شباب الموصل يُلبسون مدينتهم كساء الحياة بدل رداء الحرب

  • شهر العسل في ظروف الحروب يمر سريعا، النصر الذي أعلنته الحكومة العراقية على تنظيم داعش كشف دمارا كبيرا وحاجة لحملة إعمار وبناء بجهود دولية، فكانت المبادرة من شباب المدينة الذين أنطلقوا في تنظيم الفعاليات والمبادرات التطوعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبعث روح الحياة بين الناس في مدينة الكتب والأدب

الموصليون أهل الفرح والرقص

الموصل (العراق)- يحاول الشباب الموصليون نزع ثياب الحرب الرثة عن مدينتهم وإكساءها حلة جديدة تبعث على التفاؤل، مبادرات الشباب هي نتاج الحرب وردة فعل عليها من جيل تلقى صفعة مؤلمة وهو يرى مدينته تدمر بأبشع الطرق.

وينظم شباب موصليون عدة فعاليات لاستعادة الحياة إلى مدينتهم المدمرة، ومن هذه الأنشطة استقبال قافلة الحرية التي وصلت إلى الموصل في عيد الفطر وفعاليات أخرى اهتمت بعمليات إغاثة ومحو الرسومات التي تركها تنظيم داعش، كما نظموا احتفالات تعدّ الأولى من نوعها بعد تحرير المدينة من المتطرفين، وذلك في مناسبة اليوم العالمي للشباب.

وقال الناشط عماد صباح كوركيس في هذه المناسبة إن “الشعوب التي مرت بتجارب الحروب عادت ونهضت من تحت الركام بعدما اتحدت سواعد أبنائها وبناتها ماسكين معاول البناء لإعمار ما خربته الحرب”. وأضاف أن “الفعالية التي أقامها الشباب في هذا الوقت ستخلد في التاريخ مثلما خلد المحارب الأشوري الذي دافع عن سور نينوى وأضاءها بمكتبته وعلومه”.

وأشار إلى أنه “لم يكن يحلم بأن يقف مجددا في مدينة نينوى الحدباء، لكن ذلك تحقق وهو يقف على قبور المجرمين الذين هجّروه، مستشهدا بالمقطع الشعري للشاعر الجواهري الكبير (باقٍ وأعمار الطغاة قصارُ)”.

في الكتب علوم وفلسفة وآداب يخافها الدواعش

 وقال الناشط المدني حسين النجار الذي قدم من بغداد بهذه المناسبة إن “عمل الشباب في الموصل يهدف إلى إرساء علاقات جديدة، وما يحدث الآن هو عبارة عن مصالحة مجتمعية، لأن الذي يجري هو تجاوز الهويات الفرعية مع تقديم هوية المدينة فقط، ولا يوجد أي قيد مسبق على المشاركة في الفعاليات الشبابية”، مؤكدا أن “ذلك يعني المواطنة والتآخي والعيش المشترك”.

وأضاف النجار، أن “الشباب في مدينة الموصل يقدّمون معالجة ملموسة لكل التحديات ما بعد داعش، لأن هذه الفعاليات تجتثّ الإرهاب والتطرف وهم يتطلعون إلى مستقبل يقطع الطريق أمام عودة الماضي”.وأشار إلى أن “الشباب يصنعون السلام فعلا، ولهذا جاء عنوان فعالية الأمم المتحدة هذا العام (الشباب يصنعون السلام)”.

من جانبها دعت الشابة الموصلية رفل الدليمي نساء الموصل إلى أهمية “الخروج إلى الشارع ومساعدة الموصليين في بناء مدينتهم وإلى تحدّي كل العقبات التي تقف للحيلولة دون النهوض بدور النساء الموصليات”.

وأكدت أن “للمرأة دورا كبيرا في صناعة القرار والبناء فيما لو أحسنت المرأة المساهمة في ذلك”، لافتة إلى أن “الشباب هم الطاقة الإنتاجية وهم التنمية، ويجب أن يكون المستقبل متميزا وعلى الشباب أن يعملوا وألا ينتظروا وألا يعوّلوا على الآخرين، نريد للآخرين أن يروا مدينتنا بصورة أفضل، نريد من الجميع أن يتحدثوا عن المدينة”.

ويجري الاستعداد في هذه الفترة لإقامة أكبر “مهرجان للقراءة”، وهو الاسم الذي اختاره المنظّمون للتظاهرة التي تحتضنها جامعة الموصل في سبتمبر، وتشتمل على حفلات موسيقية وغنائية، وتوزيع خمسة آلاف عنوان لكتب في جميع التخصّصات.

منقذو الكتب

بدأ كل شيء بدعوة نشرتها صفحة موصلية على فيسبوك، وتلقفتها مجموعة شباب وبنات، تجمَّعوا سريعا لإقامة فعاليات ثقافية بهدف الدعوة إلى إعادة إحياء مكتبة جامعة الموصل، ثم انتهى بهم الحال إلى انتشال الآلاف من الناجين من تحت الرماد.

