كي لا يموت الفنان العراقي فقيرا

محمد رضا عباس
حبي الى فن الرسم والنحت نشأ معي منذ الصغر , حيث كان جدار غرفتي مغطى بأنواع الرسوم والتي كانت عبارة عن قصاصات في الصحف والمجلات , وبقى ولائي وحبي الى فن الرسم حتى بعد ان تركت العراق واخترت العمل والعيش في الولايات المتحدة الامريكية , ومن يدخل بيتي سوف يندهش من كثرة عدد الرسوم المطبوعة واليدوية التي اقتنيها , البعض منها باهضه الثمن .
لا ادعي ان كل من احترف مهنة الرسم او النحت يصبح مليونير في الولايات المتحدة الامريكية , ولكن بكل تأكيد ان الرسام الماهر الموهوب من السهل عليه ان يكون مليونيرا , او على الأقل من الميسورين . بعض الرسامين يجني مئات الالاف من الدولارات عن كل عمل فني يقوم او تقوم به . على سبيل المثال , استطاع Robert Ryman بيع لوحته untitled بمبلغ 9.7 مليون دولار ,وJeff Koons , ,لوحته Ballon Dog بمبلغ 58.4 مليون دولار , واستطاع Brice Marden بيع لوحته the Attended بمبلغ 10.9 مليون دولار, واستطاع Jasper Johns بيع لوحته Flagبمبلغ 28.6 مليون دولار.
لا أتوقع ان يكون الرسام العراقي , وعلى الرغم من مواهبهم الخلاقة واعمالهم الجميلة , قادر على بيع اعماله بمبالغ تنافس ما يجنيه زميله الفنان في أوربا او الولايات المتحدة الامريكية او اليابان او الصين وللأسباب التالية :
1. ان المواطن العراقي ما زال لا يكترث كثيرا بالأعمال الفنية. المواطن يرغب باقتناء الاعمال التي تحوي على الآيات القرآنية وصور المساجد , ونادرا ما تجد دار يحتوي على لوحة فنية لرسام عراقي معروف . كنت عندما اتحدث مع بعض المعارف (من الميسورين) عن سبب عدم اقتنائهم اعمال فنية , يكون جوابهم : لماذا ادفع لرسوم 200 دولار , بالوقت الذي استطع شراء لوحة من السوق بمبلغ 4 دولارات .
2. هذا الابتعاد عن الفن الأصيل من قبل المواطن العراقي انعكس أيضا حتى على اعلى المستويات الحكومية . على سبيل المثال , من النادر ان تجد لوحات لرسام عراقي وهي تزين حائط لوزارة او مستشفى او بنك , وهم المشترين الرئيسيين للأعمال الفنية . لا يوجد بنك في أمريكا لا تتزين جدرانه بأعمال فنان معين , وكذلك المستشفيات , الدوائر الحكومية , والجامعات .
3. غياب الدعم الحكومي للفن , ان هذا الغياب هو السبب الرئيسي في عدم تثقيف المواطن العراقي على حب الفن . غياب الدعم الحكومي , لا يقتصر على حكومة معينة وانما يشمل جميع الحكومات العراقية التي حكمت العراق , الملكية والعسكرية , والديمقراطية .قبل التغيير كانت وظيفة وزارة الثقافة والاعلام مراقبة الكتاب والفنانين الاحرار من انتقاداتهم للحكومة , وتحت الحكم الديمقراطي غاب الدعم بحجة التقشف و العجز المالي .
4. هذا الغياب في حب الفن او غياب ثقافة الفن في العراق , هو السبب في غياب متاحف او معرض للفن . لا نتوقع ان يطالب وزير مالية او وزير زراعة جاهل في الفن من حكومته بتشييد متحف او معرض للفن . وطالما لا توجد متاحف للفن في العراق , فان المواطن العراقي سوف يبقى جاهل بثقافة وحب الفن , وهي حالة محزنة , لان الفن سلام . الفنانون لا يصنعون الحروب , من يحب الفن لا ينحدر الى مرض الكراهية والجريمة .
اتابع اخبار الفن العراقي , وخاصة فن الرسم عندما ازور البلد , واتابع اخباره من خلال الفضائيات العراقية عندما اتواجد هنا في أمريكا . هناك اعمال عراقية فنية جميلة وتستحق ان تبقى داخل البلد و يتمتع المواطن العراقي بها , وان تكون باب دخل محترم لصناعه . ولكن العكس هو الصحيح , الفنان العراقي ما زال فقيرا وان اعماله تشترى وتتسرب خارج العراق , وبذلك يخسر الوطن ثروة لا يمكن تعويضها .
لا أتوقع ان تقوم وزارة الثقافة العراقية او مكتب من مكاتب المسؤولين الكبار بحملة شراء الاعمال الفنية التي بيعت في العالم وارجاعها الى بلدها الأصلي العراق , لان من ليس له الاهتمام بالفن لا نتوقع منه الركض خمسة امتار من اجل انقاذ عمل فني عراقي , فكيف وان اجراء البحث وشراء الاعمال الفنية يحتاج الى حب الفن ومال وجهد فوق العادة.
