيم التنظيمي المسؤوليات والصلاحيات التنظيمية الرسمية لإدارة العمليات النفطية الجارية بموجب أحكام العقد النفطي. وهذا ما أشارت إليه صراحة الفقرة (10) من المادة (9) على النحو الآتي: “… يجب أن يقوم المقاول بالإشراف على كافة عمليات التخطيط وتوجيهها وإدارتها واتخاذ القرارات والرقابة والتسيير اليومي للعمليات النفطية من قبل قسم تشغيل الحقل”. وماذا تبقى، إذن، لقسم تشغيل الحقل من عمل إداري؟ لا شيء سوى تنفيذ قرارات المقاول، كما أشارت إلى ذلك صراحة أيضا الفقرة (2) من المادة (4) من الاتفاقية الملحقة (3) على النحو الآتي: “يجب أن ينفذ قسم تشغيل الحقل خطط التطوير وبرامج العمل والموازنات المعتمدة وفقا لهذا العقد …”، وهذه الأعمال التنظيمية يضعها المقاول بنفسه. في هذا الأمر التنظيمي، يحتكر المقاول كامل وظائف العمل الإداري، نافيا بذلك المكوّن التنظيمي عن مشاركة شركة نفط الجنوب في تكوين قسم تشغيل الحقل. إن تجريد قسم تشغيل الحقل من وظائف التخطيط والرقابة واتخاذ القرارات وغيرها، سيعني، من الناحية التنظيمية، تجريد شركة نفط الجنوب من المشاركة الفعلية في إدارة العمليات النفطية الجارية بموجب العقد النفطي.
سيفقد قسم تشغيل الحقل كينونته التنظيمية أيضا، بمثابة تقسيم وظيفي/تنظيمي مستقل، حيث يفترض استنادا إلى أحكام العقد أن تساهم شركة نفط الجنوب في تكوينه وتشغيله وتأمل منه تحقيق أهدافها ومصالحها (وهي أهداف ومصالح الحكومة العراقية)، عندما يجري تمويل تنفيذ عملياته النفطية من قبل المقاول، كما أشارت إلى ذلك المادة (6) من الاتفاقية الملحقة (3) على النحو الآتي: “… التكاليف والنفقات والمصروفات التي يتكبدها قسم تشغيل الحقل من أجل تنفيذ العمليات النفطية، يجب أن يتم تمويلها من قبل المقاول بوصفها تكاليف نفطية أو تكاليف إضافية وفقا لبرامج العمل والموازنات السنوية…”. ومن أجل ضمان تحقيق مصالحها وتوجهاتها الإستراتيجية والعملياتية في إدارة نشاط حقل الرميلة بموجب عقد الخدمة النفطية، لا تستطيع شركة نفط الجنوب التأثير في السلوك التنظيمي لقسم تشغيل الحقل لتحقيق ذلك، عندما يجري تمويل نشاطه بالكامل من قبل المقاول.
على الرغم من أن الاتفاقية الملحقة (3) تنفي الصفة المؤسساتية عن قسم تشغيل الحقل، كما أوردنا نص ذلك في أعلاه، إلا أن المادة (2) من الاتفاقية الملحقة (3) تسمي قسم تشغيل الحقل بتسمية “المؤسسة”: “يكون اسم قسم تشغيل الحقل هو مؤسسة تشغيل حقل الرميلة”. يبدو أن النص العربي لعقد حقل الرميلة قد أخطأ في تسمية قسم تشغيل الحقل بالمؤسسة كترجمة للتسمية الواردة في النص الانجليزي للعقد وهي كلمة “Division”، وتعني تنظيميا القسم أو التقسيم الوظيفي/التنظيمي ضمن الهيكل التنظيمي القائم لمنظمة أعمال ما. النص الانجليزي للمادة (2) من الاتفاقية الملحقة (3) هو: “The name of FOD shall be the Rumaila Field Operating Division”. وبما أن قسم تشغيل الحقل هو مجرد تقسيم وظيفي/تنظيمي ضمن هيكل تنظيمي واحد لإدارة العمليات النفطية بموجب العقد النفطي، فمن المنطقي تنظيميا أن لا يحق لهذا التقسيم تحقيق الأرباح و/أو الخسائر جراء نشاطه في تسيير العمليات النفطية بمثابة مؤسسة، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، ولا يحق له أيضا المطالبة بأي حقوق أخرى، كتلك التي تشير إليها المادة (7) من الاتفاقية الملحقة (3)، على النحو الآتي: “يجب أن لا يمتلك قسم تشغيل الحقل، بموجب هذا العقد، أي حق أو ملكية أو حصة في النفط المنتج من منطقة العقد. ويجب أن يعمل قسم تشغيل الحقل كمشغل وأن يتحمل كافة مسؤوليات المشغل ذات الصلة بموجب هذا العقد”. إن عدم امتلاك قسم تشغيل الحقل الصفة “المؤسساتية”، كأن يكون شخصا تنظيميا في العقد النفطي مثلا، فمن المنطقي تنظيميا أن لا يحق له ذلك، لأن امتلاك الحقوق في الربح وملكية الموجودات الرأسمالية وحصة من النفط هي من نصيب الشخوص التنظيمية المشاركة في العقد النفطي كشركات المقاول الأجنبية Petrochina, BP والشريك الحكومي SOMO فقط.
