شارع الذكريات (10): عبد الكريم قاسم ويهود العراق (تلبد الغيوم)

د. خضر سليم البصون

في هذه الحلقة انهي الحديث الذي تناولته في الحلقتين السابقتين عن الحقبة التي حكم فيها عبد الكريم قاسم العراق وعن علاقته بيهود العراق وموقفه منهم.
قبل ان ابدأ هذه الحلقة عليّ أن أصحح خطأين وردا في الحلقة السابقة: شريك إبراهيم ناجي شميل في مذخر جوري كان يعقوب افرايم اسحق وليس افرايم اسحيق. جريدتا صوت الأهالي ثم الأهالي كانتا لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي وليست جريدة الزمان.

دار عبد الكريم قاسم في العلوية وأموال اليهود المجمدة
من الجدير بالذكر أن عبد الكريم قاسم كان يسكن في دار في منطقة العلوية قرب الجندي المجهول سابقاً (ساحة الفردوس)، استأجرها من مديرية الأموال المجمدة لليهود. قيل أن الإيجار الشهري لهذه الدار كان خمسة عشر دينارا. هذا الشارع يعرف اليوم ب “شارع الزعيم” ومعظم المنازل فيه تعود أصلا لليهود وصودرت بعد رحيلهم، ثم سكنتها عوائل مسيحية غادرت بدورها العراق في السنين الأخيرة. قرأتُ أن المنزل الذي سكنه قاسم قد تمت إزالته بعد انقلاب 8 شباط 1963 في محاولة لمحو ذكراه ثم شيدت مكانه عمارة سكن.
في تقرير لموقع “ساحات التحرير” نشر في حزيران 2012 بعنوان “شارع الزعيم: ذكرى شاحبة لمؤسس الجمهورية العراقية”، ذُكر ما يلي “ونتيجة صدور قرار حكومي سُمح لشاغلي عقارات الدولة بشرائها، استحوذ المسؤولون وبحسب رواية أهالي “شارع الزعيم ” على العديد من المنازل المملوكة للدولة، بعد مصادرتها من أصحابها الحقيقيين من يهود العراق الذين غادروا البلاد في نهاية أربعينات ومطلع خمسينات القرن الماضي، وألحقت بدائرة الأموال المجمدة” .
ألغت حكومة البعث في بداية الثمانيات دائرة الأموال المجمدة وحلت محلها دائرة تابعة لوزارة المالية هي دائرة عقارات الدولة التي تتولى إدارة هذه الأموال. وهكذا أنيطت بوزارة المالية صلاحية التصرف بعقارات اليهود المسقطة عنهم الجنسية العراقية بعد تحويل بعض العقارات إلى وزارتي السكان والزراعة. ويذكر موقع وزارة المالية أن مجموع عقارات اليهود التي مُلّكت لوزارة المالية تصل إلى اثني عشر الفا وسبعمائة وستة وثلاثين عقاراً وتم تمليك ألفين وستة وستين عقاراً إلى بعض الوزارات والدوائر ذات العلاقة.

بعض القرارات التي أدت إلى تحالف قوى داخلية وخارجية لإسقاط قاسم
منذ الأشهر الأولى للثورة أكتسب عبد الكريم قاسم شعبية واسعة بين الجماهير وتم تحقيق الكثير من المشاريع في عهده (ولو أن البعض منها كان قد خُطط لها في العهد الملكي). من اهم المشاريع التي أنجزت كان شق قناة الجيش وبناء مدينة الثورة لإسكان الفقراء من الذين نزحوا من جنوب العراق (مدينة الصدر حاليا) وإنشاء العديد من المنشآت الصناعية.
على الرغم من القاعدة الشعبية التي كان يتمتع بها عبد الكريم قاسم يرى الكثير من المؤرخين أن عدداً من القوانين والقرارات التي اتخذتها حكومته اضرت بمصالح فئات ضيقة من الشعب أو كانت لها أبعاد إقليمية أدت إلى تحالف العديد من القوى السياسية والدينية مع المخابرات العربية والغربية، بالرغم من تناقض مصالحها، لإسقاط عبد الكريم قاسم. أتطّرق هنا إلى بعض منها بصورة موجزة وسأناقشها في مقال مفصّل في المستقبل.

قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء قانون حكم العشائر – في الأشهر الأولى للثورة سنّت حكومة قاسم قانون الإصلاح الزراعي الذي جرّد كبار الشيوخ الإقطاعيين من مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي كانت قد مُنحت لهم في العشرينيات من قبل الحكومة العراقية، في ظل الانتداب البريطاني، لكسب ولائهم، وقلصت الحكومة أيضا نفوذ شيوخ العشائر بإلغائها قانون حكم العشائر مما أثار حفيظتهم ضد قاسم.

قانون الأحوال الشخصية – في سنة 1959 سنّت حكومة قاسم قانون الأحوال الشخصية رقم 188 الذي شملت أحكامه جميع المسلمين وغيرهم عدا من استثنوا بقوانين خاصة وهم المسيحيون واليهود. استند هذا القانون إلى أحكام الشريعة الإسلامية، معتمداً على اهم أبواب الفقه الإسلامي دون تحيز لأي مذهب. حاول هذا القانون أن يُنظّم حياة الأسرة ويعطي المرأة بعضاً من حقوقها المدنية وأن يساوى بينها وبين الرجل في الميراث وفي الشهادة امام المحاكم ووضع شروطاً على تعدد الزوجات. واجه هذا القانون معارضة عنيفة من المؤسسة الدينية بتحريض من القوى السياسية المناوئة لقاسم بحجة الدفاع عن الإسلام.

قانون رقم 80 للنفط – في ربيع 1961 صدر قانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99.5% من الأراضي العراقية التي كانت خاضعة لاتفاقيات الامتياز نظراً لعدم قيام شركات النفط باستغلالها، وأبقى لها القانون الحقول المنتجة آنذاك. أثار هذا القانون حفيظة شركات النفط التي قررت العمل على الإطاحة بعبد الكريم قاسم. كانت شركات النفط مستعدة للتخلي عن 90% من أراضي الامتياز واستثمار الأموال لتكثيف عمليات التنقيب عن النفط في العراق وكان قاسم ميّالاً لقبول هذا العرض. لكن خبراءه الفنيين أشاروا عليه وعلى الوفد العراقي المفاوض بوجوب رفض هذا العرض وذلك بتأثير من شعارات الأحزاب السياسية.

المطالبة بضم الكويت – في صيف 1961 اعلنت الكويت استقلالها من بريطانيا وفي نفس الأسبوع عقد الزعيم مؤتمراً صحفياً طالب فيه بضم الكويت إلى العراق على أساس أن بريطانيا كانت قد اقتطعت هذا الجزء من العراق وأن الكويت كان قضاء تابعاً لمحافظة البصرة، وهدد قاسم باستخدام القوة، ولو انه من الناحية العملية لم يُحرك أي قوات ولم يُدخل الجيش العراقي في متاهات غير محمودة.

