انتفاضة السجناء الشيوعيين في سجن الحلة عام 1967

نصيف جاسم الحجاج
بعد ان نقلت من سجن نقرة السلمان الى سجن الحلة نهاية عام 1965، وردنا من الحزب توجيه يدعونا فيه الى اجراء انتخاب هيئة ادارية داخل السجن (الذي كان تعداده انذاك اكثر من 600 سجينا)، لغرض ادارة كافة النشاطات الادارية والمعاشية. فتم ذلك وجرت الانتخابات بحرية تامة, ورشح من رشح. حيث تم انتخاب احد عشر عضوا، خمسة منهم من السجن الجديد، وستة من السجن القديم، وانتخبتني الهيئة رئيساً لها. كما انتخبت الرفيق انور علوش مسؤولا لادارة السجن الجديد والفريد سمعان مسؤولا لهيئة السجن القديم. وتم تقسيم كافة الاعمال والنشاطات الادارية والثقافية والمعاشية وغيرها بين اعضاء اللجنتين. واخبرنا الحزب بتفاصيل ذلك. وسارت الامور والاحوال – الى حد ما – بصورة منتظمة برغم بعض المعوقات التي لا بد منها.
وفي منتصف عام 1966 دعوت الكادر الحزبي المتقدم في السجن إلى حضور (كونفرنس) حزبي موسع لمعالجة بعض الامور الحزبية والمشاكل الادارية، وانتخاب لجنة تنظيم حزبية جديدة، فحضر الاجتماع – من السجن الجديد –حوالي العشرين من الرفاق المتقدمين حزبيا، ومنهم عدد من الضباط العسكريين وعلى رأسهم العميد ابراهيم الجبوري, الملقب بـ (الخال). واستمر الاجتماع يومين اتخذت فيه القرارات الجماعية لحل كافة المشاكل المطروحة. وفي ختام الاجتماع طلبت من المجتمعين انتخاب هيئة تنظيم حزبية جديدة. ونظراً لثقتهم الوطيدة باللجنة القائمة فقد تم انتخابها ثانية بالاجماع. وهكذا استمرت اللجنة في عملها.
بعد فترة وجيزة وصلنا بالبريد الحزبي خبر مفرح بأن الحزب على ابواب القيام (بعمل حاسم) وهو يدعونا للعمل على الحاق عدد من الضباط العسكريين بالحزب لحاجته اليهم .
ورغم سرورنا بهذا الموقف الهام الذي كنا ننتظره، الا اننا بقينا في حيرة من امرنا. حيث ان لجنتنا – واقولها بصراحة – ليست بمستوى مسؤولية القيام بمثل هذا العمل الجبار وغير مؤهلة له, ولا تملك التجارب في مجالات الهروب الجماعي. كما لم يكن لنا اتصال بمنظمة مدينة الحلة لمساعدتنا في هذا العمل. الا ان بامكاننا القيام بعمليات انفرادية, كما حصل فعلا والذي سيأتي ذكره.
في نيسان من عام 1967 وصل الى السجن الرفيق الفقيد حسين سلطان منقولا من سجن نقرة السلمان, فاستبشرنا بوصوله خيرا. ولكونه عضوا في االجنة المركزية للحزب فقد طلبت اليه استلام مسؤولية لجنة التنظيم الحزبية, وذلك طبقا لاحكام النظام الداخلي للحزب والاعراف التنظيمية الحزبية, فاستلمها مثمنا هذا الموقف الحزبي الاصيل. وحيث انني كنت اعلم انه متحمس للهروب، وله خبرة واسعة في هذا الشأن، عرضت عليه رأي الحزب في تهريب عدد من الضباط للمشاركة في (عمل حاسم)، ونظرا لمكانته الحزبية وحاجة الحزب اليه فقد فكرت في امكانية تهريبه لوحده، خاصة اذا تعذر الهروب الجماعي. فطلبت اليه التخفي عن انظار حراس السجن, وخاصة اثناء التعداد اليومي لامكان القيام بعملية تهريبه اثناء المواجهة, كما جرى من قبل تهريب الضابط حامد مقصود الذي كان محالا الى المجلس العرفي العسكري بتهمة عقوبتها الاعدام, وكانت السلطة متحمسة لاعدامه بسبب مواقفه الشجاعة .
وقد قام الرفيق مظفر النواب بمهمة تنكره بالملابس العربية مع ختم يده بختم المواجهين الذي صنعه النواب بدقة متناهية. وبعد خروجه من السجن مع المواجهين تم التمويه في عملية التعداد اليومي ولمدة ثلاثة ايام، حتى علمنا من احد اقاربه وهو الرفيق نوح الربيعي انه وصل الى مكان أمين. عندئذ تقرر ضبط التعداد فانكشف النقص. وجرى التضييق والتشديد على السجناء وبعد فترة قصيرة اعيدت الامور الى ما كانت عليه, وعلمت بعد عدة ايام من الربيعي بوصول الرفيق الى براغ, ففرحت للامر .
وبوصول عدد من الرفاق المتقدمين, بدأت التحركات والمداولات بسرية تامة حول الاعداد لعملية الهروب الجماعي لابرز الرفاق ليلتحقوا بركب الحزب. وتقرر تشكيل هيئة تخطيط قوامها الرفاق: حافظ رسن وحسين ياسين ومظفر النواب، على ان يكون الرفيق حافظ رسن منسقا لها, ومهمتها التخطيط والاشراف والمتابعة للعملية وايجاد الموقع المناسب لها.
