أبرز مقالات الكتاب العرب حول استفتاء استقلال كوردستان

يحظى استفتاء استقلال إقليم كوردستان المقرر إجراؤه يوم غدٍ الإثنين الموافق 25 أيلول/سبتمبر، باهتمام إقليمي وعالمي على المستويات السياسية والشعبية، وكذلك في أوساط المثقفين والكتاب، وفيما يلي أبرز مقالات الكتاب العرب التي تناولت موضوع الاستفتاء.

إنّه مثل حقّ الفلسطينيين!

نحن، الفلسطينيين، كنّا نقول، في السجالات الداخلية أو تلك التي مع الإسرائيليين، إننا لا نُريد “أكرَدة” القضية الفلسطينية لجهة توزيع شعبنا في دول عدة من دون أن يكون بإمكانه امتلاك إرادة جامعة تمكّنه من تجسيد حق تقرير مصيره في كيان دولاني مستقلّ، على اعتبار أن شعباً كالأكراد “أو كالكورد، كما يحلو لأصدقاء أكراد أن يُسمّوا شعبهم” لا يقلّ حقوقاً عنّا ولا يقلّ تجذّراً في التاريخ، ولا يقلّ تطلّعاً إلى الكرامة الوطنية والاستقلال، والآن، نحن مضطرون لرؤية فكرة الاستقلال من زاوية الأكراد أنفسهم في العراق “الذي لم يعد عراقاً” وخطتهم الذهاب إلى استفتاء شعبي يريدونه خطوة أخرى نحو بناء الدولة الكردية المستقلّة.

نظرة إلى تاريخ علاقة الدولة مع الأكراد تدلّنا على مدى ظّلم هذه الدولة، في الإقليم كله، للأكراد وحقوقهم الجماعية كشعب وثقافة وهوية ومصير، فالدولة التُركية تضطهدهم إلى الآن وتخوض حرباً ضدهم، وإلى سنين خلت حُرموا التعليم بلغتهم بحجة التتريك وفرض السيادة التُركية، وفي العراق، حصل الأمر ذاته من حيث استعدائهم وخوض حرب ضدهم بحجة التعريب وفرض السيادة، وفي سورية لاحقتهم الدولة وهجّرتهم ونكّلت بهم بحجة عروبة مدّعاة ووطن وسيادة، أما إيران فلم تشذّ عن هذه القاعدة فجعلتهم ضحاياها، في كل الدول المذكورة تمّ تهميشهم تماماً وإقصاؤهم واعتبارهم أعداء أو مجموعة مُشتبهاً بها دائماً، ما إن يتمّ تقريبها أو تحسين العلاقات معها حتى تنكفئ المعاملة وينعكس اتجاهها، بمعنى أن الدولة القومية في الإقليم لم تُنصف هذا الشعب ولم تعامل طموحاته وتطلعه إلى كرامة قومية ضمن الدولة من خلال صيغة سيادية تمنحه الأمان والحريات والتطور الطبيعي.

ومن هنا شعـوره بالمظلومية في ظل الدولة وإن تفاوتت من إقليم إلى إقليم ومن فترة إلى أخرى، فإذا بروايتهم مع الدولة رواية مظلومين على طول الخط وإن أبدوا مرونة في التعامل مع الدولة واستعداداً للتطبيع معها كمواطنين أو منطقة ذات حكم ذاتي ثقافي أو جغرافي.

على الغالب، الدولة هي التي أخفقت في تعاملها مع الأكراد وليس العكس، وموروث سايكس بيكو الاستعماري هو الذي خلق واقع انتشار الأكراد وتشتتهم في أربع دول، علما أن كردستان الممتدة من شرق تركيا إلى غرب إيران مروراً بالعراق وشمال شرقي سورية يُمكن أن تشكّل بسهولة إقليماً متواصلاً جغرافياً وثقافياً وسياسياً! وهو الواقع ذاته الذي جعل الدول المعنية، وإن تخاصمت إلى حدّ الحرب، تتعاون وتنسق وتتآمر لمنع الأكراد من تحسين أوضاعهم وتطوير كياناتهم السياسية وصولاً الى بناء دولة كردية، بل كانوا ضحية غزاوت وأعمال عسكرية من هذه الدولة أو تلك وبدعم هذه الدولة أو تلك لمنعهم من تحقيق ولو خطوة من مشروعهم في هذا الإقليم أو ذاك.

أما وقد تفكّكت سورية والعراق بسبب النظام المركزي ـ البعثي في الحالتين، واتسم المشروعان التركي والإيراني بنزعة إلى الهيمنة والتمدّد والعدوان ضد الأكراد، لم يبق لهم سوى استثمار ما طرأ واستجدّ للسعي إلى تطوير مشاريعهم السياسية، وهي مشاريع لا تروق لأي من الدول المعنية، فكيان سيادي كردي في شمال العراق يُشكل نموذجاً ونواة لدولة كردية في إقليم كردستان كله “أي في أربع دول قائمة”، ومن هنا اهتمام تركيا بسورية واستثمار الحرب الأهلية وظهور داعش لضرب الإقليم الكردي في شمال سورية ونزعته إلى بناء كيان سيادي ذات حكم ذاتي، ومن هنا اهتمام العراق بتفهّم إيراني وتركي بالضغط بكل الطُرق لمنع إجراء الاستفتاء العام في إقليم كردستان، ومما قام به نظام بغداد حشد قواته على حدود الإقليم كخطوة متقدّمة في الصراع لإجهاض تطلعات الشعب الكردي نحو سيادة واستقلال في إقليم هو في واقع الأمر كذلك!، ومن المفارقات أن نجد أن الدول المعنية وحلفاءها المتخاصمين الى حدّ الحروب الخفية والمُعلنة يتعاونون وينسّقون لمنع الأكراد من تحقيق حلمهم.