لم تشرّ مواد العقد أو مواد الاتفاقية الملحقة (3) إلى مكان محدد لتواجد مقر “المركز الرئيسي” لقسم تشغيل الحقل، على الرغم من وجوب امتلاك قسم تشغيل الحقل مكتبا رئيسيا خاصا به، كما تشير المادة (3) من مواد الاتفاقية الملحقة (3) إلى ذلك على النحو الآتي: “يجب أن يكون لقسم تشغيل الحقل مكتبا رئيسيا خاصا به وأن يكون منفصلا عن المكتب الرئيسي لشركة نفط الجنوب وللمقاول وللشركات”. يبدو أن القصد من الإشارة إلى وجوب انفصال المكتب الرئيسي لقسم تشغيل الحقل عن المكاتب الرئيسة لطرفي العقد، هو لغرض إضفاء صفة الاستقلالية التنظيمية على عمله، وهو من الناحية الرسمية أمر تنظيمي مسلّم به في علم الإدارة، ولكن هذه الاستقلالية هي شكلية تماما، كما تشير إلى ذلك أحكام مواد العقد ومواد الاتفاقية الملحقة (3)، التي أوردناها في أعلاه. لا يمتلك الآن كاتب هذه السطور معلومات موثقة عن مكان تواجد المكتب الرئيسي لقسم تشغيل الحقل، ولكن تواجد مكاتب خاصة بإدارة العمليات النفطية لشركات جولات التراخيص النفطية خارج العراق، ليس فقط سيضيف تكاليف كبيرة على هذه العمليات، تزيد من كلفة استخراج النفط بموجبها، ولكن أيضا وبقدر أكثر من الأهمية التنظيمية، ستعرقل عمل إدارة العمليات النفطية، ذلك أن تواجد القائد الإداري في مكان العمل المباشر (منطقة العقد) يعدّ شرطا تنظيميا أساسيا للنجاح في إدارة منظمات الأعمال.
كتقسيم وظيفي/تنظيمي، وبشكل عام، يتشابه الوضع التنظيمي لمصطلح “شركة التشغيل المشتركة” في عقد حقل الحلفاية النفطي مع نظيره مصطلح “قسم تشغيل الحقل” في عقد حقل الرميلة. ومع ذلك توجد فروق تنظيمية بين المصطلحين نشير إليها على النحو الآتي:
جرى تحديد مصطلح “شركة التشغيل المشتركة” بكونه تقسيم تنظيمي مؤسساتي، كشركة مسجلة حسب القانون العراقي النافذ، وتحمل الجنسية العراقية، وتكون ملكيتها مناصفة بين شركة نفط ميسان والمقاول. ومع ذلك، لا تمتلك هذه المؤسسة الحق في تحقيق الأرباح و/أو الخسائر كمنظمة أعمال مستقلة، ولا تمتلك أي حق أو ملكية أو حصة في النفط المستخرج من منطقة العقد، حالها في ذلك حال مؤسسة “النظام الملكي الدستوري” في بعض البلدان: يمتلك مؤسسة “السلطة الرسمية” كملك أو ملكة (في مثالنا شركة التشغيل المشتركة)، ولكنه لا يمتلك مؤسسة “السلطة الفعلية” لأنها بيد رئيس الوزراء (في مثالنا المقاول).
