الأخضر يميل إلى الاصفرار: الأصوات المحتجّة في كردستان لا تجد مكاناً تلجأ إليه

معاذ فرحان

عندما كان الحديث يدور حول حرية الرأي والتعبير في السابق تذكر أربيل والسليمانية كمثالين للمقارنة، أما الآن فيبدو انه لم يبق هناك فرق بين كلتا المدينتين في كردستان.

الحديث عن محافظتي أربيل والسليمانية لا يشير الا انهما محافظتين جارتين فحسب بل أصبحت المحافظتان رمزين لمنطقتي نفوذ مختلفتين، الأولى تعرف باسم الزون الأصفر أما الثانية فتسمى الزون الأخضر.

ففي اواسط التسعينات من القرن الماضي عندما وصلت الحرب الاهلية في اقليم كردستان الى أوجها، تحولت محافظة أربيل كعاصمة إقليم كردستان الى سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني فيما حسم أمر محافظة السليمانية للاتحاد الوطني الكردستاني.

وبسبب كون لون علم الحزب الديمقراطي اصفر وعلم الاتحاد الوطني اخضر، أصبحت اربيل ودهوك والمناطق المحيطة بهما تعرف بـ”الزون الاصفر” اذ حسم امرها من حيث القوة للحزب الديمقراطي فيما سميت السليمانية وإدارتا كرميان ورابرين بـ”الزون الأخضر” اذ أصبحت بحكم القوة مناطق نفوذ للاتحاد الوطني.

كانت تجرى المقارنة بين الزونين على المستوى الداخلي لكردستان والخارجي أيضاً وكان الكثيرون يقولون ان منطقة الزون الأخضر كونها خاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني وبسبب أفكار الحزب هي اكثر انفتاحا من حيث حرية التعبير والاحتجاج وإبداء المواقف في حين يتمتع الزون التابع للحزب الديمقراطي بأقل من ذلك، ولكن يبدو أن هذا الفرق قد تلاشى تماما الآن.

اما أحداث الأسابيع القليلة الماضية فكانت بالنسبة للمنادين بالحرية والمنتقدين كانهيار حصن الأمل، إذ وضعت علامة استفهام على هامش الحرية والانتقاد الموجود في تلك المنطقة أيضا حين بدأت الانتهاكات في حدود محافظة السليمانية او ماتعرف بـ”الزون الأخضر” بالارتفاع.

ففي يوم الجمعة الثامن عشر من آب (أغسطس) الماضي هوجم الملا سامان سنكاوي الإمام والخطيب في جمجمال امام مسجده وأصابوه بجروح. وينتقد رجل الدين السلطات في الإقليم بشدة ويعارض عملية الاستفتاء في هذه المرحلة.

الملا سامان قال لـ”نقاش”: “نحن نعيش في زون كثيرا ما تتفاخر السلطة بتوافر حرية التعبير فيه وبانه افضل نوعا ما من الزون الاصفر وذلك الى حد علمهم بان مصالحهم الشخصية لن تتعرض للخطر”.

يقول الملا سامان: “عندما يدركون ان مصالحهم الشخصية والحزبية ستكون عرضة للخطر فانهم سيكونون على استعداد ليس لمهاجمتك فحسب بل لقتلك ايضا وهذا لا يسمى الحرية والديمقراطية”.

وجاءت مهاجمة الملا سامان قبل دقائق من بدء صلاة الجمعة، وقد أخذت قوات الآسايش (الامن) في المنطقة كاميرات المراقبة الموضوعة مقابل المسجد وأبلغت الملا سامان فيما بعد بأنها “لا تعمل”.

وأضاف الملا سامان ان “حياة الناس في خطر والاتحاد الوطني هو المسؤول عن ذلك، ليست لدي مشكلات شخصية مع احد وان السبب وراء تعرضي للضرب هو انني اهاجم السلطة وأتحدث عن الفساد وانعدام العدالة وتجويع الناس وأقول كلا للاستفتاء”.

محافظة السليمانية شهدت جميع التظاهرات والاحتجاجات الكبيرة خلال 26 عاما من حكم الأحزاب الكردية، وتمثل المحافظة مهدا للاصوات المحتجة وجميع وسائل الإعلام غير الحكومية وغير الحزبية، والسبب الرئيس في ذلك بالإضافة الى انفتاح أهالي المحافظة يعزى إلى أن سلطة الاتحاد الوطني تؤمن اكبر هامش للحرية.