إن كل مناصر للقضية الفلسطينية لا يُمكنه إلا أن يؤيّد تطلع الأكراد إلى وطن مستقل سيادي، هذا على رغم علمنا بما طرأ على مفهوم حق تقرير المصير في القانون الدولي والعلوم السياسية في ضوء تجربة شعوب العالم منذ فترة ما بين الحرب العالميتين إلى الآن، صحيح أن هذا الحقّ يمكن أن يتجسّد في كيان سيادي أقل من دولة ـ ضمن حكم ذاتي متطور وعميق أو ضمن فيديرالية أو نظام الكانتونات كسويسرا أو غيرها من الأشكال كدولة ثنائية أو متعددة القوميات، لكن الدولة الإقليمية في مناطق كردستان لم تُفلح في أقلّ من هذا، وهي نفسها تفككت أو سالت عبـر الحدود وتمددت، الأمر الذي لا يترك للأكراد أي فُرصة حتى لضمان كيانهم وثقافتهم كشعب وجماعة ممتدة في عمق التاريخ والحيز الجغرافي، بل أجدني كفلسطيني أستمدّ الشعور بالأمل إذا ما استطاع الأكراد تحقيق حلمهم، وباعتقادي أننا في سيولةٍ تشكّلُ فرصاً لشعوب كالفلسطيني والكردي، وإن كانت تحمل في طياتها، أيضاً، الأخطار.

بعض العرب يتلهّون بدراسات وكتابات غربية تشكّك في كون الأكراد شعباً! وبعضهم لا يزال يُبرّر معارضة استقلالهم بحجة العروبة “يعني المشاعر القومية” ذاتها التي جرّتنا إلى التهلكة ـ في القضية الفلسطينية أيضاً، وهي من التبريرات أكثر مما هي ادعاءات تستحقّ التوقف عندها، وأنا من هنا، في الكرمل على ساحل حيفا، أنظر شمالاً إلى كردستان على أمل أن تأتي البُشرى للفلسطينيين من هناك!، وسأستسخف جداً بأولئك الفلسطينيين الذين سيُشيـرون إلى تأييد إسرائيل الرسمية للمسعى الكُردي من أجل الوقوف ضده!، فالوقوف ضدّه هو في الوقت ذاته بمثابة إطلاق عيار ناري آخر على الحق الفلسطيني وعدالة القضية الفلسطينية التي نُريد لها أن تتطوّر إلى ممارسة حق تقرير المصير على الأرض كما يحلم الأكراد!

مرزوق الحلبي
نقلاً عن صحيفة الحياة

جوهر الموضوع: نهاية الأمر الواقع

حتى كتابة هذه السطور قبل ثلاثة أيام على الموعد المحدد للاستفتاء، يبدو محسوماً أمر إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان غداً الإثنين، لكن هذا المقال ليس في وارد التكهنات في ما إذا كان الاستفتاء سيجرى في موعده المقرر أم أنه سيُلغى جملة وتفصيلاً، كما طالبت بغداد قبل أيام على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي، أم سيؤجل الى موعد آخر إذا قُدم بديل منه يلبي شروطاً محددة طالب بها الإقليم بحلول موعد يكون قد انتهى الآن في أي حال.

يُشار الى أن الطرف الكردي رفض التراجع عن إجراء الاستفتاء على رغم المناشدات والطلبات والتهديدات والعروض بما فيها “البدائل” التي كان آخرها وأبرزها ذلك الذي قدمه وفد أممي برئاسة المبعوث الأميركي المنسق لعمليات المواجهة ضد تنظيم “داعش” بريت ماكغورك، وضم إضافة إلى السفير الأميركي في بغداد نظيره البريطاني وممثلاً عن الأمم المتحدة، المسعى الأميركي سبقته وتبعته مساع أخرى من دول المنطقة شملت السعودية وإيران وتركيا وكلها لم تجد أذناً صاغية من الطرف الكردي الذي تمسك بموقفه مطالباً، في مقابل التأجيل الى موعد محدد وليس الإلغاء، ببديل تسنده ضمانات دولية مكتوبة تعترف بحق الإقليم في إجراء الاستفتاء وفي دولته الوطنية.

تلك المساعي أجمعت على رفض الاستفتاء تأييداً لوحدة العراق، معتبرة أن إجراءه ليس في وقته، لأن المعركة ضد “داعش” لم تنته، الأمر الذي يستدعي تركيز كل الجهود على هذه المعركة، ومن نافل القول أن المساعي المذكورة خيبت الطرف الكردي واعتبر أنها، خصوصاً الموقف الأميركي، شجعت بغداد، حكومة وأحزاباً وبرلماناً وقضاءً، على تصعيد موقفها العدائي حيال الإقليم وإطلاق التهديدات التي وصلت الى حد التلويح باستخدام القوة ضده وحتى تحريض تركيا وإيران على ذلك، المحادثات مع ماكغورك لم تنجح لأن “البديل” الذي قدمه لم يكن عملياً جديداً، بل هو تكرار بصيغة مختلفة لاقتراحات أبلغها إلى الطرف الكردي قبل أشهر ومفادها أن تؤجل أربيل الاستفتاء في مقابل أن تسهل واشنطن والأمم المتحدة إجراء مفاوضات مع بغداد من دون أي جدول أعمال وضمانات تتعهد بها الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبرته أربيل تسويفاً وعديم الجدوى.

على رغم أن الطرف الكردي لم يكن يتوقع أن تعلن واشنطن تأييدها علناً الاستفتاء لكنه لم يتوقع الموقف المتشدد جداً الذي اتخذه المبعوث الأميركي خلال المحادثات مع القيادات الكردية وفي تصريحاته لوسائل الإعلام، وهو ما “شجع” بغداد على التصعيد مع أربيل، وفق سياسي كردي بارز قريب من عملية التفاوض، كالنظام الإيراني المعادي لأميركا”، موقف ماكغورك هذا حمل مفاوضين كرداً على الشك بإمكان نجاح مفاوضات يديرها أو يسهلها مبعوث يفتقد إلى مرونة مطلوبة في مثل هذه المهمات الحساسة، وذلك وفقاً للسياسي الكردي في حديث مع كاتب هذه السطور طلب فيه عدم الكشف عن هويته، معتبراً أن ماكغورك منحاز الى بغداد “ترضية للإسلاميين الشيعة المرتبطين بمواجهة “داعش” وكل ما عدا ذلك مجرد عراقيل تتعين إزاحتها عن الطريق”.

