الى التمرًد ؟ لا بل التسليم الى الله ! (*)

2819
الى التمرد ؟ لا بل التسليم الى الله ! (اقتباس)
بقلم د. رضا العطار

للطبيعة حتمية تحكمها، والانسان قدره، والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للاسلام.
فهل القدر موجود . . واي شكل يتخذ ؟ دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقًى من خططنا العزيزة على انفسنا وما بقى من احلام شبابنا ؟ ألم نأت الى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك، ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية، ومُنحنا قدرا من الذكاء قلً او كثر، وملامح جذابة او منفرة، وتركيبة بدنية رياضية او قزمية، ونشأنا في قصر سلطان او كوخ شحاذ، في اوقات عصيبة او زمن سلام، تحت سيطرة طاغية جبًار او أمير نبيل، وفي ظروف جغرافية وتاريخية لم يتم استشارتنا بشأنها ؟ كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا . . وكم هو هائل وغير محدود قَدرنا ؟

لقد وُضع الانسان في هذا العالم وقدًر له ان يعتمد في وجوده على كثير من الحقائق التي لا يملك عليها سلطانا. وتتأثر حياته بعوامل قريبة منه وعوامل اخرى نائية عنه اكثر مما يتخيل.
في اثناء اقتحام الحلفاء لأوربا سنة 1944 (خلال الحرب العالمية الثانية) حدث للحظات قليلة اضطراب شمل جميع الاتصالات اللاسلكية، وكان من الممكن ان يسبب هذا كارثة تقضي على العمليات العسكرية التي كانت قد بدأت تشق طريقها. ولم يعرف احد سبب هذا الاضطراب الا بعد عدة سنوات، حيث عُزي هذا الاضطراب الى انفجار حدث في مجموعة نجمية يُطلق عليها مجموعة (اندروميدا)، علما بان هذه المجموعة تبعد عن كوكبنا عدة ملايين من السنوات الضوئية. ويوجد على الارض نوع من الزلازل الفاجعة يرجع الى تغيًرات معينة تحدث على سطح الشمس.
فكلما نمت معرفتنا عن العالم، تزايد ادراكنا باننا لا يمكن ان نكون اسياد مصائرنا. حتى مع افتراض اعظم تقدًم ممكن للعلم، فان مقدار ما سيكون تحت سيطرتنا من عوامل لا يساوي شيئا اذا قورن بالكم الهائل من العوامل الخارجية عن هذه السيطرة.
ان حجم الانسان لا يتناسب مع حجم هذا الكون الفسيح، وعمر الانسانية كلها ليس وحدة قياس لما يجري في هذا الكون من احداث. وهذا هو سبب ما يعتري الانسان من شعور دائم بالخطر، وما ينعكس على نفسيته من حالات التشائم والتمرد واليأس واللامبالاة، او التسليم لله.
ان الاسلام يجتهد في تنظيم هذا العالم عن طريق التنشئة والتعليم والقوانين التي شرعها، وهذا هو مجاله المحدود ، اما مجاله الرحيب، فهو التسليم لله.

ان العدالة الفردية لا يمكن ان تكون كافية في اطار هذا الوجود المحدود. اننا قد نتبع جميع القواعد والتعاليم الاسلامية والتي من شأنها ان تمنحنا الساعدة في الدارين، وقد نضيف الى ذلك اتخاذ جميع الاجراءات الطبية والاجتماعية والاخلاقية، بسبب التشابك الرهيب للاقدار والرغبات والحوادث فاننا سنظل نُصاب في اجسامنا وفي نفوسنا بكثير من المعاناة والمكابدات، فما الذي يمكن ان يُعزًي أمًا فقدت ابنها الوحيد ؟ واي سلوى ممكنة لرجل اصيب في حادثة فاصبح قعيدا معوًقا ؟
لا بد ان نكون على وعي بظروفنا الانسانية، فنحن منغمسون في اوضاع معينة. وقد استطيع ان اعمل على تغيير هذا الوضع، ولكن تبقى هناك اوضاع لا تقبل بطبيعتها التغيير. قد تتخذ هذه الاوضاع اشكالا مختلفة وقد تنحجب عنا قوتها الغالبة، ولكن تبقى امامنا هذه الحقائق : انني لا مفرً من ان اموت، ولا بد ان اعاني، وان اناضل، إنني ضحية الحظ، إنني اتعثًر دون رغبة مني في مشاعر الذنب، هذه الظروف الاساسية في حياة الانسان يُطلق عليها (الاوضاع الحدية). هذا ما يقوله الفيلسوف (كارل جاسبر) – – ومن المؤكد ان واجب الانسان هو ان يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذا العالم بمقدوره ان يحسًنه. ومع ذلك فسيظل اطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في اكثر المجتمعات كمالا. والانسان على احسن الفروض قد يستطيع ان يقلل من كمْ المعاناة في هذا العالم. ومع ذلك سيبقى الظلم والالم مستمرين، ومهما كانا محدودين، فلن يتوقفا عن ان يكونا سببا للتجديف والانحراف. (البير كامو).

