إشكالية اللغة العربية والطفرة المعاصرة ! (*)

.3091
اشكالية اللغة العربية والطفرة المعاصرة ! * بقلم د. رضا العطار

في نصف القرن التالي للحرب العالمية الثانية واصلت العربية سيرورة تطورها وعقلنتها مستفيدة من تعميم التعليم ومن ثورة وسائل الاتصال الجماهيري. وقد توالت على الاخص عملية التأصيل اللغوي، ليس فقط من خلال الترجمة والتعريب، بل كذلك من خلال التجديد في الاشتقاق وفي التوليد الدلالي. فلفظة (مجتمع) التي لم يكن لها وجود في المعجم القديم باتت واحدا من اهم المصطلحات التداولية للعربية الحديثة. وقل مثل ذلك عن لفظة (دولة) التي نبت لها معنى مغاير لمعيارها الاصلي. وذلك هو ايضا ـ ودوما على سبيل المثال شأن كلمة (سيارة) القرآنية التي انزاحت دلالتها من (جماعة المسافرين) الى وسيلة السفر الحديثة المعروفة. وقل مثل ذلك في (القطار) و (الهاتف) و ((الدراجة). وفي الوقت الذي آل فيه خمسون بالمئة ـ او ربما اكثر ـ من مفردات العربية الى المعجم السالب العديم القيمة الاستعمالية، دخلها عن طريق الترجمة والتعريب عشرات الآلاف من الالفاظ الجديدة. وقد امتد هذا التطور من الالفاظ الى التراكيب والبنية الموفولوجية. فقد امكن لمختص معاصر بادبيات (المثاقفة) ان يضع معجما بكامله، في نحو من عشرين الف مادة، اسماء (معجم التعابير المعاصرة، واظهر فيه من خلال المفردات والتعابير معا مدى أثر الترجمة في تطور العربية المعاصرة. كما تسنى لاختصاصي معاصر في اللغة العربية ان يرصد ويحصي المئات من التراكيب والاساليب اللغوية التي تنم عن تحول مورفولوجي في سلوكية اللغة العربية تحت تأثير الترجمة وتركيب الجملة بالفرنسية والانكليزية، اللغتين الاساسيتين اللتين حكمتا تعامل العربية مع الحداثة. فمن هذه التراكيب المستجلية والمستزرعة في تربة اللغة العربية العبارات التالية التي تتردد بايقاع لغة الصحافة العربية :

بكى بكاء مرا، نقده نقدا مرا ـ بكى بدموع التماسيح ـ ذر الرماد في العيون ـ سهر على المصلحة العامة ـ
لعب دوره في السياسة ـ لعب بالنار ـ لعب ورقته الاخيرة ـ كسب بعرق جبينه ـ تمشى قتلا للوقت ـ
اصطاد في الماء العكر ـ ضحك ضحكة صفراء ـ وضع النقاط على الحروف ـ أجاب بالحرف الواحد ـ
حرق البخور لسيده ـ أخذ بنظر الاعتبار ـ ضرب الرقم القياسي ـ القى ضوءا على المسألة ـ مر بتجربة قاسية ـ قلب صفحة الماضي ـ علق املا كبيرا ـ اعاره اذنا صاغية ـ اعطى الكلمة للخطيب ـ وضع على طاولة البحث ـ أثار عاصفة من التصفيق ـ كرس حياته للقضية ـ خانته الذاكرة ـ نظر بالعين المجردة ـ عارضته الاكثرية الساحقة ـ اخذ مكانه بين رفاقه ـ وقف على هامش السياسة. الخ.

ولكن رغم اهمية هذه التحولات في شكل اللغة، فإن تأثير المثاقفة في اللغة العربية، يبرز بصفة خاصة من سيرورة عقلنتها، اي تنائيها درجة اخرى عن الانشائية التي لم تفلح حتى لغة عصر النهضة في الانعتاق من اسرارها تماما، وتدانيها درجة اخرى من اللغة المفهومية للعقل الاستدلالي الحديث، فالعربية المعاصرة كفت الى حد بعيد عن ان تكون لغة المترادفات على مدى تاريخها. فقد امست كل لفظة تؤدي معنى واحد لصيقا بها في تطابق شبه مثالي بدون فائض في الالفاظ بالنسبة الى المعنى، وبدون فائض في المعاني بالنسبة الى اللفظ، ولن نملك من دليل على مثل هذا التحول الدلالي التطابقي في اللغة العربية خيرا من ذاك الذي تقدمه اللغة التي يكتب بها ناقد العقل العربي. فلولا الصرامة المفهومية التي تميز لغته، لما كان بكل تأكيد تبوأ مكانته الحالي، كأستاذ تفكير بالنسبة الى شريحة واسعة من الانتلجنسيا العربية.

* مقتبس من كتاب اشكالية العقل العربي لجورج طرابلسي، بناية النور شارع العويني بيروت 2011

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here