لعل الإصرار الكردي على عرض مكتوب وضمانات دولية حمل الأمم المتحدة على مبادرة لاحقة تمثلت في ورقة قدمها ممثلها في العراق يان كوبيتش قيل إنها حظيت بقبول الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ما حدا بالرئيس فؤاد معصوم إلى تبنيها في إطار مبادرة أزمع على القيام بها، معتبراً أنها تستحق أن تكون بديلاً من الاستفتاء، تتضمن الورقة جدولاً زمنياً لمفاوضات تبدأ الآن “لحل المشاكـل العالقة وفق مبدأ الشراكة” على أن تنتهي المفاوضات خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات وفي حال فشلها يعود الإقليم إلى خيار الاستفتاء، ومن أجل تنفيذ ذلك تُشكل لجنة عليا مشرفة يرأسها رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس إقليم كردستان ويكون ممثل الأمم المتحدة عضواً فيها، بعبارة أخرى هناك نوع من التدويل للقضية.

المشكلة في هذه المبادرة أن الطرف الكردي لا يعول على الأمم المتحدة ويعتقد أنها غير قادرة على أن تلعب دور الضامن: ذاك أن أي اعتراف منها بحق الإقليم بإجراء استفتاء على أساس الحق في تقرير المصير سيواجه اعتراضات من دول لديها حساسية إزاء هذا المبدأ بسبب مطالب مماثلة من أقلياتها، على سبيل المثل، الصين التي تعاني مشكلة التيبت أو إسبانيا التي ترفض قرار البرلمان المحلي لكاتالونيا إجراء استفتاء على الاستقلال، إلى ذلك، المبادرة تقتصر على حلول في إطار الأمر الواقع لتركيبة العراق بينما الطرف الكردي يسعى إلى علاقة مختلفة تماماً بين الإقليم والعراق.

من جهة أخرى، المبادرة لا ترضي بغداد أيضاً لأنها ترفض أي شكل من أشكال التدويل، مشيرة إلى أن ورقة الأمم المتحدة تعترف عملياً بالاستفتاء وهو ما ترفضه بغداد، العبادي رفضها لأنها تضمنت الاستفتاء فيما زعيم حزبه “الدعوة الإسلامية”، نوري المالكي، رفضها بصفته رئيس ائتلاف الأحزاب الشيعية معتبراً أنها تخالف الدستور العراقي، فيما الطرف الكردي رفضها ضمناً لأنها تعني من وجهة النظر الكردية العودة إلى المربع الأول في العلاقة مع بغداد، بعبارة أخرى مبادرة معصوم كان مصيرها أشبه بوليد ميت.

قصارى الكلام: بدا أن الطريق مسدود أمام مساعي الوصول إلى تقريب المواقف باتجاه تأجيل الاستفتاء، لكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد الاستفتاء؟ السؤال ذاته يطرح نفسه ماذا بعد تأجيل الاستفتاء وهو احتمال ظل الأضعف حتى أيام تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الموعد المقرر لإجرائه؟

التكهن بما سيحدث يدخل في باب التنجيم، لكن الأكيد أن الاستفتاء، إن أُجل أم أُجري، يشكل نهاية عراق الأمر الواقع.

كامران قرداغي
نقلاً عن صحيفة الحياة

لكنْ من الذي يقسّم العراق؟

لا يلقى استفتاء الأكراد قبولاً في المنطقة والعالم، الجميع تقريباً رفضوه، إيران وتركيا الأعلى صوتاً ضده في المنطقة، القوى الدولية الكبرى أجمعت على رفض إجرائه كل بطريقتها، تزعمت الولايات المتحدة، المتهمة دوماً بأنها تتآمر لتقسيم العراق، حملة الرفض، وضغطت سعياً لإلغاء الاستفتاء، تطابق موقفها مع الذين يؤكدون في كل مناسبة، ومن دون مناسبة، أن تقسيم العراق هدف أميركي، وجزء من مؤامرة تستهدفنا.

لا يجيب رافضو الاستفتاء عن سؤالين محوريين: أولهما ما إذا كان العراق مُوّحداً حقاً، والثاني عن الوزن النسبي لكل من الواقع المُر المثقل بمآسي الماضي، والحلم التاريخي بإقامة دولة كردية مستقلة، في تفسير تفضيل معظم الأكراد انفصالاً تزيد مغارمه كثيراً عن منافعه.

السؤال الأول يبدو أسهل، العراق دولة واحدة رسمياً، ونظامها اتحادي “فيديرالي” دستورياً، لكن الواقع ينطق بأنه مُفكَّك جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وأن العلاقة بين مركزه في بغداد وبعض أقاليمه تقترب من الصيغة التعاهدية “الكونفيدرالية” التي تتيح أوسع استقلال ذاتي، فيما يحظى إقليم كردستان باستقلال شبه كامل يتجاوز هذه الصيغة.

حضور السلطة المركزية في معظم الأقاليم بين متوسط وضعيف ومعدوم سياسياً واقتصادياً، الميليشيات المذهبية التي تسند قوتها العسكرية النظامية لا تساعد في دعم حضورها، بل تخلق ضغائن وأحقاداً تزيد هذه السلطة ضعفاً على المستويين السياسي والاجتماعي.

وبخلاف السؤال عما إذا كان العراق مُوحّداً، يبدو سؤال الوزن النسبي للواقع والحلم صعباً، يتعذر منهجياً قياس أثر الأحلام في الواقع، لكن معظم الحالات التي أُثير فيها جدل حول انفصال إقليم عن دولة، أو حدث فيها هذا الانفصال فعلياً، في العقود الثلاثة الأخيرة، تفيد بأن الإنسان يُفضل الحفاظ على واقع يشارك في تحديد معالمه، وإدارة شؤونه، ويتمتع فيه بحياة كريمة، حتى إذا كان لديه حلم أكبر.

ويدل بعض هذه التجارب على أن الغالبية لا تسير وراء حلم انفصالي ما دام الواقع مقبولاً، ولا تغامر بما لديها من أجل ما لا تملك يقيناً بأنه سيكون أفضل، ولذا رفضت الغالبية في كيبك الانفصال عن كندا مرتين في 1980 و1995، وكذلك فعلت الغالبية في اسكتلندا في استفتاء الانفصال عن المملكة المتحدة في 2014، والأرجح أن تكون نتيجة الاستفتاء على انفصال كاتالونيا عن إسبانيا مشابهة إذا أُجري في الموعد الذي تصر عليه حكومة الإقليم مطلع الشهر المقبل.