لم يكن ما حدث للملا سامان الحادث الوحيد، إذ تظهر الأحداث المتتالية ان ما يجري هو حلقات من سلسلة متصلة، فقد اعلنت في الثامن من آب (أغسطس) حركة “لا للاستفتاء حاليا” من السليمانية والتي تطالب بتأجيل الاستفتاء المقرر إجراؤه في الخامس والعشرين من ايلول (سبتمبر) الحالي.

بعد اعلان الحركة بدأت الضغوطات على اعضائها، ففي العشرين من آب (اغسطس) تم اختطاف فرهاد سنكاوي عضو برلمان كردستان وعضو مجلس حركة “لا للاستفتاء حاليا” في السليمانية من قبل مسلحين مجهولين.

جميع أصابع الاتهام وجهت الى مسؤولي الاتحاد الوطني فيما لم يكن للأجهزة الأمنية رد واضح وصريح حول تلك الاحداث غير الصمت.

يضاف الى ذلك انه خلال العامين الماضيين ذكر العديد من النشطاء والصحفيين والمنتقدين انهم تعرضوا في منطقة نفوذ الاتحاد الوطني لتهديدات جدية وصلت الى حد التهديد بالقتل والتصفية.

الخيوط الأولى لهذه الأحداث لها تاريخ أكثر قدما، فمن الصحيح ان الانتهاكات في محافظة السليمانية ومحيطها كثيرة الا ان هناك عددا من الحالات تذكر كأمثلة بارزة وشاخصة على ذلك.

بعد اشهر من إنهاء التظاهرات الاحتجاجية لمواطني السليمانية بالقوة في نيسان (ابريل) من عام 2011 والتي استمرت ستون يوما وأدت الى مقتل عشرة أشخاص وجرح المئات، هاجم مسلحون الكاتب والصحفي المعروف آسوس هردي المدير المفوض لشركة آوينه في شهر آب (اغسطس) من العام نفسه ووجهت أصابع الاتهام حينها إلى مسؤول في الاتحاد الوطني اذ كتبت الصحيفة التي كان يديرها آسوس عنه فيما لم تحسم المحكمة الملف حتى الآن.

في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2013 قام مسلحون في السليمانية بإطلاق النار على شاسوار عبدالواحد مالك فضائية ان ار تي وأصابوه وفي تلك الحادثة أيضا وجهت اصابع الاتهام من جديد الى مسؤولي الاتحاد الوطني دون ان يتم العثور على المتهمين.

وفي شهر كانون الاول (ديسمبر) من العام ذاته قتل مسلحون الصحفي كاوه كرمياني في منزله في قضاء كلار جنوبي السليمانية، وكان جميع النشطاء والصحفيين في المنطقة يرددون اسم مسؤول في الاتحاد الوطني لأنه كان قد هدد الصحفي بالقتل عبر الهاتف وقد تم نشر المحادثة المسجلة بينهما إلا أن المحكمة لم تثبت شيئا في هذه الحالة أيضاً.

حادث آخر وقع في شهر تموز (يوليو) من هذا العام إذ اطلق مسلحون في بلدة قلعة دزة (شرقي السليمانية) وابلا من الرصاص على رجل دين يدعى احمد ديري واردوه قتيلا وقد تم ربط السبب بالمشكلات السياسية ولكن الأجهزة الأمنية أعلنت أن الحادث كان بسبب مشكلة اجتماعية.

العشرات من الحوادث الأخرى شهدتها منطقة نفوذ الاتحاد الوطني خلال الفترة الماضية من دون أن تحسم أي منها ويخضع المسؤولون الذين يوجه إليهم أصابع الاتهام للمساءلة.

في السابق كان الصحفيون او المنتقدون أو النشطاء في حدود محافظة اربيل يلجأون الى السليمانية اذا شعروا بالخطر على حياتهم لأنهم كانوا يدركون ان بإمكانهم الحديث هناك وانهم سيكونون في امان فيها، اما الآن فلم يبق ذلك الأمل أيضاً، ففي مثل هذا الوقت من العام الماضي وتحديدا في شهر ايلول (سبتمبر) تم اختطاف هيمن عبد الخالق وهو ناشط مدني في أربيل من قبل مسلحين وقد حلقوا رأسه وحواجبه فيما بعد وطردوه من اربيل وهو يعيش الآن في السليمانية.

كما تعرض الصحفي ابراهيم عباس الذي كان عضوا في الحزب الديمقراطي الكردستاني لمدة 25 عاما تعرض للضرب في شهر تموز (يوليو) في مدينة اربيل بعد نشره لمواد نقدية وهو الان “مهدد بالقتل” كما يقول.