اندلاع النزاع المسّلح في كردستان – بعد فترة عسل قصيرة لم تتجاوز الثلاث سنوات، توترت العلاقات بين الحكم والقيادة الكردية وتوسعت الخلافات بحيث اندلع في أيلول 1961 نزاع مُسّلح بين السلطة المركزية والأكراد بقيادة الملا مصطفى البرزاني. وقد أدى هذا النزاع إلى إضعاف القاعدة الشعبية لحكومة قاسم.
وفيما يتعلق بيهود العراق فانه بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي تأثرت بعض العوائل اليهودية العراقية التي كانت تمتلك أراضي أو حصصاً في أراض زراعية كعائلتي الخلاصجي وآل معلم حيث انتزعت منهم معظم الإرادي التي كانوا قد اقتنوها بأموالهم. كانت عائلتا الخلاصجي ومعلم من الرواد الأوائل في تطوير الزراعة في الفرات الأوسط وإدخال مضخات المياه والآلات الزراعية. لم تُعوضهم الحكومة العراقية ولكنهم قبلوا بما كُتب لهم وترّكزوا في التجارة والصناعة. في أواخر 1968 القي القبض على أعضاء من عائلة معلم وبعد تعذيبهم اضطروا للتخلي عن اكبر معمل طابوق فني في العراق كانوا يمتلكونه. هذه بعض الأبيات من قصيدة باللغة العامية كتبها عزت ساسون معلم احد أصحاب معمل الطابوق، نُشرت في كتابه “على ضفاف الفرات ذكريات أيام مضت وانقضت”:
بعراگي گضيـت الوكــت ضيم وقهر حـده بسموم سيـف البعث الصوّب گليـبي و چبدة
بنص كانــون وأطر جبــال بثلوجه او برده سهرت ليالي ونــهاره وبنيت المعمــل بلذة
وشكثر الجوامع والمدارس وللجيش طابوگي مده والريل يشهد چم الف مليون للبصرة والسدة
ابـمـلايين والله ما بيــعه وبچدي تفــور زرده شط او بـحر يـجري ذهب للـعوز نــجده

هدم مقبرة اليهود في وسط بغداد
تلبد الغيوم بدأ يتسع شيئا فشيئا ليشمل يهود العراق. وعلى الرغم من مرور اكثر من خمسين عاماً لاتزال احدى كبوات عبد الكريم تلقي بظلالها الأليمة على علاقة الطائفة الموسوية به في نهاية فترة حكمه. في سنة 1962 أراد قاسم تشييد أعلى برج في العالم العربي حيث كانت مقبرة اليهود في وسط بغداد (منطقة النهضة) المحاذية لشارع الشيخ عمر والتي يعود تاريخها الى أكثر من اربع مئة سنة، وفيها رفات كبار الحاخامات ورجال الدين والقبر الجماعي لضحايا الفرهود عام 1941 بالإضافة إلى قبور عامة الناس.