أما الحالات التي وافقت فيها غالبية سكان إقليم على الانفصال فهي التي كانت مرارة الواقع فيها أقوى من حلاوة أي حلم، سواء بسبب حرب أهلية طاحنة في السودان انتهت بانفصال جنوبه، أو بفعل تطهير عرقي شديد أدى إلى تأييد أكثر من 90 في المئة من سكان كوسوفا الانفصال عن صربيا في 1999، أو نتيجة تهميش واضطهاد دفعا الإريتريين إلى تمرد مسلح فرضوا في نهايته إجراء استفتاء وافق فيه أكثر من 95 في المئة على الانفصال عن إثيوبيا.

وفي كل هذه الحالات لا يتحمل الإقليم المنفصل المسؤولية الأولى عن الانفصال، بل السلطة المركزية بسياساتها وممارساتها، وحالة أكراد العراق ليست مختلفة، وما الاستفتاء الذي أصروا عليه، وهم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من الانفصال فعلياً في المدى المنظور، إلا نتيجة لمقدمات طويلة قادت إليه.

لم يأت هذا الاستفتاء من فراغ، وليس إصرار الأكراد على إجرائه إلا هرباً من واقع يؤلمهم، وسعياً إلى تضميد جروح أصابتهم عقوداً طويلة.

ولذا، ورغم أنه يصعب منهجياً قياس الوزن النسبي لواقع الأكراد وحلمهم، ثمة ملاحظتان تفيدان في إجراء هذا القياس تقريبياً، الأولى أن الأحلام القومية ليست خالدة، أو مستعصية على الزمن، ولا هي مصبوبة في قوالب جامدة يستحيل الخروج منها مهما تقادمت وفعل الزمن فعله فيها، والثانية أنه ليس صعباً قياس مدى قوة أثر الواقع عبر طرح السؤال التالي: هل تفضّل جماعة إثنية ما تعاني قهراً وتمييزاً، الانفصال إذا توافرت لها الفرصة في غياب حلم إقامة دولة مستقلة؟.

الجواب نعم، ليس لأن هذا رد فعل طبيعي فقط، ولكن لأن الحالات التي انفصلت فيها أقاليم لم تكن لديها أحلام قومية تؤكده، الواقع، إذاً، أكثر إنباءً بدوافع الانفصال مقارنة بأي حلم، وهذه حال أكراد العراق الذين يفضل أكثرهم الانفصال بفعل المرارات التي تراكمت منذ بدأت تجربتهم مع حزب البعث، كانت تجربتهم تلك أكثر مرارة من تجربة أحد أبرز قادة الحزب “منيف الرزاز” معه، والتي سجلها في كتابه “التجربة المُرة” (1966).

منح البعث الأكراد حكماً ذاتياً في بداية حكمه (1970) لكي يتفرغ لاستئصال المعارضة في بقية أنحاء البلاد، ثم انقض عليهم عندما فرغ من غيرهم، واستخدم ما في جعبته لفرض هيمنته عليهم، بما فيها الإبادة العرقية في حملة الأنفال، والغازات السامة في مذبحة حلبجة، في 1988.

وفيما أتاح فرض حظر جوي فوق إقليم كردستان، عقب حرب تحرير الكويت، حماية للأكراد من طغيان سلطة باطشة، فإنه كرَّس الشعور في أوساطهم بأن انفصالهم خير من بقائهم في كيان يفتقدون فيه المساواة والكرامة والحرية والعدل.

وبعدما أعاد إسقاط نظام صدام حسين إليهم الأمل بإمكان بناء دولة يتوافر لهم فيها ما افتقدوه، تعذر تحقيق مصالحة تاريخية بعد انفلات التطرف المذهبي والسياسي من عقاله.

وهذا هو السياق الذي يصح أن نقرأ فيه دلالة الاستفتاء، قد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لإجرائه، وربما أرادت قيادة إقليم كردستان الهروب إلى الأمام وتغطية أزمة في داخل الإقليم بدل السعي إلى حلها، غير أن الأكراد ليسوا هم من يقسّمون العراق، بل القابضون على السلطة في بغداد حين يُبدّدون فرصة قد تكون أخيرة لتوحيده عبر معالجة اختلالات هائلة أدت إلى انفصال شعوري بين فئاته الاجتماعية، وفي داخل معظم هذه الفئات، وليس عن طريق تنظيم الحملات لإدانة استفتاء يُعد أحد تداعيات تلك الاختلالات.

ثمة فرصة أخيرة، والطريق إلى الإمساك بها معروفة لمن يرغب، إنها طريق بناء دولة وطنية تقوم على المواطنة الحقة، ويكون العراقيون جميعهم مواطنين أحراراً فيها.

وحيد عبدالمجيد
نقلاً عن صحيفة الحياة

المنتصر الذي لا يريد للمهزومين غير هزيمتهم

ثمة شيء محير فعلاً في الممارسات الانتصارية التي تشهدها دول المشرق الثلاث، أي العراق وسورية ولبنان، فالتحقق من أن النصر تم لأصحابه يجري كل صباح، بما يوحي بأن المنتصر مرتاب بنصره، ويريد أن يمارسه استباقاً لانكشافه، أو هو يريد أن يثبت شيئاً في هذا الوقت القصير الذي هو عمر النصر.

المنتصر غير أريحي على ما هي عادة المنتصرين، ولا يريد للمهزومين غير هزيمتهم، والمنتصر يبدو مستعجلاً، فما أن ينهي معركة صغيرة حتى يطوبها فتحاً، هو مبدئياً لا يحتاج إلى ذلك، لكنه يفعله، حزب الله لا يحتاج لأن يقول أن معركة الجرود هي النصر الثاني بعد النصر الأول في عام 2006 على إسرائيل، فهو في قوله ذلك عرض نصر تموز لمساءلة تشبه المساءلات التي تعرض لها نصر الجرود، وعلى رغم ذلك لم يتردد الحزب في تطويب “نصر الجرود” نصراً ثانياً.

الضيف الإيراني على محطة التلفزيون الموالية لطهران، لم يكن بحاجة لأن يقول للضيف الآخر الكردي العراقي “أنا أحدثك من هنا من بيروت وأقول لك أن أكراد إيران لا يتعرضون لاضطهاد”، بيروت بحسبه العاصمة الرابعة بعد طهران وبغداد ودمشق، التي يمكن لضيف إيراني أن يرفع إصبعه منها ملوحاً بأن النصر قد تم واكتمل، ناهيك عن أن إيران كان بإمكانها أن تمارس النصر في العراق من دون أن تعلنه على شكل صور عاشورائية تجتاح مناطق السنة “المهزومين”.