على خلاف الحال في عقد الرميلة، حيث لم يجر فيه التحديد الصريح لمقر “قسم تشغيل الحقل”، في عقد الحلفاية جرى تحديد المقر الرئيسي لشركة التشغيل المشتركة في مدينة بغداد. وبصرف النظر عن أسباب اختيار عاصمة العراق مقرا رئيسيا للشركة، إلا أن وجود المقر الرئيسي للشركة داخل الحدود الجغرافية لمنطقة العقد النفطي، سيمنح العمليات التنظيمية والإنتاجية والتكنولوجية مصداقية تنظيمية أكبر وأكثر فاعلية.
وكما هو الحال في عقد حقل الرميلة، تتولى شركة التشغيل المشتركة مهمات مشغل الحقل النفطي نيابة عن طرفي العقد، ولكن لصالح المقاول.
وكما هو الحال في عقد حقل الرميلة أيضا، تتولى شركة التشغيل المشتركة مهمات تنفيذ خطط التطوير وبرامج العمل والموازنات السنوية، الموضوعة من قبل المقاول ولصالحه.
وكما هو الحال في عقد حقل الرميلة أيضا، يجري تمويل تكاليف ومصروفات ونفقات شركة التشغيل المشتركة من قبل المقاول، وتسترد من قبله كتكاليف بترولية أو كتكاليف إضافية.
وعلى خلاف الحال في عقد الرميلة، حيث تجري فيه إدارة “قسم تشغيل الحقل” من قبل تقسيم “لجنة الإدارة المشتركة”، تدار شركة التشغيل المشتركة في عقد الحلفاية من قبل تقسيم تنظيمي جديد يسمى “مجلس الإدارة”، يحل محل “لجنة الإدارة المشتركة”.
في الهيكل التنظيمي لإدارة العمليات النفطية بموجب عقد حقل الرميلة النفطي، يبدو أن التقسيم الوظيفي/التنظيمي الثاني، المسمى بمصطلح “لجنة الإدارة المشتركة”، قد حظي بقدر أوفر من الوضوح المفاهيمي والإجرائي التنظيمي في التكوين والعمل، مقارنة بزميله التقسيم الأول المسمى “قسم تشغيل الحقل”. من الناحية التنظيمية، يشتمل مصطلح “لجنة الإدارة المشتركة” على السمات الأساسية الآتية، المشتقة من أحكام المادة (13) وأحكام الاتفاقية الملحقة (3) للعقد النفطي:
الإنشاء: يجري إنشاء “لجنة الإدارة المشتركة” باتفاق طرفي العقد: شركة نفط الجنوب (SOC) كطرف أول، والمقاول كطرف ثان (BP, Petrochina, SOMO).
زمن الإنشاء: 30 يوما من تاريخ نفاذ العقد.
الصفة المؤسساتية للإنشاء: لجنة إدارة Management Committee، بمعنى تقسيم تنظيمي Organizational Division.
الغرض من الإنشاء: الإشراف العام General Supervision والسيطرة Control على العمليات النفطية. هنا، الغرض من السيطرة هو التحكم الفني بالعمليات النفطية، وليس “الرقابة” كوظيفة إدارية أساسية. في علم الإدارة، تعدّ وظيفة الإشراف ووظيفة السيطرة بمثابة وظائف إدارية مشتقة، وليست وظائف إدارية أساسية كالتخطيط والتنظيم والتحفيز والرقابة. إن الفارق التنظيمي ما بين الوظيفة الإدارية الأساسية والوظيفة الإدارية المشتقة، يكمن في أن الوظيفة الأولى تمتلك الحق التنظيمي باتخاذ القرارات الإدارية، بينما الوظيفة الثانية لا تمتلك مثل هذا الحق.
