متى نعيش الحسين (بضمايرنا)؟

متى نعيش الحسين (بضمايرنا)؟
سليم الحسني

في أشد ظروف القمع والمضايقة للشعائر الحسينية، وفي أوج السخط البعثي على مواكب عاشوراء، صعد رجل شجاع المنبر، رمى ببصره بعيداً فتجاوز المسافات حتى بدا أمامه القصر الجمهوري وفيه يجلس يزيد العصر محاطاً بحرسه. فأيقن أن صوته سيصل الى هناك.
شعر الرجل الشجاع بجمرة مشتعلة من بقايا مخيم الحسين (ع) تستعر بداخله، أغمض عينيه، رأى النار لا تزال مشتعلة، وسمع صراخ الأطفال وبكاء السبايا، تأجج الغضب الثوري بداخله. تطلع في كلمات القصيدة التي كتبها المرحوم (عبد الرسول محي الدين)، وجدها مرسومة بالصور، لا كلمات فيها ولا حروف، إنما لوحات مرسومة بعضها فوق بعض.

حدّق الرجل الشجاع في الماضي، اخترق بعينيه التاريخ، فوجد المأساة الحسينية تتكرر عبر العصور، ورأى جموع الزوار والمحبين يقصدون ضريح أبي الأحرار.

كانت الأزمنة تتغير لكن يزيد نفسه باق في قصره، أحس بالنار في جوفه تزداد اتقاداً، ولسعته جمرة قادمة من كربلاء، فأدار وجهه صوب بغداد، يخترق بنظره الجدران والأسوار حتى ركزّ عينيه على يزيد العصر، والجموع أمام المنبر عارية الصدور، تنتظر كلمة منه، لكنه لم يقرأ قصيدته، فليست أمامه كلمات ليقرأها. إنه يرى صوراً متراصة تمتد من عاشوراء الى عاشوراء، ومن كربلاء الى كربلاء.

بلغت جمرة الغضب حنجرته فصدح بالصوت من فرط الألم: (يا حسين بضمايرنا).

لم تكن صرخة، ولم يكن صوت رادود، ولم يكن إيقاع لطم.. كانت ثورة حسينية بمعانيها ومفاهيمها وقيمها.
هناك في تلك البلدة البسيطة (خرنابات) من محافظة ديالى عام ١٩٧٧ انبعث بركان حسيني ثائر، سرعان ما شمل العراق، وكانت كل الآذان تسمع صوت الرجل الشجاع (يا حسين بضمايرنا).

يائسون وخائفون ومترددون، صدمهم الصوت، هزهم بقوة، حرّك فيهم الإرادة، ضخ فيهم العزيمة، فتحركت أقدامهم تقطع الطريق صوب كربلاء.

بقي الرجل الشجاع واقفاً على المنبر، ينظر الى صور القصيدة، فيحولها الى هتافات نارية، ويسمعها الناس فيصيرونها إرادة تغيير، فيما كان يزيد العصر يستعر غضباً على شيعة الحسين، يريد أن يبيدهم فلا يبقي لهم باقية.

بصوت الرجل الشجاع، شعر الجميع بأن الحسين (بضمايرنا)، يستنهض النفوس، ويبعث فيها القوة، فولدت أمة جديدة وكأنها آمنت بالحسين من جديد، فهتفت له: (بيك آمنا يا حسين بضمايرنا).
كان المحرك لتلك الأمة أبناء مدرسة الشهيد محمد باقر الصدر، فقد حملوا القصيدة في صدورهم، يتنقلون بها على المدن، وقائدهم الصدر يحثهم على ذلك، فقد وجد فيها الهتاف الثوري الذي يجب أن تسمعه الأمة كلها.

مرّ زمن طويل، وعوقب يزيد العصر بالموت، وتغيرت الأحوال، وتبدل حال الناس والبلاد.

في الحرية التي انتظرها الفقراء والمسحوقون طويلاً، جاء قوم تنكروا لهم، نسوا صرخة الرجل الشجاع، نسوا صوت (ياسين الرميثي) وهو يصدح:
لا حب محترف طامع
لا حب هاوي شبّ وغاب
حب المحترف عنده
بتحــقيـق الاربـاح حسـاب
نفث الرجل الشجاع وهو على فراش الموت، حسراته الساخنة، وهو يرى أن ثورته قد ذوت جذوتها، وخفتت شعلتها. فمضى تحت الثرى حزيناً، وكان من قبله قد مضى شاعر القصيدة، بحال أفضل، فلم يعلم بما فعلوه مع ابنه (علاء الدين) لأنه رفض عقود الفساد، طرده من وظيفته رجل اطلق بعضهم عليه زوراً اسم (مختار العصر).

ومرت سنوات أخرى، فهجمت جيوش يزيد ثانية تريد هدم كربلاء، فتجددت الثورة في نفوس انصار الحسين، واعادوا القصيدة وهم يهتفون:
صاحو اشركت يحسين
صحنه انت اصول الديـن
صاحـو بيكـم اكفرنـه
صحنـه بيك آمـنّـه

ازداد الجوع والفقر، وانتشر الفساد كما توقع شاعر القصيدة، وكما سمعها الناس من الرجل الشجاع، لكن صوتاً لا زال يصدر من قبر الشيخ الرميثي هادراً قوياً:
لابـد ماتجـي الساعـه
البيهـا ننتبـه ونعيد
أيها الرجل الشجاع، أيها الشاعر المبدع، رحمكما الله برحمته الواسعة، وعسى أن لا نخذل الحسين عليه السلام، فننتفض ضد الفاسدين، وعند ذاك سنكون صادقين حين نهتف (ياحسين بضمايرنا).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here