ليست هذه نرجسية المنتصر، ذاك أن للنرجسية صوراً أكثر خبثاً وذكاء، ثمة شعور مركب هنا، ثمة هزيمة أصلية تجثم على صدر المنتصر وتجعله غير مستوعب نصره، وفي مقابل ذلك ثمة شيء غير منطقي، وإن كان واقعياً، في مشهد النصر هذا، فالانتصار على الجماعة الأكثر عدداً في المنطقة يُنذر بانقلاب وشيك، ويؤسس لانعدام في التوازن لا يُطمئن.

السهولة التي يتم فيها إشهار النوايا في ظل النصر تدفع إلى التأمل في حال المنتصر، فسرعان ما تحول “الجسر الإمبراطوري” الذي ربط طهران ببيروت عبر العراق وسورية من وظيفته العسكرية، إلى صلة وصل مذهبية، الأمر كان يحتاج إلى بعض الوقت حتى تُدعم قواعد الجسر، لكن الذي جرى أن التحول لم ينتظر كثيراً حتى كشف عن وظيفته الأخرى، صار اليوم الطريق الذي سلكه الضيف الإيراني على محطة التلفزيون اللبنانية لكي يصل إلى بيروت ويؤشر منها بإصبعه للضيف الكردي، وعبر نفس الجسر جرى نقل عدة التشيع الجديد للشيعة اللبنانيين، وها نحن ننتظر عاشوراء غير تلك التي كنا نعيشها في السنوات اللبنانية لهذه المناسبة.

المهمة لم تنتظر اكتمال النصر ونضوجه وتحوله سياسة، المنتصر مستعجل ولا وقت لديه لكي تستقر الجماعات على واقعها الجديد، في العراق تشهد الموصل تسريعاً لخطوات الحشد الشعبي في إخضاع المدينة، وفي سورية قال رئيس النظام هناك إن الملايين الذين هُجروا لن يعودوا لأن عودتهم ستطيح “انسجاماً اجتماعياً” أرساه اقتلاعهم من بلادهم، وفي لبنان تجول سيارات المنتصرين في أحياء المهزومين رافعة رايات عاشورائية جديدة ومستقدمة عبر الجسر الإمبراطوري.

ثمة استثمار سيء للنصر العسكري، وهو استثمار مهدد لدوامه، ذاك أن النظام الذي اهتز في السنوات العشر الأخيرة وعاد والتقط أنفاسه، يُكرر أخطاء كادت تطيحه، فمن غير الفطنة جعل الشعيرة المذهبية بيرق النصر الوحيد، وتوسيع دائرة المهزومين يفتح شهية الراغبين في الانتقام، ويشهد على هذه الحقيقة حلفاء المنتصر من أبناء الجماعة المهزومة، إذ إن أصواتهم سرعان ما بدأت تصدر طالبة التروي استباقاً لانقلاب يلوح.

المشهد يسوده خلل كبير، النصر أنشأ اختلالاً هائلاً في التوازن، الضبط الديموغرافي نجح في تدمير مدن المهزومين، إلا أنه لم ينجح في إزاحتهم من طريق الجسر المذهبي الجديد، ملايين السكان انتقلوا من المدن إلى مخيمات في جوارها، المنتصر سيتعثر بهؤلاء النازحين قريباً، لا بل هو بدأ يتعثر، نزوح ملايين السنة من أرياف دمشق وحمص إلى لبنان أعفى حاكم دمشق من عبئهم المذهبي، لكنه أخل بتوازن ديموغرافي لبناني مهدد مستقبلاً لتفوق حزب الله، الأمر نفسه في الموصل، ذاك أن أهل الساحل الأيمن يقيمون اليوم في مخيمات ليست بعيدة عن مدينتهم، وسيعودون قريباً جزءاً من الحساب المذهبي.

لا يقيم المنتصر حساباً لهذا الاختلال الكبير الذي لن يكون في مصلحته في المستقبل القريب، لا يسعى إلى تأسيس نفوذ يعدل من أخطاره، يذهب في نصره إلى أقصاه، رافعاً شعيرة مذهبية لن تدفع المهزوم إلى التعامل بواقعية مع هزيمته.

ثم أن طغيان مشهد الانتصار يُغفل حقيقة أخرى، تتمثل في أن مساحات جغرافية وديموغرافية هائلة ما زالت خارج مشهده، القول أن النصر تم، صحيح إذا ما نظر المرء إلى المشهد من خارجه، أما من داخله فهناك الآلاف من الوقائع تؤشر إلى غير ذلك، فمدينة طرابلس اللبنانية مثلاً، يمكن أن يُمارس النصر عليها من خارجها، أما من داخلها فثمة وقائع تجري بعيداً من تأثير المنتصر، ويصح ذلك على مدن ومخيمات وتجمعات كثيرة، فيما ترسل المناطق التي يُمارس فيها الانتصار صورها مؤسسة لضغائن لا يبدو أن ثمة راغباً في التعامل معها.

السياسة لا تُفسر ما يجري، واستيعاب نصر ملتبس يحتاج إلى منتصر حكيم، نحن هنا حيال “نفس جماعية” تمارس النصر وهي مدركة استحالة تحوله حكماً وسلطة ومستقبلاً، أما السياسة هنا فتكمن فقط في أن ثمة راعياً لهذا النصر غير معني بمستقبل الجماعات المتناحرة في هذا الإقليم، لا بل هو راغب بتحطيمها، راع لا يمت إلى طبيعة العلاقات التي تربط الجماعات الأهلية بغير علاقة أيديولوجية سرعان ما يتم ابتذالها في نزاع مذهبي ها نحن نشهد اليوم ذروة صوره.

كل هذا لا يُلغي الذهول الذي يخلفه شعور المنتصر بأن نصره وجبة سريعة عليه هضمها على نحو سريع.