هيكل الأعضاء: مجموعة أفراد عددهم 10 ممثلين لمصالح طرفي العقد بواقع 5 أفراد لكل طرف، يحق للطرف الأول (شركة نفط الجنوب) تسمية رئيس اللجنة، ويحق للطرف الثاني (المقاول) تسمية نائب رئيس وأمين سر اللجنة، ويجوز للجنة الإدارة المشتركة تعيين “لجان فرعية”، ستندرج ضمن هيكلها التنظيمي. في هذا السياق، يثير توزيع عدد أعضاء لجنة الإدارة المشتركة بين طرفي العقد بالتساوي مسألة تنظيمية مهمة، تتعلق بإمكانية تمثيل “الشريك الحكومي” ضمن حصة “المقاول” من عدد أعضاء هذه اللجنة. حسب أحكام العقد، يمتلك الشريك الحكومي SOMO حصة مقدارها 25% من مقدار حصص العقد النفطي (قبل تعديل هذه الحصة لتبلغ الآن 5%). هذا الأمر يعني أن للشريك الحكومي الحق بالتمثيل بعضو واحد ضمن حصة المقاول البالغة 5 أعضاء في اللجنة المذكورة. وعلى هذا الأساس تصبح حصة الحكومة العراقية 6 أعضاء بدلا من 5، وحصة الشركات النفطية الأجنبية 4 بدلا من 5 في لجنة الإدارة المشتركة للعمليات النفطية. يكتب بعض الباحثين، أن عدد أعضاء لجنة الإدارة المشتركة هو 8، وحصة الحكومة منها 5 (أنظر تفصيل ذلك في: جاسم، 2016؛ العطار، 2016). ليس لدى كاتب هذه السطور معلومات موثقة عن مسألة احتفاظ أو عدم احتفاظ الشريك الحكومي في العقد بعضوية لجنة الإدارة المشتركة بعد تعديل العقود النفطية.
المهمات والسلطات والتمويل: وكما أشرنا في الغرض من الإنشاء في أعلاه، تقوم لجنة الإدارة المشتركة بتنفيذ وظائف إدارية مشتقة تنحصر بوظيفة “المراجعة” في 8 حالات من أصل 10 مهمات وسلطات أنيطت بها، وحالة واحدة هي “التوصيات”، وحالة واحدة أخيرة هي “الإشراف والرقابة”. إذن، لا تمتلك لجنة الإدارة المشتركة الحق التنظيمي باتخاذ القرارات الإدارية الخاصة بوضع الخطط وبرامج العمل والموازنات السنوية للعمليات النفطية. إن مهمات وسلطات لجنة الإدارة المشتركة تقتصر على الإشراف العام والسيطرة في مرحلة تنفيذ الخطط والبرامج والموازنات (مراجعتها والتوصية بشأنها وقت التنفيذ)، الموضوعة بقرارات إدارية اتخذها المقاول في مرحلة سابقة من مراحل العمل الإداري الخاص بالعمليات النفطية. فضلا عن ذلك، يجري تمويل أنشطة لجنة الإدارة المشتركة أو لجانها الفرعية من قبل المقاول نفسه بوصفها “تكاليف نفطية”.
آليات اتخاذ القرارات الداخلية: تتخذ اللجنة قراراتها الداخلية بالتصويت الجمّعي لأعضائها أو بدائلهم الحاضرين في الاجتماع أو بالتفويض، في حالة حصول النصاب القانوني للاجتماع بما لا يقل عن 3 أعضاء أو بدائلهم من كل طرف. لا تقترح لجنة الإدارة المشتركة بنفسها جدول أعمال اجتماعاتها، وإنما يوضع جدول الأعمال من قبل المقاول من خلال “المشغل”. في فترة ما قبل إنشاء “قسم تشغيل الحقل”، كانت مهمة المشغل تقوم بها شركة نفط الجنوب، ولكن هذه المهمة كانت، كما أوضحنا ذلك آنفا، لفترة قصيرة من الزمن وانتهت بتشكيل “قسم تشغيل الحقل”. استنادا إلى هذا، فإن الصحيح تنظيميا بموجب أحكام العقد هو قيام المقاول، من خلال قسم تشغيل الحقل، بإعداد جدول الأعمال والوثائق الضرورية وتبليغ أعضاء لجنة الإدارة المشتركة بها قبل تاريخ اجتماع هذه اللجنة. وعلى الرغم من الطابع الفني للمهمات والسلطات المكلفة بها لجنة الإدارة المشتركة، إلا أن القرارات المتعلقة بها يجري إعدادها من قبل المقاول نفسه وتمرر في الاجتماع من خلال قسم تشغيل الحقل، وما على أعضاء لجنة الإدارة المشتركة إلا مراجعتها فنيا والتوصية بشأنها، وكأن المراجعة الفنية والتوصيات ترقى إلى مصاف القرارات الإدارية التي يتخذها المقاول بنفسه، المتعلقة بخطط وبرامج عمل وموازنات العمليات النفطية الجارية بموجب عقد الخدمة النفطية. فضلا عن ذلك، توجد آلية تنظيمية أخرى لاتخاذ القرارات داخل لجنة الإدارة المشتركة، يتم اللجوء إليها في حال عدم قدرة اللجنة المذكورة على اتخاذ قرار بالإجماع في أي مسألة مطروحة في جدول أعمال الاجتماع، عندها تحال المسألة على الفور إلى الإدارة العليا Top- Management للطرفين (شركة نفط الجنوب وشركات المقاول) لاتخاذ قرار بشأنها.