يذكر شاؤول ساسون في كتابه عن والده رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري “راع ورعية” (من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1999، برئاسة البروفيسور شموئيل موريه)، ما يلي: “….أن عدداً من الأشخاص المسلحين جاءوا إلى منزل الوالد ليلاً وطلبوا منه أن يذهب لزيارة الزعيم عبد الكريم حالاً. فأستعد الوالد لذلك وطلب سيارة لنقله إلى مكتب الزعيم دون أن يدري ما هي أسباب هذه الزيارة الليلية. وبعد مرور ساعة عاد الوالد من الزيارة وابلغنا بان الزعيم عبد الكريم بدأ كلامه معه وهو واقف، الأمر الذي لم يعتد عليه لا الزعيم ولا الوالد. وقال له: يا سماحة الحاخام لقد تقرّر تشييد “برج قاسم” وشُكّلت لجان عديدة لتحديد المكان اللائق لبناء هذا البرج. وتقرر أخيرا بالإجماع أن يتم البناء في المكان الذي تقع فيه مقبرة اليهود وسط بغداد”.
وطلب عبد الكريم أن يتم نقل جميع محتويات هذه المقبرة إلى مقبرة جديدة خارج حدود بغداد على أن يتم ذلك خلال ستة اشهر. وعندما اعترض الحاخام بأن المدة المحددة لا تكفي لنقل جثث تعد بالآلاف أجابه الزعيم بما يلي: ” يا سماحة الحاخام إن همم الرجال تقلع الجبال، فليس من المستحيل عليك أن تتخذ التدابير المستعجلة لإنجاز هذا العمل خلال الفترة المقررة وهي ستة اشهر. وهنا دق الزعيم عبد الكريم الجرس وهي إشارة إلى انتهاء المقابلة” .
في أعقاب هذا الخبر ذهب وفد من يهود العراق لمقابلة قاسم واخبروه أن من المحظور في الديانة اليهودية اجلاء المقبرة وتحريك عظام الموتى من راحتها الأبدية وانه قد تحصل عواقب لا يُحمد عليها. ولكن قاسم اصّر على موقفه وتعهد انه سيوفر ما يحتاجون من العمال والمكائن لإكمال المهمة في الوقت المحدد!.
أضطّر اليهود إلى إخلاء المقبرة ونقل رفات أحبائهم إلى المقبرة الجديدة في الحبيبية قرب مدينة الثورة (الصدر) وكان بينهم الموتى الذين قتلوا في أيام الفرهود ودفنوا في القبر الجماعي. كان من المهم اتخاذ الإجراءات المناسبة، قدر الامكان، لمعرفة هوية كل جثة (عظام) قبل دفنها ثانية في المقبرة الجديدة، وفقاً لأحكام الشريعة اليهودية. لم يفهم يهود العراق الذين شعروا في عهد قاسم بالطمأنينة والمساواة لماذا اتخذ هذا القرار الظالم الذي ينطوي على انعدام الحساسية ولماذا يجب أن يشيد هذا البرج على أراضي المقبرة بالذات. نقلنا أمواتنا على عجل ونفذنا القرار خوفا من “نقمة الزعيم على الأحياء” – اما البرج فلم يقم.
كتب الأديب الكبير مئير بصري هذه الأبيات:
أضاق بك التراب، وفي بلادي تراب القفر يعبـث بالصدور؟
وهذا الترب كون من جدودي وآبـائي على مــر العـصور
فيا أبــت الذي غــاب عنــي وعاث الموت بالجسد الطهور
اذا اندثر الضريح ففي فؤادي مقامك، يا أبـي حتـى النشور