الأيمان بالله او التمرد – اجابتان مختلفتان للسؤال نفسه. في التسليم لله يوجد شيء من كل حكمة انسانية فيما عدا واحدة : تلك هي التفاؤل السطحي، فإن التسليم هو قصة المصير الانساني، ولذا فإن التشاؤم اذا كان نافذا اليه،
ينتهي مصيره الى التراجيديا المأساوية. هذا ما يقوله الفيلسوف (جاسيت) بعد ان قام بتحليله الى اعمق اعماقه.
الاعتراف بالقدر، استجابة مثيرة للقضية الانسانية الكبيرة التي تنطوي في جوهرها على المعاناة التي لا مردً لها. انه اعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمًل والصمود والتجمًل بالصبر. وفي هذه النقطة يختلف الاسلام اختلافا حادا عن المثالية المصطنعة وعن الفلسفة الاوربية التفاؤلية وحكايتها الساذجة عن (الافضل من كل ما هو ممكن في العالمين). ذلك لان التسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه.

كنتيجة لاعتراف الانسان بعجزه وشعوره بالخطر وعدم الامن يجد ان التسليم لله في حد ذاته قوة جديدة وطمأنينة جديدة. ان الايمان بالله والايمان بعنايته يمنحنا الشعور بالامن الذي لا يمكن تعويضه باي شيء آخر. ولا يعني التسليم لله سلبية في موقف الانسان كما يظن كثير من الناس خاطئين.
في الحقيقة ان كل السلالات البطولية كانوا من المؤمنين بالقدر. (آمرسن) – – ان طاعة الله تستبعد طاعة البشر والخضوع لهم. انها صلة جديدة بين الانسان وبين الله، ومن ثم بين الانسان والانسان.
انها ايضا حرية يكتسبها الانسان بمواصلته الايمان بقدره. ومواصلة الكدح والجهاد سمتان انسانيتان معقولتان، وفيهما يتحقق الصفاء و الاعتدال اذا نحن آمنا بان النتيجة النهائية ليست بأيدينا، انما علينا ان نسعى ونعمل، اما الباقي فبين يدي الله.

فلكي ندرك حقيقة وضعنا في هذا العالم، علينا ان نستسلم لله، وان نتنفس السلام، وإلا يحملنا الوهم والشك على ان نبدد جهودنا في الاحاطة بكل الاشياء ومحاولة معرفة اسرارها، فسرها عند الله، وكل شيء خاضع لارادته، علينا ان نتقبل المكان والزمان اللذين احاطا بميلادنا، فالزمان والمكان قدرُ الله وارادته. ان التسليم لله هو الطريقة الانسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها ولا معنى . . . ان الأيمان بالله هو الوسيلة الوحيدة من التحرر من درء التمرد والقنوط والعدمية وتقبًل القدر المحتوم.

ان الاسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الانسان بها، وانما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه : من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني – – – من قوة النفس في مواجهة محن الزمان – – من التهيؤ لاحتمال كل ما ياتي به الوجود – – من حقيقة التسليم لله. انه استسلام لله – – والاسم للاسلام !
* مقتبس من كتاب (الاسلام بين الشرق والغرب) لعلي عزت بيجوفيتش.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here