هل يبقى الفنان العراقي يعاني الفقر والحرمان , والبلد بدون متاحف تحوي أعمالهم , والمواطن لا يكترث بعمل الفنانين ؟ لا , لا يجوز ذلك . هناك طرق متوفرة لقادة البلد جر الفنان من عازته وإنقاذ الفن العراقي من الضياع , وتشجيع فنانين جدد للكشف عن مواهبهم وقابلياتهم , وكلها بيد الحكومة . الحكومة لديها القدرة المالية لشراء اعمال الفنانين ولاسيما الفنانين الموهبين و عرضها في متحف تحت مسمى ” متحف الفن العراقي” . هذا المشروع ربما لا يكلف الدولة اكثر من عشرة ملايين دولار او بيع نص يوم من النفط , ولكن فوائد هذا المشروع تبقى الى ابد الابدين . المتحف سوف يجذب مئات الالاف من العراقيين والأجانب لزيارته , تثقيف المواطن على حب الفن واحترام الفنان وريشته , مصدر رزق للمحلات التجارية القريبة من المتحف , وتشجيع فنانين جدد لدخول هذه الحرفة المرموقة . هناك شباب وشابات موهوبين في فن الرسم بالفطرة , أي يولدون وهم يستطيعون الرسم و ينتجون رسوم جميلة , ولكن خوف ذويهم على مستقبلهم يضطرهم باختيار اختصاص او مهنة أخرى . انها خسارة للبلد من الممكن تجنبها. ان تبني الدولة الرسامين وتعيينهم بأجور تنافسية سوف ترفع من المستوى المعيشي للفنانين ويشجع الاخرين للدخول في هذا المجال.
لماذا الدولة وليس عبد الله وعبد الزهرة او كاكا حمه؟ الجواب كما ذكرت ان في العراق لا يوجد Bill Gate رئيس شركة مايكروسوفت , الذي اشترى لوحة ” زهرة السوسن ” بمبلغ 28 مليون دولار او Ryoei Saito الذي اشترى لوحة Pierre Auguste Renoir بمبلغ 78.1 مليون دولار او العائلة الحاكمة في قطر والتي اشترت لوحة Paul Cezanne بمبلغ 259 مليون دولار. المواطن العراقي العادي لا يستطع شراء لوحة رسم بمبلغ 5 الاف دولار او اكثر , بينما تستطع الحكومة ذلك وبسهولة جدا .ولا يوجد متاحف داخل البلد تشتري اعمال الفنانين , كما وهو معهود في الدول المتقدمة . وعليه , فانا اقترح ان تقوم الدولة او وزارات الدولة بإعطاء الفنانين الرسامين الاسبقية في التعين .
ما علاقة الوزارات بالرسامين؟ الجواب , الرسم هو ليس محل عطاريه يحتوي الصغيرة والكبيرة . الرسم هو اختصاص , فهناك رسام يختص بالطبيعة , الاخر بعمران المدن , والأخر بالوقائع الحربية , والأخر بالتاريخ , واخر بالعلوم . مهنة الرسام , مثل مهنة الطب , ولا نتوقع من طبيب الاسنان اجراء عملية دماغية , كل طبيب واختصاصه . وعليه , وعلى سبيل المثال ان تقوم وزارة الزراعة بتعيين مجموعة من الرسامين المهتمين بالطبيعة , و وزارة الدفاع تقوم بتعيين مجموعة من الرسامين المهتمين بالعمليات العسكرية والحروب , و وزارة الاعمار والإسكان تقوم بتعيين مجموعة من الرسامين المهتمين بشؤون الاعمار والجسور و المدن, وهكذا.
لقد تركزت هذه المقالة على ما يعاني فن الرسم في العراق , ولكن ترك الفنون الأخرى , لا يعني انها بخير . كلا، ان كل ما ذكرته عن معانات الرسامين في العراق ينطبق على الممثل المسرحي والتلفزيوني , النحات , الموسيقي , المغني , الشعراء ,كتاب الاعمدة في الجرائد والمجلات , كتاب القصص , وجميع المهتمين بالثقافة.
المطالبة بتحسين وضع الفنانين والحفاظ عليهم ليس موضوع ترف وبطر , ولكن سوف لن أكون مغاليا بالقول ان مهنة الفنان تساوي مهنة ذلك العسكري البطل الذي يحفظ الحدود و يحمي شوارع المدن من الاشرار, فذاك يقاتل بقلمه و ريشته وهذا يحفظ البلد ببندقيته . ان كاميرات الفنانين هي التي عرفت العالم على عظمة التقدم في اليابان واوربا والولايات المتحدة الامريكية , بقية المواقع الحضارية والتاريخية في العالم. والاهم , هو ان نشر الثقافة بين أبناء المجتمع , يجعل من ابناءه اكثر تحضرا , اكثر حبا للوطن , واكثر تقبلا الواحد للأخر والذي عملت المجاميع الإرهابية بكل ما أتت من خباثة و خسة زرع الفرقة بينهم .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here