ويرى عباس ان قادة الاتحاد الوطني “لم يعودوا مراقبين من قبل نوشيروان مصطفى وجلال طالباني ما دفعهم ذلك الى الوقوف بوجه كل صوت حر او اي شخص يقف ضد مصالحهم حسب معاييرهم كما يفعل الحزب الديمقراطي، وما حدث لفرهاد سنكاوي كان أمرا سيئا جدا للاتحاد الوطني والزون الأخضر”.

جلال طالباني الامين العام للاتحاد الوطني يعاني من المرض منذ عام 2012 فيما توفي نوشيروان مصطفى المنسق العام لحركة التغيير في أيار (مايو) من العام الحالي حيث يقال انه كان لهاتين الشخصيتين دور كبير في توسيع دائرة حرية التعبير في حدود مناطق نفوذ الاتحاد الوطني.

وولدت الاعتداءات والتهديدات لدى إبراهيم عباس قناعة بعدم الذهاب الى حدود الزون الأخضر وحول ذلك يقول: “مما لاشك فيه ان حياتي معرضة للخطر، يمكنني الذهاب الى مناطق نفوذ الاتحاد الا ان حياتي ستكون في خطر اكبر هناك فقد قال لي الأميركيون انه إذا تعرضت للقتل في السليمانية فسيقال إن حركة التغيير هي التي قامت بذلك اما إذا كنت في أربيل فلن يجرؤوا على قتلك”.

اليوم تكاد الأوضاع تكون متشابهة بالنسبة للصحفيين والنشطاء في أربيل والسليمانية، ان اغتيل صحفي هناك وقتل رجل دين هنا فلابد ان يحدث الامر نفسه في حدود السليمانية.

ومع اعتبار منطقة الزون الاخضر على أنها تتمتع بفضاء اوسع لحرية التعبير الا ان ازدياد الانتهاكات يكاد يسيء الى سمعتها مثل الزون الاصفر.

منذ عام 2008 وقعت مجموعة من حوادث الاغتيال ضد صحفيين ورجال دين، ففي عام 2008 اغتيل الصحفي سوران مامه حمه في كركوك وفي عام 2010 اغتيل الصحفي سردشت عثمان في اربيل كما شهد عام 2013 اغتيال كاوه كرمياني في كلار ثم ودات حسين في دهوك ورجل الدين هوشيار إسماعيل في أربيل عام 2016 وفي شهر تموز (يوليو) من العام الحالي اغتيل رجل الدين احمد ديري في قلعة دزة.

وعلى الرغم من عدم السماح للمعلمين بالتظاهر ضد تأخر الرواتب ونظام توفير الرواتب في الزون الاصفر الا ان معلمي السليمانية قاطعوا الدوام لأكثر من شهرين كما نظموا تظاهرات وقد انتهت المقاطعة بحرق سيارات منظمي التظاهرات، واشار رحمان غريب منسق مركز ميترو الذي ينشر الانتهاكات ضد الصحفيين كل ستة اشهر إلى أنهم لا يعدون الانتهاكات حسب المحافظات والمناطق بل يعرضون الانتهاكات على أساس وطني.

وقال غريب لـ”نقاش”: “لقد قلنا ان السلطات في الإقليم ينظرون الى حرية الصحافة بعقلية الجبل ومن يقيم في دهوك او السليمانية او اربيل يواجهون المصير نفسه، نحن لم نقل أبداً ان السليمانية هي أفضل من أربيل، هناك مجموعة من الأشخاص داخل الأحزاب في السليمانية والمتنفذين في الحكومة سيفعلون ما فعلوا في الجبال اذا تسنى لهم ذلك”.

وشدد منسق مركز ميترو على سوء الأوضاع الصحفية في الاقليم بشكل عام والامر يتعلق بالعقلية المتنفذة داخل الاحزاب حسب قوله.

اما الاجهزة الامنية فانها تتحاشى الحديث عن تلك الحالات وتقول ان الملفات هي في المحاكم فيما لم تتمكن المحاكم من البت في اي منها.

اليوم أصبح همّ الاصوات المحتجة يتمثل في عدم بقاء مكان يلجؤون اليه في كردستان فالحدود التي ارتسمت بسبب الحرب الاهلية بين القوتين المتصارعتين لم يعد هناك فرق بينهما بالنسبة اليهم واصبحت الجبهتان متشابهتين.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here