كان اليهود يرددون أن هذا نذير شؤم. اذا كنا نؤمن أو لا نؤمن فان نذير الشؤم تحقق، اذ لم تمر إلا بضعة اشهر وقتل قاسم بأيدي البعث. من المحزن أن ارض المقبرة بقيت خالية لأكثر من عقد وفي منتصف السبعينيات شرعت أمانة العاصمة ببناء مرأب لسيارات النقل العام فيها .

النهاية تقترب بالنسبة ليهود العراق
نستطيع الاطلاع على صورة الوضع من قراءتنا لبعض ما كتب عن تلك الفترة. في ذكريات الدكتور سلمان درويش “كل شيء هادئ في العيادة” (من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1981) يتحدث درويش عن زيارته للحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفة الموسوية، بعد عودته من رحلة استجمام في أوروبا وبيروت في أواخر عام 1962:
“سألني الحاخام:
– ما الذي يقوله عنا يهود لندن؟ (القصد هنا اليهود العراقيون في لندن)
– إنهم يوجهون إلينا اشّد الانتقاد ويلوموننا لأننا لا ننتهز الفرصة لمغادرة العراق نهائياً ما دام بالإمكان الحصول على جوازات سفر
قال: ولماذا أليست الحالة هادئة والسفر إلى الخارج متيسر لمن يريد؟
قلت: انهم يعترفون بميزات الظروف الحالية ولكن هل في الإمكان ضمان ذلك دوماً؟
قال: لا
قلت: ولهذا هم يلوموننا
قال: يظهر أن هناك انحرافاً أو تغييراً في تفكيرك أو اتجاهاتك
وهنا كان الأستاذ أنور شاؤل بين من كانوا في الديوان وسرعان ما أشار علي من طرف خفي بأن أخفّف من الجدل والطّف الجو فقلت:
إنني يا سيادة الحاخام اعبّر عن رأي من هم في لندن وليس عن رأيي الخاص، وإنني اطمئن سيادتكم بأننا الموجدين هنا لا نزال نؤيد رأيكم من أن لا محل لنا في العالم خير من العراق وسرعان ما تركنا الموضوع وتطرقنا إلى حديث آخر….”
ويضيف الدكتور درويش “لا بد لي أن أذكر أن سفر اليهود إلى خارج العراق مُنع منعاً باتا بعد ثلاثة اشهر من هذا الحديث”
عمل والدي في السنتين الأخيرتين لحكم قاسم كسكرتير تحرير جريدة الجمهورية لصاحبها عبد الرزاق البارح والمحسوبة على قاسم. كان والدي “قاسمياً” حتى النخاع وبرغم التذبذب في سياسة قاسم ومحاولته مهادنة وموازنة القوى السياسية المتصارعة كان والدي من أولئك الذين يؤمنون بنزاهته وإخلاصه وكان يعتقد أن المقربين منه لا يقدمون النصائح الجيدة ولهم مصالحهم الضيقة. بحكم عمله الصحافي واطلاعه على الواقع السياسي في العراق كان والدي يردّد أن السياسة التي يتبعها قاسم بعد اصطدامه مع القوى اليسارية والأكراد ستؤدي إلى كارثة من خلال انقلاب دموي سيُطيح به.
في مقال لوالدي نشره في جريدة الأنباء الصادرة في اورشليم القدس في 8 شباط 1979،كتب ما يلي: “بالنظر إلى ما كان يحسّه عبد الكريم قاسم في نفسه من ثقة واعتداد وكبرياء، ومن محبة الجماهير الواسعة له وانه بضربه اليسار المتطرف ومن معه، وبضربه اليمين المتطرف ومن معه، أصبح يسير في الطريق المعتدل أو السوي، وانه لا بد قادر على أن يجر أعداءه إلى جانبه، فراح يجاملهم ويغازلهم ويقربهم، ويسلّم لهم بعض المناصب الحساسة كما أخذ يُبعد أو يُقصي حلفاءه السابقين ويُقلّم أظافرهم، وفي وقت كان خصومه وأعداؤه يعدون الطبخة ويضعون التصاميم لقتله والانقلاب عليه والإطاحة بحكمه !..
في هذا الوضع كان الضعف يدب في حكم عبد الكريم قاسم، في حين كان يتصور نفسه شديدا وحكمه قوياً .. ولولا معرفة الشيوعيين بان نهاية عبد الكريم قاسم تعني نهايتهم لما تورعوا هم أيضا عن المشاركة في الإطاحة به.
وهنا اكتملت عناصر المؤامرة على حكمه فأعداؤه يعملون، وحلفاؤه يبتعدون، والأكراد ينكّل بهم. أما الجماهير البسيطة والطيبة التي كانت تحبه، فلم تكن تستطيع أن تمنحه غير المحبة القلبية وغير الهتاف والتصفيق !..”

يقول الأديب الكبير أنور شاؤل في مذكراته “قصة حياتي في وادي الرافدين” (ايضاً من منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق 1980) “في تقديري، أن الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد ثورة تموز، كان وطنياً طموحاً، كبير القلب، طيب النزعة، لكنه – رحمه الله – كان يعوزه الكثير من حسن التدبير والممارسة وبُعد النظر كما تنقصه الاستشارة النيرة التي كان من المفروض أن تقدمها له، حاشية التفت حوله التفاف السوار بالمعصم”.