حازم الأمين
نقلاً عن صحيفة الحياة

عن الاستفتاء في إقليم كوردستان العراق

كل الأوقات ملائمة لاستقلال الشعوب، وكل الأوقات ملائمة لاستفتاء الشعوب حول كل قضية تخصها، وكل الأوقات غير ملائمة لاحتلال أي شعب لأرض أي شعب آخر وإخضاعه لاستعماره، وكل الأوقات غير ملائمة لاستفتاء أي شعب حول حقوق أي شعب آخر، كما تلمح وتخطط وتسعى حكومة إسرائيل لفرض ضرورة استفتاء الإسرائيليين حول أرض الفلسطينيين وحقوقهم، وحول مستقبل هضبة الجولان السورية التي تحتلها إسرائيل.

حقوق جميع الأمم والشعوب والدول معروفة، وهي حقوق طبيعية أزلية، لا تحول ولا تزول، وعندما يحصل أي خلاف حول هذه الحقوق بين أي شعبين أو دولتين، فإن الْبَتَّ في الخلاف معقود للنظام الدولي السائد في حينه، وهو في زماننا الراهن، نظام الشرعية الدولية، ممثلة بميثاق وقرارات هيئة الأمم المتحدة، وريثة «عصبة الأمم» التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الأولى، بمبادرة ودعوة من الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، صاحب وثيقة النقاط العشر، وأهمها: “حق جميع الشعوب (دون استثناء) في تقرير مصيرها بنفسها”، وعندما تتناقض قرارات الشرعية الدولية مع “الحق الطبيعي” في الحرية والاستقلال لأي شعب، ينشب الصراع الذي يمكن له أن يبدأ بـ”حرب عصابات” و”عمل فدائي”، (تقره الشرعية الدولية)، ويمكن له أن يتطور إلى حرب قد تنتشر وتتسع، إلى درجة استحقاقها اسم حرب عالمية.

هكذا هو الحال المتفجر في إقليم كردستان العراق، وهكذا هو الحال المزمن في فلسطين.

تتبارى هذه الأيام دول عظمى ودول قوية ودول متوسطة، بل ودول مارقة، إضافة إلى منظمات دولية وإقليمية، يقتصر دورها وتخصصها، (مثل تنظيمات وفصائل فلسطينية)، بإصدار بيانات وتعميم نصائح، تتضمن مناشدة قادة إقليم كردستان العراق، تأجيل الاستفتاء على استقلال الإقليم، (رغم الإعلان المسبق لهؤلاء أنه استفتاء غير ملزِم)، بحجة أن “الوقت غير ملائم”.

ألا يحق لأبناء وقادة الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق وفي سوريا إيران وتركيا، أن يسألوا هؤلاء “الناصحين”:
ـ متى يكون الوقت ملائماً للاستقلال، ولإجراء الاستفتاء عليه؟.
ـ ألم نمُرّ، على مدى قرن من الزمان حتى الآن، هو عمر اتفاقية سايكس بيكو، التي وزعت أبناء الأُمة والشعب الكردي الواحد على أربعة كيانات سياسية، خاضت فيما بينها حروباً عديدة، كان أبناء الشعب الكردي خلالها موزعين على جبهتي القتال، يقاتِلون ويقتَلون بعضهم بعضاً، في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بـ”وقت ملائم”؟.

صحيح أن المنطقة كاملة، حتى وجوارها وبعض البعيدين أيضاً، تمر بمرحلة صراعات دموية محزنة، لكن هذا ليس مبرراً لتأخير استقلال أي شعب كان، والأكراد والفلسطينيين أولاً، ولو لساعة واحدة فقط، هذا حق طبيعي لهما، وبعد إنجازه على أرض الواقع، يصبح من الطبيعي أن يطالِبوا، وأن يطالَبوا، بالمساهمة في الحرب على الإرهاب وعلى كل ظلم وخلل في المنطقة، وغيرها، سعياً إلى عالم يسوده السلام والاستقرار.

لمن فاتته تفاصيل هذه القضية، أو نسي بعضها أو كلها، يمكن التذكير بحقائق لا بد من معرفة دقائقها لتتوضح الصورة، أولى هذه الحقائق أن التوجه الجدي لاستقلال الإقليم أصبح بحكم الأمر المتوقع في “مستقبل منظور”، منذ غزو العراق للكويت، وما آلت إليه مغامرة الزعيم والرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، وظل الوضع يتطور باتجاه الاستقلال، إلى أن تشكل البرلمان الكردستاني، وتمكن من بدء تسيير أموره بقرارات ذاتية، وأقر الستور العراقي الجديد للعام 2005، اعتبار أن الإقليم يرتبط بالعراق بعلاقات فيديرالية، وكان من المتوقع إجراء الاستفتاء الذي نحن بصدده، صيف العام الماضي، وكانت الأحداث، من دموية وغير دموية، لكنها فرضت ظلالها الثقيلة على مجمل الأحوال في الإقليم وفي العراق وفي محيطهما أيضاً، تحول دون ذلك.

في السابع من حزيران/يونيو الماضي، دعا رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، إلى اجتماع في العاصمة، أربيل، حضره الحزب الديمقراطي الكردستاني، (الذي يرأسه البارزاني)، والاتحاد الوطني الكردستاني، (الذي يرأسه جلال طالباني)، وهما التنظيمان السياسيان الكرديان الأكبر، إضافة إلى الغالبية الساحقة من التنظيمات الكردية الأخرى قي الإقليم وخارجه في العراق، “إقليم كردستان العراق يتكون من ثلاث محافظات، هي: أربيل، السليمانية ودهوك، ومناطق أخرى متنازع عليها، أهمها كركوك”، كما حضر الاجتماع: قائمة أربيل التركمانية، الجبهة التركمانية العراقية، حزب التنمية التركمانية، قائمة الأرمن في برلمان كردستان، الحركة الديمقراطية الآشورية والمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، وصدر عن هذا الاجتماع قرار إجراء الاستفتاء (غير المُلزِم) على الاستقلال، وقرر المؤتمرون أن يكون الاستفتاء متاحاً بثلاث لغات أخرى غير الكردية، هي العربية، السريانية والتركمانية، وأن تكون صيغة سؤال الاستفتاء: «هل تريد أن يصبح إقليم كردستان والمناطق الكردية التي هي خارج الإقليم كدولة مستقلة؟”.