“رأينا الإعلان على صفحة عين الموصل فقررنا المشاركة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، التقينا أول مرة في 27 أبريل الماضي أمام المكتبة المركزية، وقد هالنا ما شاهدناه من دمار فيها، كانت الكتب عبارة عن رماد”، يقول أوس إبراهيم أحد المتطوعين في حملة “منقذو الكتب”.

أصوات كثيرة دعت إلى إعمار الجامعة بعد تحرير الجانب الأيسر لمدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش وهي من أهم الجامعات العراقية بعد تعرّضها لدمار كبير جرّاء القصف الجوي، فقد اتخذها مسلحو داعش مقرّا رئيسا لهم، وفي اللحظة الأخيرة من هزيمتهم أحرقوا البعض من أبنيتها من بينها المكتبة المركزية.

خلال مدة 32 شهرا من حكم داعش للموصل، تمّ إغلاق حرم الجامعة، وهو يقع داخل منطقة مسوّرة بالأشجار بالقرب من نهر دجلة، ومن ثم أحرق المكان. وبصورة متعمدة تماما، أصيبت المكتبة بأشد الأضرار، فقد سعى التنظيم المتطرف إلى القضاء على الأفكار القابعة داخل تلك الجدران، أو منع الاطلاع عليها.

فنانون يعزفون لحن الفرح من رحم الأنقاض

 وكان هدف الحملة في البداية تنظيم فعاليات ثقافية بسيطة في الجامعة بينما الحرب تدور رحاها في الجانب الأخير من المدينة، يضيف إبراهيم “الخطة تغيّرت تماما إذ سمعنا بوجود كتب لم تحترق، دخلنا المكتبة بعدما تأكدنا أنها خالية من أي متفجرات، فكان كل شيء متفحما لأول وهلة، وبعد البحث اكتشفنا أن أعدادا كبيرة من الكتب قد نجت”.

غرفة دردشة على فيسبوك تضم (23) عضوا، تلك هي غرفة عمليات “منقذو الكتب” حيث يتم تحديد مواعيد العمل، لكن قبل أن تبدأ عملية الإنقاذ انهمك الفريق في إيجاد بديل لنقل الكتب الناجية، فوقع الاختيار على ملعب خماسي مغلق لكرة القدم اتخذه تنظيم داعش من قبل لخزن ما يصادره من ممتلكات المدنيين وما يسرقه من المؤسسات العامة والخاصة.

ويصف إبراهيم شعوره بالقول “نظفنا الملعب جيدا وبدأنا ننقل إليه الكتب، كنا كالمنقذين الذين يمنحون فرصة جديدة للحياة لإنسان محاصر بالموت تحت الأنقاض”. مكتبة الموصل كانت تضم مليون كتاب وخرائط تاريخية ومخطوطات قديمة.

ومن بين كنوز المكتبة كانت هناك نسخة من القرآن من القرن التاسع للهجرة، بالإضافة إلى الآلاف من المجلدات العصرية في العلوم والفلسفة والقانون والتاريخ الإنساني والأدب والفنون. وضمّت مكتبة الموصل 600 ألف عنوان باللغة العربية، وباقي الكتب كان معظمها منشورا باللغة الإنكليزية.

هذه الثروة تحوّلت كلها بين ليلة وضحاها إلى رماد خلال سيطرة الدواعش على المدينة، وكان الجميع يعتقدون بأنه لم ينج شيء منها، حتى أعلن فريق “منقذو الكتب” نتائج حملتهم التي أسفرت عن إنقاذ أكثر من 34 ألف كتاب.

لقد انتهت مهمة هؤلاء المتطوعين، لكن الحملة الأكبر ستكون مهمة شاقة وهي إعادة إعمار المكتبة المركزية وبقية مرافق الجامعة، وهذا بحاجة إلى جهد حكومي ودعم دولي.

موسيقى من رحم الحرب

عندما بدأ منقذو الكتب حملتهم رافقهم أربعة موسيقيين عزفوا بحرية كبيرة، هؤلاء كانوا قبل أشهر يجتمعون سرا في منزل ليستلوا آلاتهم الموسيقية من أكياس سوداء ويدندنوا بصوت منخفض، خوفا من جذب انتباه الدواعش المتوقع مرورهم من أمام المنزل في أي لحظة، فينتهي الحال بهم إلى جزار التنظيم.

إلى مشهد التخفي والتدريب سرا تعود بداية فرقة “أوتار نركال” التي أعلن عن تأسيسها بالموصل في مارس الماضي، أربعة شبان عشرينيين، هم حكم ومصطفى عازفا غيتار وخالد يعزف على العود ومحمد عازف كمان، هؤلاء أعضاء الفرقة التي تعدّ أول فرقة موسيقية تتشكل بعد تحرير الموصل من داعش.

