هؤلاء في حياتي (٣٠) البطل (أبو الفوح).. هل تتذكره يا صلاح عبد الرزاق؟ سليم الحسني

هؤلاء في حياتي (٣٠)
البطل (أبو الفوح).. هل تتذكره يا صلاح عبد الرزاق؟
سليم الحسني

من بيوت مدينة الثورة (الصدر) الفقيرة، من شوارعها المتربة المهملة، برز شاب قوي البنية شجاع لدرجة لا توصف، انتمى لحزب الدعوة الإسلامية، وخاض المعارضة ضد النظام القمعي، ببطولة المتحدي الذي يطارد الموت ويمر عليه ساخراً.
من تراب الأرض الطيبة صنع (صبري الربيعي) قلبه، ومن هوائها ملأ رئتيه، فجاءت فطرته سليمة صافية. يعيش مع الفقراء من أجلهم، يجوع لكي يشبع جاره، ويعرى لكي يلبس رفيق دربه.

في عام ١٩٧٩، حينما اشتدت المطاردة على الدعاة، وضاقت بهم مساحة العراق، هاجر الكثير منهم الى إيران في ظروف طارئة من الملاحقة بحيث لم يكن بمقدورهم سوى الهروب عبر الحدود، فبقيت عوائلهم بلا معيل، يتهددها الخطر من مداهمة الأجهزة الصدامية وانتقامها. هنا كان البطل (صبري الربيعي/ أبو عارف الثوري) رجل المهمة الصعبة، بعضلاته المفتولة، وبقلب الأسد الذي يخفق في صدره، وبشجاعته النادرة، كان يتفقد هذه العوائل، فيقوم بتهريبها الى إيران، عبر طرق صعبة خطرة، يجتاز المفارز ونقاط التفتيش، يقطع المسافات في ظلام الصحراء والتلال والهضاب والوديان، يحرس العوائل بعينيه الحادتين، ويده على الزناد، فمن يقترب من ضعنه من أزلام السلطة، فلا نجاة له من بطشة (صبري الربيعي) الحارس الأمين لعوائل اخوانه المهاجرين.

وحين يصل الى الضفة الآمنة ويسلم الأمانة، لا يشعر بالراحة والاستقرار، فأمامه مهمة أخرى، هي أن يسأل المهاجرين عن عوائلهم ويأخذ العناوين، ليعود يكرر المحاولة تلو المحاولة، وحين اطمئن بأنه أدى آخر المهمات في هذا الاتجاه، كان رحلته الأخيرة نحو المهجر بصحبة عائلته، فلقد آثر أن تكون آخر عائلة يخرجها من العراق. لقد أبت شهامته الأسطورية أن يفضّل عوائل اخوانه على عائلته، ومنعته مروءة الرجال أن يقدم غيره على نفسه.
وحين انتهى من ذلك، لم ينطق بكلمة واحدة عن أسماء الذين قدم لهم هذه الخدمات الكبرى، لا يريد أن يضيع أجره بالكلام، ولا يريد أن يُسجل فضلاً على أحد، وهو صاحب الأفضال في انقاذ الكثير من العوائل وجمع شملها، وقد وصل العديد منهم الى مواقع المسؤولية والمراكز الحكومية بعد عام ٢٠٠٣.

في سنوات هجرته الطويلة، عاش فقيراً، يتجول في مواقع العمل المسلح ضد النظام الصدامي، ويعمل بمختلف الأعمال من أجل توفير بعض ما تحتاجه عائلته الكبيرة، ليسد قسماً من رمقهم، فقد رافقه الفقر والعوز، وبادله الزمن الأجدب العداء، فما كان يستطيع شراء ملابس بسيطة لنفسه أو لأفراد أسرته، فيشبعهم بالقناعة، ويكسوهم بعزة النفس.
كان وهو في أشد حالات الضيق والعوز لا تظهر على ملامحه سوى الابتسامة، ولا يوزع على أصدقائه سوى النكتة والمرح، مستفيداً من قابليته الفنية، في التمثيل وتقليد الأصوات بموهبة فطرية صرفة. وقد اختار لنفسه اسماً حركياً (أبو الفوح) ليخفف بلفظه هموم اخوانه، وكان ذلك أحب الأسماء الى قلبه الكبير.
تتراكم الهموم والاحباطات على مجاميع المهاجرين، فيدخل عليهم (أبو الفوح) ينثر عليهم الأمل بسخاء، ولا يتركهم إلا وقد شع من كل وجه وهج الأمل.

سقط النظام وعاد الى أرضه وأهله، يغرز قدميه في أزقة الطين وشوارع التراب، يطرق أبواب البيوت المتداعية، ليقدم المساعدات لهم، يتفقدهم ويسأل حاجاتهم، ثم يبذل جهوده لتلبية ما يحتاجون. حتى حصل على وظيفة في محافظة بغداد خلال فترة السيد نوري المالكي، لكن من سوء حظه أن المحافظ كان من فئة معاكسة مناقضة للطيبة والنزاهة وحب الخير. فتعرض للظلم على يد (صلاح عبد الرزاق)، مع أنه كان لا يطلب منه سوى تسهيل معاملات المحتاجين والفقراء في الأحياء البائسة.

كانت صحة البطل (صبري الربيعي/ أبو الفوح) قد تدهورت، وأعياه المرض واتعبته الحياة، لكن همته العالية لا تفتر عن السعي في قضاء حاجات الفقراء، فدخل ذات يوم مكتب المحافظ صلاح عبد الرزاق يطلب منه توفير الخدمات لبعض الفقراء والمحتاجين، فكان جواب المحافظ أن أمر حمايته بإخراجه من مبنى المحافظة بالضرب والعنف والإهانات والشتائم، وأصدر أمراً إدارياً بمنع دخوله مبنى المحافظة. ولو أن (أبو الفوح) كان في عافيته وصحته، لأطاح بهم جميعاً، ولأسقط المحافظ المغرور بنظرة واحدة من عينيه.
بعد فترة قصيرة توفي البطل الشجاع (صبري الربيعي/ أبو الفوح) توفي كمداً حزيناً صابراً على الظلم الذي تعرض له.
كل شريف من اصدقائك أيها البطل يقبّل ثراك الطاهر، فلم يبغضك إلا مسخ فاسد.

لإستلام مقالاتي على قناة تليغرام اضغط على الرابط التالي:
https://telegram.me/saleemalhasani

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here