من ناحية المكوّن التنظيمي، يتشابه حد التطابق مصطلح “لجنة الإدارة المشتركة” في كلا العقدين (الرميلة والحلفاية)، ولكنهما يختلفان في مفردة تنظيمية واحدة وهي عدد أعضاء هذه اللجنة. وكما مر معنا أنفا، يتكون مجموع أعضاء “لجنة الإدارة المشتركة” في عقد حقل الرميلة من 10 أعضاء، بينما في عقد حقل الحلفاية فهذا العدد هو 8 أعضاء.
بموجب الفقرة (1) من المادة (13) لعقد الحلفاية النفطي، يجري تنظيميا إحلال التقسيم التنظيمي المسمى “مجلس الإدارة” محل التقسيم التنظيمي المسمى “لجنة الإدارة المشتركة”. يجري هذا الإحلال لغرض تنظيمي كبير، يتمثل بتحويل مسؤولية تشغيل الحقل من لجنة الإدارة المشتركة إلى مجلس الإدارة، بمعني نقل الإشراف التنظيمي والسيطرة التنظيمية على العمليات النفطية من تقسيم تنظيمي إلى تقسيم تنظيمي آخر في تاريخ محدد. في هذا السياق، لا تشير أحكام العقد أو أحكام “المرفق ثلاثة” صراحة إلى المصير التنظيمي الذي سيئول إليه التقسيم المسمى “لجنة الإدارة المشتركة” بعد تشكيل التقسيم التنظيمي الجديد المسمى “مجلس الإدارة”، وهل سيبقى ضمن تقسيمات الهيكل التنظيمي لإدارة العمليات النفطية بموجب العقد، أو ستجري تصفيته تنظيميا، على الرغم من أن مجلس الإدارة سيتولى جميع واجبات وصلاحيات لجنة الإدارة المشتركة. تناولت الفقرة (8) من (المرفق ثلاثة: مبادئ عقد تأسيس شركة التشغيل المشتركة) لعقد حقل الحلفاية النفطي واجبات وصلاحيات “مجلس الإدارة” على النحو الموجز والمختصر الآتي:
– الإشراف والسيطرة التنظيمية الشاملة على تنفيذ شركة التشغيل المشتركة للعمليات البترولية.
– تأسيس منظومة التشغيل ووضع إجراءاتها، وهيكلة النظام المحاسبي والسيطرة المالية، ووضع الإجراءات لتمويل العمليات البترولية من قبل المقاول.
– تعيين وتبديل المدير العام ونائبه وباقي المدراء الأقدمين لأقسام شركة التشغيل المشتركة.
– وضع المخطط (الهيكل) التنظيمي لشركة التشغيل المشتركة.
– وضع إجراءات (سياقات) التوظيف وأنظمة الأفراد لشركة التشغيل المشتركة.

الخاتمة:
كان الهدف من البحث تأشير بعض نقاط حركة مسار تنظيمي جديد New Organizational Trajectory، كبديل عن المسار التنظيمي القائم حاليا لعقد الخدمة النفطية. وبغرض تحقيق هذا الهدف، كان ينبغي للبحث أن يسبّر غور المكوّن التنظيمي لطبيعة التنظيم في نمط عقد الخدمة النفطية من زاوية حضور أو غياب الإرادة الوطنية في إدارة عمليات التطوير المعنية، استنادا إلى منهجية تلازم حقيقتين شاخصتين للعيان ينبغي لهما الحضور في عملية الاختيار التنظيمي لنمط العقد النفطي: الأولى، المكانة الاقتصادية والسياسية الكبيرة لقطاع استخراج النفط في العراق؛ الثانية، الطبيعة التنظيمية والتكنولوجية الدولية لنشاط الصناعة النفطية.
