اللغة العربية والطفًرة القرآنية ! (*)

3089
اللغة العربية والطفرة القرآنية ! * بقلم د. رضا العطار

نعم القرآن نقل اللغة العربية من طور الى طور، حولها من لغة شعر الى لغة دين، واهًلها لتكون في مرحلة تالية لغة حضارة . . وتديًين اللغة العربية قد يكون هو التطور الاهم في تاريخها باطلاق. وقد لا نجد له مثيلا في تاريخ اللغات. والمقارنة حتى مع دور التوراة بالنسبة الى العبرية، او الفيدا بالنسبة الى السنسكريتية، او الكوميديا الالهية بالنسبة الى الايطالية. لا تصح، فهذه نصوص تاسيسية، وبدونها ما كانت وجدت اللغة المعنية او بقيت.
اما النص القرآني فلا يمثل من الناحية اللغوية بداية مطلقة، بل طفرة في التطور، او بالتعبير الخلدوني نشأة مستأنفة.
وبما اننا معنيون هنا بأشكالية الثبات والتطور، فلنقل ان النص القرآني الذي ضمًن للعربية ولادة ثانية لم يعتقلها ولم يمسكها عن النمو والتطور اللاحق، ورغم قوته التثبيتية الهائلة فإن ما كان للغة العربية قاعدة هبوط، بل قاعدة انطلاق
. . . فمع القرآن، ولا سيما بعد تثبيته في مصحف، غدت العربية لغة مكتوبة. وكتابة اللغة هي فاتحة مسارها الكبير الى العقلنة.
من الممكن ان نطلق على الحقبة الممتدة من آخر القرن الاول الى آخر القرن الخامس تسمية عصر اشتغال العقل
المكوًن. وهذه التسمية المستعارة عن لالاند مباشرة تغنينا عن اسم (عصر التدوين) الملتبس ابستمولوجيا، إذ يوحي وكأن الاشياء كانت جاهزة في ذلك العصر وليست برسم الاختراع. وان كل المطلوب هو نقلها من ذاكرة الرجال السريعة النسيان الى ذاكرة الورق الاكثر صلابة. والواقع ان الورق نفسه لعب دور (القابلة) في توليد العقل المكوًن.
فمع فتح بلاد سمرقند بدأ استيراد ورقها المشهور قبل ان تنشأ المعامل محليا لتصنيع الورق الصيني. وقد جعل الورق من الثقافة مادة (رخيصة) وفي متناول الجمهور الواسع. وقد تضامنت هذه الدقرطة التقنية مع الدقرطة السياسية النسبية.
فمع انتقال الحكم من بني أمية الى بني العباس عام 132 للهجرة فتحت امكانية المشاركة في الدولة امام جميع عناصرها الإثنية التي كان العرب انفسهم قد باتوا يمثلون بينها أقلية. وهذه العناصر، التي ما اوتيت في اللغة فطرة العرب، ما كان لها من مدخل آخر الى العربية غير تحكيم العقل. وهكذا رأى النور علم النحو الذي هو في جميع الحضارات، مؤشر مهم على قوة اشتغال العقل المجرد. ومع تحول العربية من الفطرة الشفهية الى لغة عقل مكتوب، دخلت في سيرورة تطور مذهل . . . اولا بالمعنى المورفولوجي للكلمة، فكما ان القرآن حرر العربية في الطور السابق من إسارها الشعري، كذلك فقد تحررت العربية في الطور الجديد من اسارها السوري لتتحول الى لغة نثرية مطابقة لاحتياجات العقل المكتوب.

فقد كان على اللغة العربية ان تواجه وتلبي احتياجات الادارة والدواوين بما تقتضيه من مصطلحات تقنية متخصصة. كما كان عليها ان تطوع نفسها لتتقبل ترجمة المئات بل الآلاف من المؤلفات الموضوعة اساسا بالفارسية والهندية واليونانية. وكان عليها على الاخص ان تكون معجما جديدا يتسع لمصطلحات جميع العلوم مثل الفقه والكلام والنحو والفلك والحساب والطب والكيمياء والمنطق والفلسفة. فقد كان على العربية ان تثبت انها لغة ذات قدرة انقلابية على التطور . . وبالفعل وفي نحو ثمانين سنة من بدء العهد العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية.
والعرب الذين لم يكونوا يعلمون شيئا من من مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئا من منطق ارسطو وفلسفته، اصبحوا في قليل من الزمن يعبرون بالعربية عن ادق نظريات إقليدس وحساب الجيب الهندي، وطب جالينوس وسياسة كسرى.

لقد تطورت اللغة العربية حتى اصبح في مقدور ابن سينا ممكنا ان يكتب موسوعتيه (القانون) في الطب (الشفاء) في الفلسفة. وللتأكيد على الصفة العلمية للغة العربية حمل البيروتي على عقد مقارنة تفاضلية بين اللغة العربية واللغة الفارسية قائلا : (انا في كل من هاتين اللغتين دخيل ومتكلف، والهجو بالعربية احب إليً من المديح بالفارسية. وسيعرف مصداق قولي من تأمل كتاب علم نقل الى الفارسي كيف ذهب رونقه وكسف باله واسود وجهه وزال الانتفاع به، إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للاخبار الكسروية والاسمار الليلية).

* مقتبس بتصرف من كتاب اشكاليات العقل العربي لجورج طرابلسي، دار بترا دمشق 2010 طبعة ثانية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here