وقد اختير موقع الصيدلية في السجن الجديد القريبة من كراج السيارا ت المحاذي لسور السجن, فتم نقل الصيدلية الى السجن القديم بعد استحصال موافقة ادارة السجن. وكلف المهندس علي حسين السالم بتحديد المسافة بين موقع الحفر في الصيدلية ومنفذ الخروج من الكراج فقدرها بحوالي عشرة امتار طولا، عدا مسافة النزول والصعود. وجرى اختيار هيئه التنفيذ من الابطال: الضابط فاضل عباس وعقيل حبش وكمال كماله وحميد غني (جدو) على ان يتناوبوا بالحفر كل اثنين سوية، وبدأ التنفيذ في شهر حزيران من عام 1967بصورة سرية.
وقعت اثناء ذلك بعض المفاجئات المقلقه كالتفتيش والزيارات لبعض المسؤولين، كما اثيرت مشكلة اخفاء التراب. وقد فصلها الاخوة سابقاً في مقالاتهم وخاصة مقالات الرفيق جاسم المطير. وبعد توقف لبضعة ايام تم حل مشكلة التراب المستعصية عن طريق تسقيف أكشاك مجاورة للصيدلية ووافقت ادارة السجن على جلب كمية من التراب وتم تصريف تراب النفق مع هذا التراب . وقد ابتكر الرفاق وسائل اخرى متعددة لتصريف التراب. ثم توقف الحفر لبعض الوقت عندما حصل انشقاق القيادة المركزية في شهر ايلول من عام 1967.
انقسم الحزب الى فريقين – وساد الحزن والالم وحتى البكاء نظراً الى ما حل بالحزب. والحقيقة اننا لم نتعظ من الفشل الذي آلت اليه كافة الانشقاقات والتكتلات السابقة التي تعرض لها الحزب طيلة حياته المديدة، والتي ادت الى اضعافه وافرحت أعداءه. والامر المستغرب ان هذا الانشقاق وقع في غير اوانه، ولو انه وقع بعد اعلان خط آب 1964 اليميني لكن هناك مبررلوقوعه، ولنال التأييد الواسع من منظمات الحزب وقواعده، اما انه وقع بعد تصحيح هذا الخط والتحول الى الكفاح المسلح والعمل الحاسم، فلا نعتقد ان هناك موجبا لهذا الموقف الانشقاقي الذي فشل مثل غيره بعد فترة وجيزة حيث عاد المنشقون الى صفوف الحزب نادمين.
بعد ان انقسم السجن الى فريقين، عين كل فريق لجنة، تنظيم حزبية خاصة به. واستمرت الشؤون الادارية مشتركة كما كانت عليه. وحيث ان محكوميتي قاربت الانتهاء, اذ لم يبق منها سوى شهر واحد، فقد اعتذرت عن الانضمام الى لجنة قيادة التنظيم، واخبرتهم بأني طوع اوامرهم.
وبعد فترة وجيزة تم الاتفاق بين اللجنتين على استئناف عملية الحفر في النفق الذي كان قد وصل الى مرحلة متقدمة. واعلمني الرفيق فاضل عباس بالاستمرار في اعمال الحفر نظراً لرغبة الطرفين في الالتحاق كل الى الجهة التي ينتمي اليها. وفي نهاية تشرين الاول اعلمني بانتهاء عملية الحفر وبلوغ منفذ الخروج من الكراج. وستقرر اللجنتان الحزبيتان موعد الانطلاق الى فضاء الحرية.
كان اتجاه السلطة آنذاك حجز من تنتهي محكوميته من السجناء الشيوعيين وخاصة المعروفون منهم، وابقاؤه في سجنه او حجزه في سجن نقرة السلمان او استدعاؤه الى مديرية الامن العامة، وكنت اتوقع قبل هذا الحجز. وقد تم ذلك فعلاً، فبانتهاء محكوميتي في الثاني من تشرين الثاني من عام 1967 (اي قبل القيام بعملية الهروب باربعة ايام) تم نقلي الى مديرية الامن العامة. واثناء وجودي في موقف الامن, علمت من بعض القادمين من الموقوفين بعملية هروب السجناء التي تمت في مساء 6 / 11 /1967 .
وبهذا الصدد لا بد من توضيح موقف المنظمة الحزبية في مدينة الحلة بناء على استفسارات بعض الاخوة:
ان منظمة مدينة الحلة – وحسب علمي وموقعي – وانا مسؤول لجنة تنظيم السجن – لم تقم باي دور في المساعدة بحفر النفق او في عملية الهروب. ولو انها بادرت بالمساهمة لكان بالامكان ابعاد حارس الكراج لأي سبب، والسيطرة على الكراج الذي كان خاليا من الناس، وتهيأة السيارات لنقل اكبر عدد ممكن, ولخرج اكثر من نصف السجناء. الا أن ذلك لم يحصل. ولكن من باب الانصاف والموضوعية انقل ايضاً ما قاله الاخ محمد علي محي الدين في مقاله المؤرخ 2 1 / 4 / 2008 من أن منظمة مدينة الحلة قامت بدور مشرف وشجاع بعد عملية الهروب، حيث انها بادرت إلى نشر مفارزها على الطريق العام لاحتواء الهاربين ومساعدتهم، وتمكنت من ايصال الكثير ممن ضاقت بهم السبل الى اماكن آمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة “طريق الشعب” ص6
الاثنين 30/ 10/ 2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here