في عملية الاختيار التنظيمي لنمط العقد النفطي، جرى ترجيح المكانة الاقتصادية (إنتاج الريع النفطي) والسياسية (تعطيل تشريع قانون منظّم لنشاط قطاع الاستخراج النفطي)، وتغييب الطبيعة التنظيمية (مؤشرات السيطرة التنظيمية الوطنية) والتكنولوجية (تكامل حلقات السلسلة التكنولوجية النفطية). وبالنتيجة، أفضت عملية الاختيار التنظيمي لنمط عقد الخدمة النفطية إلى تأشير بعض نقاط حركة المسار التنظيمي لهذا النمط من العقود على وفق منهجية الاستنتاج/التوصية الآتية:
غياب البيئة المؤسساتية التشريعية من عمليات تنظيم صناعة استخراج النفط، أفضت إلى فقدان التوجه الإستراتيجي في إدارة هذه العمليات. وبغرض العثور على التوجه المعني ينبغي تشريع قانون لإدارة الموارد النفطية، تتضمن أحكامه مشاركة تنظيمية وتكنولوجية وطنية فاعلة في شروط عولمة الصناعة النفطية وتكامل عملياتها التنظيمية والتكنولوجية.
غياب “الحاجة التنظيمية” للشريك الحكومي من عملية اختيار نمط العقد النفطي، أفضت إلى سيطرة تنظيمية كاملة للمقاول في إدارة العمليات النفطية. ومن أجل الحضور الفاعل لهذه الحاجة، يمكن تعديل بعض أحكام مادة “نطاق العقد” لصالح الشريك الحكومي.
حضور “الحاجة الاقتصادية” للطرف الحكومي في عملية اختيار نمط العقد النفطي، أفضت إلى إقصاء الشريك الحكومي من المشاركة الفاعلة في العمليات التنظيمية والإنتاجية والتكنولوجية لإدارة العمليات النفطية. ومع الاعتراف بمسوغات الحاجة الاقتصادية للريع النفطي للبلاد، إلا أن تدبير الرأسمال المطلوب لمشاركة المقاول في تمويل العمليات النفطية هو أمر ميسور باستخدام آليات جذب الاستثمارات المالية.
يتجلى عطب المكوّن التنظيمي لأحكام عقد الخدمة النفطية، المفضي إلى تهميش الدور التنظيمي للطرف والشريك الحكومي في العقد، في أمرين: الأول، الحضور التنظيمي الشكلي للشريك الحكومي مقابل الحضور الفاعل للمقاول؛ والثاني، ألزمت أحكام العقد الطرف الحكومي دفع ثمنا تنظيميا باهظا لقاء تحقيق سيطرة تنظيمية فاعلة. وبغرض إنعاش الدور التنظيمي الفاعل لشركاتنا النفطية الوطنية في إدارة العمليات النفطية بموجب عقد الخدمة النفطية، نؤشر بعض آليات تنظيمية عن ذلك:
لا تعدّ “المساعدة” التي يقدمها الطرف الحكومي للمقاول نشاطا تنظيميا لتنفيذ العقد النفطي، وإنما استخداما للنفوذ المؤسساتي لتسهيل حصول المقاول على خدمات فنية ذات طابع سيادي حكومي. لهذا الغرض، ينبغي تعديل مادة العقد الخاصة بمفهوم “المساعدة” واستبدالها بمفهوم “المساهمة التنظيمية” وتحديد مجالاتها.
لم يجر تحديد مفهوم ومؤشرات “الشراكة” في العقد بين الشريك الحكومي وائتلاف شركات المقاول الأجنبية. لهذا الغرض، من الضروري تعديل مادة العقد الخاصة بمفهوم الشراكة، بمسار التحديد الدقيق لمضمونه التنظيمي ومجالات فعله في إدارة العمليات النفطية.
في العقد، اقتصر مفهوم “مشاركة الشريك الحكومي” للمقاول على مؤشرات اقتصادية كمية فقط (الرأس مال، التكاليف، أجور الربحية)، ولكن غابت عن إدارتها (وظائف التخطيط، التنظيم، الرقابة وغيرها) مشاركة الشريك الحكومي. لهذا الغرض، ينبغي تعديل مادة العقد الخاصة بمفهوم “المشاركة، بمسار جديد يتضمن ليس فقط المؤشرات الاقتصادية الكمية، وإنما أيضا المؤشرات التكنولوجية والفنية (عند توافرها مستقبلا) والمؤشرات التنظيمية.