تأملات أخيرة
قبل أسابيع زرت ضياء ابن أنور شاؤل وذكرت ما قرأت لوالده فأخبرني بانه كان شاهداً على ما حدث في التاسع من شباط 1963 حيث كانوا يسكنون في كرادة مريم قريبا من الشارع الرئيسي الذي كان في ذلك الوقت يسمى شارع المنصور وكانت غرفته تطل على الشارع. “لا يمكنني أن انسى الموكب الذى مر أمامي تتقدمه سيارة مدرعة كانت تحمل في جوفها الزعيم عبد الكريم وهو يُقتاد إلى دار الإذاعة تتبعها شاحنات مكتظة بأناس يهتفون كالمعتوهين والفرحة تغمرهم. وقف عدد من الجنود في وسط المدرعة وبيد كل منهم بندقية فوهتها موجهة إلى الأعلى وأخمصها إلى الأسفل ينهال به بوحشية على الفقيد وهو في طريقه إلى محاكمة صورية أكملوا بعدها إعدامه. فارق النوم جفوني ليال عديدة بعد هذه الحادثة الموجعة.”
أذكر هذين اليومين المشؤومين (الثامن والتاسع من شباط 1963) مثل البارحة. بعد أن اتضح لنا نجاح الانقلاب ومقتل عبد الكريم، سارعنا للخروج من بيتنا في العلوية والذهاب إلى بيت خالي في المسبح حيث بقينا عدة أيام لأننا كنا خائفين من أن يُعتقل والدي وهو في البيت ويُقتل في الأيام الأولى للانقلاب (حسبما ذكرت كان والدي يعمل في الصحيفة المحسوبة على قاسم والمعروف عنه انه يساري بالإضافة لكونه يهوديا).
بمقتل عبد الكريم ومجيء عبد السلام عارف الى دفة الحكم فقد يهود العراق “صمام الأمان”. في 21 آذار 1963 قامت حكومة احمد حسن البكر بإلغاء قانون رقم 11 (الذي ذكرته في الحلقة السابقة) وإضافة الفقرة ب من قانون التسقيط ثانية، محددة بذلك سفر اليهود الذي منع كلياً بعد سنة. فبعد ستة أسابيع من الانقلاب بدأت مجدداً الإجراءات التعسفية. في 1964 أصدرت حكومة طاهر يحيى الهوية الصفراء ليهود العراق لتميزهم عن باقي أبناء الشعب ومذكرة إيّانا بالنازيين. هذه أبيات من قصيدة الأديب أنور شاؤل بعنوان “الهوية الصفراء”:
أهويـــــة الأحقــــاد والأرزاء يا صكّ أذلال ورمز شقاء
هذا اصفرارُك لن يطـول بقاؤه ولّت عهود الرقعة الصفراء
سأمزق الظلـم المشين وانفـض الذل المهين بعزّتي وإبائي
وأروح في طلب الكرامة نائياً وأقول للإذلال لست ردائي!

ومع إني كنت صغير السن نسبياً (عندما قامت ثورة تموز لم اكن قد بلغت التاسعة وحين قُتل قاسم كان عمري ثلاثة عشر ونصفا)، لكني اذكر تلك الحقبة جيداً. والآن، وانا انظر الى تلك الفترة، أتساءل كيف لم يتعلم من تبقى من يهود العراق بعد التسقيط من دروس الماضي. مصيرنا كان مرتبطاً ببقاء عبد الكريم قاسم فقد كان هو صمام الأمان لنا. كيف لم نستغل الفرصة لنغادر العراق حين كان السفر متاحاً. أعطانا الله فرصة ثانية بعد التسقيط ولم يستغلها البالغون. دفعنا ثمناً باهضاً لهذا التقاعس بلغت ذروته في نهاية الستينات / أوائل السبعينات (أيلول 1968 – آذار 1973) بلغ عدد الضحايا من الذين قتلوا من قبل جلاوزة البعث 47 شخصاً من ضمنهم خمس نساء (1.5% ممن تبقى من يهود العراق آنذاك). هؤلاء الشهداء أمّا اعدموا شنقاً، أو لقوا حتفهم بعد أن اختطفوا، أو نتيجة التعذيب في السجون، أو رمياً بالرصاص أو ذبحوا. رحم الله هؤلاء الأبرياء الذين قتلوا فقط لكونهم يهوداً. هؤلاء كانوا لنا المنار لكي لا نرتكب الخطأ مرة ثالثة ولهذا حديث آخر.
انهي هذه الحلقة بأبيات من قصيدة “يا كريم العراق” للشاعر الكبير جبار جمال الدين تخليداً للزعيم:
من بعد خمسين عاما أنت تزدهر عبدالكريم وأنت السمع والبصر
يا سيدي يا كـريم النـفس ان لنـا عــهدا قديمــــا وودا ليس يستتر
هيهات هيهات ما ساووك أنملة يا شامــخا كنــخيل زانه الكبــر
اشعث في الناس عدلا لا مثيل له وجرعونـــــــا ليـــال كلــها كدر
معذبــون وسيف الحقد يحصدنا مشردون ونــــار الظـلم تستعر
أنت الكريـم وذي ذكـراك خـالدة تطوى العصور ويبقى ذكرك العطر

*رحم الله كل من وافته المنية من الذين ذكرتهم في هذا المقال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here