يقول محمد لـ”نقاش” حول ظروف عملهم في ظل وجود داعش “في مدة حكم التنظيم، كنت ألتقي وصديقي خالد، نعزف بصوت منخفض بينما يراقب أحد أصدقائنا الوضع خارج المنزل تحسبا لمجيء عناصر الحسبة الذين يبحثون عن مخالفين لتعاليمهم. رضينا بالقليل من السعادة وسط تلك الحرب وحالة الكبت المطبق، نفترق على أمل اللقاء بعد أسبوعين أو أكثر”.

داعش يحرّم الموسيقى والفن عموما، وقد شنّ عناصره في بداية سيطرتهم على الموصل حملة لإتلاف كل الآلات الموسيقية في المدينة، وإذا ما قبضوا على شخص يعزف فان عقوبته قد تصل إلى القتل.

عندما بدأت عمليات تحرير الموصل في أكتوبر 2016، لم يعد بالإمكان العزف ولو همسا، كان الناس مأخوذين بالحرب كل همّهم النجاة منها، الكثيرون خسروا حياتهم وآخرون خسروا ممتلكاتهم، بينما فقد البعض من الموسيقيين آلاتهم الموسيقية.

الشباب الذين أسسوا هذه الفرقة سرعان ما حصلوا على آلات جديدة، والتأم الفريق أول مرة بعد نحو شهر من تحرير الجانب الأيسر، يقول حكم عازف الغيتار “كنّا أول من يعزف الموسيقى في شوارع الموصل، ثم عزفنا أمام المكتبة المركزية التي احرقها المتطرفون، وأمام جمهور موصلي غفير في حفل استقبال قافلة ضمت نحو 150 ناشطا من بغداد والمحافظات الأخرى”.

يبدو أن العازفين الشباب لفتوا الانتباه سريعا، إنهم الوحيدون كفرقة في المدينة تقريبا ويجذبون الناس إليهم حيثما عزفوا، لذا وجّهت أكاديمية “ياس أكاديمي” الأميركية دعوة لهم للمشاركة في برنامج تدريبي بمدينة أربيل، وبسبب تميّزهم حصلوا على “توصية” أي أفضل شهادة يمنحها المشروع للمشاركين.

الموسيقى لا تموت

 هؤلاء الشبان يسعون إلى تحقيق حلمهم الموسيقي الكبير وتوسيع فرقتهم لإيصال رسالة الفن والسلام من مدينة دمرتها الحرب والتطرف. يقول حكم “نحن اليوم أحرار، سنعمل كل ما نستطيع في سبيل رسالتنا”.

وسبق أن قدّم عازف الكمان أمين مقداد (28 عاما) عرضا موسيقيا هو الأول له منذ أن سيطر تنظيم داعش على الموصل وسط أنقاض موقع أثري يقدّسه المسلمون والمسيحيون في المدينة.

وعزف أمين، ألحانا قال إنه ألفها سرا عندما كان يعيش تحت حكم داعش حتى قام مسلحو التنظيم بمصادرة آلاته الموسيقية، ما دفعه إلى الفرار إلى بغداد لكنه عاد إلى مدينته الموصل.

وحظر التنظيم الترفيه منذ أن سيطر على المدينة بما في ذلك عزف الموسيقى ومشاهدة التلفاز والأقمار الصناعية واستخدام الهواتف والتدخين، وكان يعاقب من يخالفون ذلك بالقتل أو الجلد.

وقال “أودّ أن أستغل الفرصة لأبعث رسالة للعالم وأوجّه ضربة للإرهاب وكل الأيديولوجيات التي تقيّد الحريات بأن الموسيقى شيء رائع. وكل من يعارض الموسيقى يروّج للقبح”.

وأقيم الحفل، الذي انتشرت صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، في موقع أثري يعتقد أنه المكان الذي دفن فيه النبي يونس والذي فجّر المتشددون أجزاء منه في 2014. وقال مقداد “هذا المكان للجميع وليس لطائفة واحدة.. تنظيم داعش لا يمثل أي دين لكنه أيديولوجية تقمع الحرية”.

وقالت تهاني صالح التي أشارت إلى إنها اُجبرت على التخلي عن دراستها الجامعية “كان الحفل كالحلم. أردت أن أحضره لأبعث برسالة بأن الحرب لم توقف الحياة في الموصل. يمكنك أن ترى الدمار هنا، لكننا لا نزال نريد أن نكون سعداء. نريد سماع الموسيقى”. بهذه المبادرات الشبابية ينتظر الموصليون أن تطرد مدينتهم كوابيس الحرب والدمار وقصصها الحزينة لتعود إلى عالم الفرح والموسيقى والثقافة.

متابعة صوت العراق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here