أمران مقلقان في تعاطي الحكومة العراقية في بغداد والدول المحيطة بإقليم كردستان العراق، مع ملف الاستفتاء الكردي على استقلال إقليمهم، وفي تعاطي وطنيين وقوميين عرب مع هذا الملف:
الأمر الأول هو تحركات وتلميحات وإيحاءات وصل بعضها حد التهديد المبطن أو السافر بعمل عسكري مباشر ضد الإقليم وسكانه وقادته، فمسلسل زيارات عسكريين إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وليس وزراء خارجية أو تعاون دولي أو وسطاء مدنيين مثلاً، ونشر أنباء عن استعداد هذا الطرف أو ذاك لشن هجوم عسكري على مناطق الاستفتاء، وتكذيب “مُمِغمغ” لهذه التسريبات، وتحشيد معلن لقوات عسكرية على حدود الإقليم، كلها أحداث وتطورات مثيرة لقلق مشروع، ويمكن تسجيل بعض هذه الأحداث والتحركات والتسريبات على النحو التالي:

ـ زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الإيراني، محمد حسين باقر، للعاصمة التركية أنقرة، منتصف الشهر الماضي لبحث موضوع استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق، وانعكاس ذلك على الأقليات الكردية الكبيرة جداً في البلدين “وخاصة في تركيا”.

ـ تزامن هذه الزيارة مع تسريب أنباء من إيران عن تحشيد قوات إيرانية في مناطق تتواجد فيها عناصر من تنظيم سياسي كردي إيراني، هو تنظيم “الحياة الحرة في كردستان”، وهو ما يعتبره كثيرون الفرع الإيراني لحزب العمال الكردي في تركيا، المعروف باسمه: بي كي كي، والذي أسسه عبدالله اوجلان، الأمر الذي يوحي باحتمال تنسيق عملية عسكرية تركية- إيرانية، ضد الأهداف الكردية، برغم كل الخلافات الهائلة بين البلدين حول الغالبية العظمى من شؤون المنطقة، وتكاد لا تلتقي إلا عند نقطة توافق البلدين والقوميتين العثمانية التركية والفارسية الإيرانية محاربة تحرر أبناء الأمة الكردية، وربما نقطة تمكين الدول العربية من استقرار دولها واستفادة شعوبها من خيراتها.

ـ رافق ذلك أيضاً تسريب أنباء من إيران، أن الحكومة العراقية “تخطط لهجوم عسكري على أربيل”، وهذا ما سارعت حكومة بغداد إلى نفيه.

قبل أن نصل إلى الأمر المقلق الثاني في هذا الملف، يجدر بنا التذكير بحرص إيران، “وإسرائيل أيضاً”، أن سبب انزعاج إيران من موضوع الاستفتاء، وربما لاحقاً استقلال إقليم كردستان العراق، ليس نابعاً من هذا التطور بحد ذاته فقط، وإنما يعود أيضاً إلى علاقة إسرائيل بكردستان.

هنا نصل إلى بيت القصيد الأخير: وهو ادعاء كثيرين من الوطنيين والقوميين العرب، أن موقفهم السلبي، بل والمعادي لاستقلال إقليم كردستان العراق، يعود إلى “خيانة” بعض القيادات الكردية، وقبولها نسج تحالف سري، “أو كان سرياً على الأقل”، بين الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل، ثم مع إسرائيل لاحقاً.

يتناسى هؤلاء، وغالبيتهم بحسن نية، أن ما لقيه الأكراد من ظلم وإجحاف بحقوقهم من قبل قيادات عربية في العراق وسوريا، على مدى عشرات العقود، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا التحالف المرفوض، وجدير بهم أن يتمعنوا بمقولة تشرشل الشهيرة، بأنه مستعد للتحالف مع الشيطان في مواجهة هتلر والنازية.

أخيراً، إن تصرفاً عربياً حكيماً مع الأكراد، وحقهم في التحرر والاستقلال، هو مفتاح إقامة تحالف عربي كردي مثمر ومستمر، وهو مفتاح إقفال باب التحالف الإسرائيلي الكردي، لا يمكن للمرء أن يكون صادقاً وعادلاً في تأييده لتحرر الشعب الفلسطيني واستقلاله، وأن يكون في الوقت ذاته رافضاً ومعادياً لتحرر الأكراد واستقلالهم.

الكاتب عماد شقور
نقلاً عن صحيفة القدس العربي

إيران وتركيا في مواجهة الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان

لا شك أن في قرار الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان مجازفة كبيرة من كرد الإقليم وقيادته السياسية، فجميع الأفراد والقوى السياسية والدول، المعنيين بالموضوع وغير المعنيين على السواء، قد تركوا جانباً كل ما يغوصون فيه من مشكلات معقدة وركزوا على الاستفتاء الذي اقترب موعده بوصفه “يوم القيامة”، يستثنى من ذلك فقط إسرائيل التي أعلنت ترحيبها بقيام دولة كردية مستقلة، لأسباب تخصها.

نعم، إنه يوم القيامة حقاً بالنظر إلى أن كل شيء سيتغير في الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة الكردية إذا تسنى لها أن تولد بعد مخاض عسير، العلاقات بين الدول، والتحالفات، والمزاج العام في مجتمعات هذه الدول، والأفكار المسبقة الثابتة منذ قرن إلى اليوم، وآفاق تطور هذه الدول والمجتمعات.. أي باختصار، كل شيء.

لهذا السبب نرى مقاومة كبيرة جداً للاستفتاء الذي من شأنه أن يسند حق تقرير المصير إلى أرضية صلبة من الشرعية الشعبية، وتنقسم الاعتراضات، النظرية إلى الآن، إلى رزمتين: أساسية وفرعية، أما الاعتراض الأساسي فهو ينطلق من مزيج من الإيديولوجيا والمصالح القومية، ليرفض فكرة استقلال الإقليم “أو حق الكرد في تقرير مصيرهم” رفضاً مبدئياً قاطعاً، هذا هو موقف حكومات الدول الإقليمية الأربع، إيران والعراق وتركيا والنظام الكيماوي في سوريا، يدعمه رأي عام مجتمعي متفاوت التشدد والشمول.