أمّن العقد للمقاول سيطرة تنظيمية كاملة على عمليات تكوين ونشاط جميع تقسيمات الهيكل التنظيمي لإدارة العمليات النفطية (قسم تشغيل الحقل، شركة التشغيل المشتركة، لجنة الإدارة المشتركة، مجلس الإدارة). لهذا الغرض، ينبغي تعديل مواد العقد ذات الصلة بتكوين ونشاط مكونات الهيكل التنظيمي المعني، بمسار جديد يضمن للشريك الحكومي سيطرة تنظيمية مؤثرة على إجرائيات اتخاذ القرارات الإدارية في جميع التقسيمات التنظيمية المذكورة.
أفضت أحكام عقد الخدمة النفطية إلى نشوء مسار تغييب الإرادة الوطنية من عمليات تنظيم صناعة استخراج النفط، حيث تساوت فيه الأحكام التنظيمية لهذا العقد مع أحكام “عقد الامتياز النفطي التقليدي”. في هذه الحالة، ربما استبدال نمط عقد الخدمة النفطية الحالي بنمط “عقد الامتياز النفطي الحديث”، بالشروط التنظيمية العامة لعقد “المجازفة المشتركة”، سيقود إلى اكتساب الشريك الحكومي سيطرة تنظيمية فاعلة في إدارة العمليات النفطية.
وبغرض تحقيق توصيات البحث، لا يغفل الباحث أمر حاجة أعضاء الفريق الوطني المفاوض لشركات النفط الأجنبية وممثلي الشريك الحكومي في العقود النفطية المبرمة، والتي ربما ستبرم في المستقبل المنظور، إلى امتلاك مهارات تنظيمية في شؤون استخراج النفط عالية التخصص الوظيفي والعلمي. يمكن تأمين الحاجة المعنية باستخدام ثلاثة مسارات متاحة: الأول، مسار تعليم مهارات إدارة صناعة النفط في مؤسسات التعليم العالي الوطنية والأجنبية؛ الثاني، مسار إنشاء مركز دراسات وطني متخصص بالمهارات التنظيمية النفطية؛ المسار الثالث، تضمين أعضاء الفريق الوطني المفاوض وممثلي الشريك الحكومي أعضاء آخرين، يمتلكون هذه المهارات من خارج كادر وزارة النفط والشركات النفطية الوطنية.

مصادر البحث:
جاسم، عبد الأمير محمد صالح (2016). مثالب عقود التراخيص. الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.
دستور جمهورية العراق (2005).
السالم، م. س. (2005). أساسيات الإدارة الإستراتيجية. الناشر: دار وائل للنشر، ط1، عمان.
العطار، إحسان إبراهيم، 2016: ملاحظات حول جولات التراخيص النفطية وعقود الخدمة. الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.
عقد الخدمات الفنية لتطوير حقل الرميلة النفطي، المبرم بين الحكومة العراقية وائتلاف شركات BP & Petrochina، 2009، النص العربي للعقد غير المنشور.
عقد الخدمات الفنية لتطوير حقل الرميلة النفطي، المبرم بين الحكومة العراقية وائتلاف شركات BP & Petrochina، 2009، النص الانجليزي للعقد المنشور على الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.
عقد تطوير وإنتاج حقل الحلفاية النفطي، المبرم ما بين الحكومة العراقية وائتلاف دولي تقوده شركة Petrochina الصينية، النص العربي للعقد المنشور على الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.
القاسم، فاروق (2010). النموذج النرويجي: إدارة المصادر البترولية. الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
الكعبي، جواد كاظم (2014). مسارات الثقافة التنظيمية في إدارة الجامعة المعاصرة. الناشر: دار الكتاب الجامعي، دولة الإمارات العربية المتحدة – الجمهورية اللبنانية.
الكعبي، جواد كاظم (2017). المدخل الإستراتيجي في إدارة صناعة النفط. الناشر: دار الكتاب الجامعي، دولة الإمارات العربية المتحدة – الجمهورية اللبنانية.
لفته، جواد كاظم (2004). الإدارة. الناشر: دار نشر “فيلي”، موسكو.
……………………………………………………………………………………
(*)،اكاديمي، أستاذ مساعد في قسم إدارة الأعمال، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة / العراق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here