شكالية اللغة العربية وطفرة العقل المكوًن ! (*)

3090
اشكالية اللغة العربية وطفرة العقل المكوًن ! * بقلم د. رضا العطار

لقد اصابت العربية في (عصر الانحطاط) تطورا، ولكن الى الوراء إن جاز التعبير. ففي ذلك العصر كان العقل المكوًن توقف عن الاشتغال، فيما خلا حالات فردية مثًلها ابن خلدون مثلا. وانكفأ العقل المكون بغلق الدائرة تلو الاخرى على نفسه ويأكل من مادة ذاته. وقد انعكس اثر ذلك واضحا في اللغة التي سقطت في مستنقع التصنيع والتصنع. وتغلبت فيها اللغة المؤسسة على اللغة المرتجلة. فقد باتت اللغة بدورها تأكل من مادة ذاتها بدلا من ان تغذي من مادة الفكر. وانفصل فيها الشكل عن المضمون، واستقل لنفسه بميكانيكا خاصة به من التسجيع المتحذلق. ورجحت كفة اللغة كمستودع من التعابير الجاهزة على كفة اللغة كطاقة تعبيرية لا متناهية. ومن حسن الحظ ان هذا الاستحجار الذي اصاب اللغة العربية اقتصر على المجال الادبي ولم يمتد إلا لماما الى المجال العلمي. ومن ثم فقد تسنى للعربية ان تستعيد بسهولة مرونتها وتنفتح من جديد على افق تطور لا محدود حالما وجهت بشرط تاريخي جديد تمثل بصدمة الحداثة واللقاء مع الحضارة الغربية في مطلع القرن التاسع عشر.

يرى جرجي زيدان ـ وكان اللغوي الوحيد في عداد رجالات النهضة ـ انه (لم يمر على اللغة عصر أثر في الفاظها وتراكيبها تلأثير النهضة . . . لأنها جاءتها على غرة دفعة واحدة، فانهالت فيها العلوم انهيال السيل، وفيها الطب والطبيعيات والرياضيات والعقليات وفروعها، ولم تترك للناس فرصة للبحث عما تحتاج اليه تلك العلوم من الالفاظ الاصطلاحية مما وضعه العرب في نهضتهم الماضية ولا لوضع الالفاظ الجديدة)
والواقع ان ما ميًز النهضة الحديثة عن القديمة ليس فقط طابعها الفجائي، بل كونها ايضا جاءت من الخارج على حين ان القديمة جاءت من الداخل اذا صح التعبير. وهذا الطابع الخارج جعل النهضة الجديدة لا تخضع لعملية التحكم والضبط التي تميزت بها مسيرة النهضة الماضية. فواضعوا اللغة القدامى كانوا ـ ومثالهم الخليل بن احمد ـ مؤسسين للعلوم وللغة معا، بينما كان واضعوا اللغة المحدثون محض نقلة ومترجمين. ولا سيطرة لهم تامة بالتالي على مادة عملهم ومن هنا القلقلة في نتاجهم اللغوي الذي بقى في حالات كثيرة بلا تأصيل. ومع ذلك فإن العمل الذي قاموا به كان هائلا . فقد حرروا العربية من موروثها المحنط من عصر العقل المكوًن وانقذوها في الوقت نفسه من مصير كان يمكن ان يكون مشابها لمصير اللاتينية عندما آلت الى لغة ميتة. وبالفعل كانت العربية الفصحى قد غدت كاللاتينية الآفلة محدودة الانتشار بحكم الأمية والسيطرة العثمانية معا.
كانت الثقافة الدينية تدور حول نفسها وتجتر ماضيها القريب ولا تكاد تتجاوز الهوامش والحواشي والشروح.
وكان الادب المدني او الدنيوي يدور في الدائرة نفسها، ويتنافس اصحابه في ميدان المحسنات البديعية والتلاعب اللفظي وتكرار الصيغ الموروثة.
ورغم ان صاحب الشاهد الاخير ليس لغويا، فإن توصيفه للانقلاب اللغوي في عصر النهضة يكاد يكون نموذجيا.
فما عرفته العربية من تطور مع طفرة عصر النهضة، يصح وصفه بانه ولادة ثانية، إذ ان هذه اللغة المسجوعة المثقلة بالزخارف والزينة لم تلبث ان نزعت عنها اثقالها وتجردت من زخارفها المسطنعة وصارت مرسلة طليقة وخف التزمت في وجوب التزام الصحاح من الالفاظ فانفسح المجال لآلاف الالفاظ المعربة والدخيلة والعامية بعد شيء من الصقل وسمح لها ان تحتل مكانها بين الالفاظ الاصلية . . . وزال قدر كبير من التحرج في المصطلح النحوي والصرفي، وحدث قدر كبير من التساهل في الصيغ والتراكيب، فشاعت في العربية المكتوبة اساليب جديدة تمت بصلات الى العامية والى اللغات الاوربية. واهم من هذا كله ان اللغة العربية اقتحمت ميادين الثقافة كلها من علوم وآداب وفنون، ودارت المطابع في شرق الوطن العربي وغربه تصدر آلافا من صحف يومية ومجلات اسبوعية وشهرية، وتضخمت المكتبة العربية الحديثة تأليفا وترجمة تضخما هائلا، واصبحت ملايين الكتب المدرسية في ايدي الصغار في مدن العرب وقراهم، بل صار المستمع الأمي يفهم ما يوجه اليه في الاذاعة من نشرات اخبارية واحاديث باللغة العربية.
* مقتبس من كتاب اشكالية العقل العربي لجورج طرابلسي، بناية النور شارع العويني بيروت لبنان 2011

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here