أما الاعتراضات القائمة على ما سيثيره استقلال الإقليم من مشكلات فرعية، فهي اعتراضات محقة تتعلق بحياة قطاعات كبيرة من السكان، ولا بد من معالجتها بطريقة عقلانية تشاركية، إلا حين يتم استخدامها لتمويه رفض أيديولوجي غير معلن لفكرة حق الكرد في تقرير مصيرهم، أي أن واقعية وأحقية مشكلات تتعلق بترسيم الحدود وعودة المهجرين وحقوق المكونات الاجتماعية غير الكردية.. شيء، واستخدامها كذرائع لرفض فكرة كردستان المستقلة جملة وتفصيلاً شيء آخر تماماً.

لنركز الآن على حظوظ قيام كردستان مستقلة، في أعقاب تسلح قيادة الإقليم المتوقع بنتائج الاستفتاء التي تبدو محسومة لمصلحة الاستقلال، في محيط معاد من الدول التي أعلنت حكوماتها مواقف رافضة، مرفقة بجرعات متفاوتة من التهديد والوعيد، يمكن القول، على ضوء التصريحات المتطايرة لساسة هذه الدول، إن إيران هي الأكثر تشدداً في عدائها لقيام دولة كردية مستقلة على حدودها الغربية، وخاصة ضد القيادة بارزانية التي تربطها علاقات تاريخية مع كرد إيران، وقد قاتل الملا مصطفى بارزاني شخصياً مع كرد إيران ضد قوات طهران الشاهنشاهية في أربعينات القرن الماضي، وتبدو طهران الإسلامية اليوم جادة في وعيدها بإغلاق الحدود لخنق الكيان الوليد، إذا قيض له أن يولد.

أما تركيا الأردوغانية فموقفها أكثر التباساً من إيران، بالنظر إلى العلاقات المميزة التي ربطت بين أنقرة وأربيل في السنوات الماضية، في التصريحات العلنية تبدو القيادة التركية متشددة ضد استقلال الإقليم، مثلها مثل الإيرانيين، وقد توعد أردوغان، في آخر تصريحاته بشأن الاستفتاء، بعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي، وآخر للحكومة، لإعلان الموقف الرسمي النهائي من الاستفتاء وما يمكن اتخاذه من إجراءات عملية، هذا الوعيد يوحي بقرارات متشددة، يشتط خيال بعض غلاة القوميين الأتراك بشأنها وصولاً إلى احتمال إعلان الحرب، وهو ما قام رئيس الوزراء بنعلي يلدرم باستبعاده حين قال إن الحروب تقوم بين دولتين، في حين أن إقليم كردستان هو جزء من دولة العراق، ويمكن أن نفهم من التصريح أيضاً أن الحرب مستبعدة ما دام الأمر يتعلق باستفتاء، لكنها قد تكون احتمالاً واقعياً إذا تحول الإقليم إلى دولة مستقلة.

بعيداً عن هذه التصريحات التي تطلق عادةً لحسابات سياسية داخلية، فإن مدى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الإقليم وتركيا هو مما لا يمكن تجاهله حين يتعلق الأمر بوضع استراتيجيات طويلة الأمد، ومن شأن التشدد الإيراني ضد الإقليم، واستتباعاً موقف الحكومة المركزية في بغداد، أن يجعل من تركيا الصديق الوحيد للإقليم بعد أن ينال استقلاله، ومنفذه البري الوحيد إلى العالم، وهذا مما يمنح تركيا، بالمقابل، وضعاً ممتازاً في تنافسها الإقليمي مع إيران، وحتى في علاقاتها مع بقية العالم، بالنظر إلى العزلة السياسية الشديدة التي ترزح أنقرة تحت وطأتها منذ بضع سنوات، بما في ذلك، خاصةً، علاقاتها المتدهورة مع الأمريكيين والأوروبيين، وليس لتركيا أصدقاء في محيطها الجغرافي باستثناء إقليم كردستان، بعدما انتهت سياسة داوود أوغلو الشهيرة “صفر مشاكل مع دول الجوار” إلى الفشل التام، وباتت تركيا ملحقة بالقطب الروسي في إطار مسار آستانة الخاص بالمسألة السورية، وتعرف تركيا، بخبرة تاريخية تمتد لقرون، أن علاقة الصداقة مع روسيا هي كصداقة الشاة مع الذئب، لا يمكن أن تأمن جانبها على المدى الطويل، في حين أن العلاقة مع إيران هي علاقة تنافس ندية، قد تتخللها مصالح مشتركة، لكنها لا يمكن أن ترتقي إلى تحالف دائم متين.

من المحتمل أن التحالف السياسي بين أردوغان وزعيم التيار القومي المتشدد دولت بهتشلي، الذي أثمر تحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، سيستمر وصولاً إلى انتخابات العام 2019 الرئاسية والبرلمانية التي يعتمد أردوغان عليها لإدامة حكمه المديد، هذا التحالف القلق يتطلب من أردوغان إظهار موقف متشدد من احتمال استقلال الإقليم، مع استمرار حربه الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني، لكن هذه الحرب تبدو بلا أفق سياسي، أي لا يمكن ترجمة الانتصار المستحيل فيها إلى نتائج سياسية، ما لم تتم العودة إلى مسار الحل السلمي، وهو ما يحتاج أردوغان لتحقيقه إلى مساعدة سياسية من مسعود بارزاني.

يمكن القول، على ضوء هذه اللوحة المعقدة، إن تركيا ستسعى جهدها لإقناع بارزاني بتأجيل الاستفتاء إلى زمن غير محدد، وهو ما يمنحها فسحة زمنية لترتيب بيتها السياسي الداخلي من منظور ديمومة حكم العدالة والتنمية ورئاسة أردوغان، في حين أن إصرار بارزاني على إجراء الاستفتاء سيضع أردوغان في الزاوية الصعبة ويربك كل حساباته السياسية، ولكن إذا تم الاستفتاء في موعده، برغم كل شيء، فالمرجح أن تتغلب حسابات المصلحة القومية لتركيا فتتعامل مع نتائج الاستفتاء كأمر واقع، وتتطور العلاقة الكردستانية ـ التركية إلى صداقة مديدة قائمة على المصالح المشتركة، وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً على علاقة الدولة التركية مع كردها في الداخل أيضاً.

لا يتسع المجال هنا للنظر في مواقف الدول العظمى من الاستفتاء والاستقلال، ولا شك أن مواقف الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا ستلعب دوراً حاسماً في حظوظ الإقليم في نيل استقلاله.

بكر صدقي
نقلاً عن صحيفة القدس العربي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here