من ملفات الشرطة : السر لم يظل سراً!

كانت الدنيا في عينيها لوحة جميلة مليئة بالازهار الحلوة والمشاهد الساحرة.. وكانت الحياة في أذنيها لحناً موسيقياً يصدح بأعذب الانغام.. لم تكن -فاتن- تعلم ان في منطقة الكاظمية بناية ضخمة ذات أسوار عالية وابواب مغلقة سوف تقضي البقية الباقية من أعوامها فيها هذه البناية، وبالتحديد في قاعة ضيقة بسجن النساء.
كانت سعيدة لان احلامها كانت متواضعة.. لم تكمل دراستها الثانوية، قبعت في منزل اسرتها تحلم مثل أي فتاة بالعريس الذي سيدق الباب يوماً ما ليحملها الى عش الزوجية، ولم تكن تحلم بفارس أحلام خيالي يخطفها على صهوة جواد أبيض، بل كان أقصى أمانيها ان يكون عريسها انساناً بسيطاً طيب القلب!.. ولم يطل انتظار فاتن كثيراً فسرعان ما تقدم لها احد اقاربها يطلب الزواج منها.. ووافقت اسرتها على الشاب الذي انطبقت عليه كل المواصفات، فرغم انه كان موظفاً ضعيف الحال بسيط الدخل، الا انه كان مثالاً للرجل المخلص الشهم، وهكذا تم الزواج بسرعة، وانتقلت من بيت اسرتها الى بيتها في غضون شهور قليلة، كانت شقة الزوجية متواضعة، لكنها كانت في عيني فاتن، مملكة رائعة، خاصة انها منذ اليوم الأول لزواجها وجدت في زوجها نعم الزوج العطوف الذي يحيطها بكل حب وحنان ورعاية.. واكتملت سعادتها عندما شعرت بطفلها الاول يتحرك في أحشائها بعد شهور قليلة من الزواج، هكذا كانت الحياة رائعة امام فاتن، لكنها لم تكن تتوقع ابداً، ان دوام الحال من المحال، ففي نفس اليوم الذي جاء فيه طفلها محمد.. ذهب فيه زوجها!
تعالى صراخ الطفل الوليد، وبعد دقائق تعالى صراخ أفراد اسرتها، فقد لفظ زوجها الطيب انفاسه وصعدت روحه الى بارئها في نفس اللحظة التي استقبل فيها طفلها محمد الحياة.. وجدت فاتن نفسها لأول مرة في دوامة عجيبة من المشاعر، هل تفرح بالوليد، أم تبكي على الراحل!.. لكن رحمة الله سبحانه وتعالى بالبشر تجعلهم يعبرون الحزن مثل ما يجتازون الفرح، مضت أيام وشهور وجفت دموع فاتن.. ورغم انها كانت ما تزال ترتدي ثياب الحداد على زوجها الراحل.. الا انها نفضت أحزانها وتوكأت على غريزة الأمومة ونهضت لتدافع عن حياة طفلها محمد.. كان التقاعد الذي تركه لها زوجها الراحل لا يكفي حتى لسد إيجار الشقة، وكان عليها ان تعمل لتعيل نفسها وطفلها.. في دنيا لا يهتم فيها الناس كثيراً بمشاعر غيرهم، كان عليها ان تكون لمحمد الأب والأم!.. لم يكن في امكانها أن تعثر على وظيفة ثابتة فهي لم تكمل تعليمها، لكن بعض جيرانها عثروا على الحل، اشترت فاتن ماكنة خياطة بسيطة، ولما كانت تعرف مبادئ الخياطة فقد بدأت بخياطة الملابس لجيرانها.. كانت تظل جالسة لتخيط وتفصل الملابس طوال النهار والليل، لا تغادر الغرفة الا لتعد الطعام لصغيرها.. أو تساعده على النوم، هكذا مرت عليها الايام، ورغم ذلك فانها لم تخرج من ضائقتها المالية، فقد كانت الاجور التي تحصل عليها من خياطة الملابس لا تسد الرمق ولا تكفي لسد احتياجات الطفل الرضيع، واختفت الابتسامة من حياة فاتن التي تحول وجهها الى تمثال للحزن والقنوط.. لم تكن حزينة من أجل نفسها بل كانت تفكر في مصير ولدها محمد.. ماذا تعمل عندما يكبر ويحتاج الى مصاريف التعليم والمدرسة!.. حتى جاءتها احدى صديقاتها والتي كانت تتردد عليها باستمرار بالحل.. الذي قادها الى سجن النساء!..
انتشرت بعد دخول القوات الأمريكية للعراق ظاهرة تهريب المخدرات من الدول المجاورة.. وعن طريق استغلال النساء، وذلك لسهولة تمرير هذه المواد لعدم خضوعهن الى التفتيش المحكم، فقد عرضت صديقتها على فاتن أن تذهب الى الجوازات وتستخرج جواز سفر تذهب الى صديقة لها في ايران حيث تلتقي هناك مع زوج صديقتها الذي يعمل في تجارة الأقمشة الفاخرة التي لا توجد مثلها في العراق.. وتكون مهمتها فقط تسلم الأقمشة التي توضع في حقيبة والإتيان بها لبغداد، وتكون أجور السفر والاقامة ومصروف الجيب على حساب زوج صديقتها مع أجرة مقطوعة لكل سفرة.
وافقت فاتن بسهولة على هذه المهمة السهلة والمريحة!..
وحدث الجزء الأول من الرحلة تماماً كما وصفته صديقتها.. لكن فاتن أغمي عليها عند الحدود.. عندما فتح رجال الكمارك الحقيبة وكشفوا عن كمية كبيرة من المخدرات داخل قاع قد أخفي بطريقة فنية في حقيبة الملابس التي تحملها فاتن.. أفاقت بعد فترة لتصرخ أنها بريئة وان الحقيبة وما بداخلها لا تخصها.. وذكرت لهم اسم صديقتها واسم التاجر الذي يقيم في ايران مع زوجته.. ولكن كما يقولون (القاتل بجثة القتيل التي يحملها) عبثاً حاولت فاتن ان تدافع عن نفسها أمام ضابط مكافحة المخدرات الذي لم يجد سوى نصوص القانون.. فدوّن افادتها امام قاضي التحقيق، وأمر الأخير بحبسها واحالتها الى المحكمة بتهمة حيازة مخدرات.. وخلال اسابيع كانت تقف امام المحكمة.. ومرة اخرى حاولت ان تدافع عن نفسها.. ولكن ماذا تفعل السلطات الأمنية عندما لا تعثر على صديقتها التي ورطتها بذلك، وسقط حكم المحكمة على رأسها كالصاعقة.. قضت المحكمة بحسبها لمدة عشر سنوات، سيقت في نفس اليوم الى سجن النساء لتقضي بقية العمر فيه، استسلمت فاتن لقدرها العجيب، كانت بسيطة ومخلصة فآمنت بأن هذه هي ارادة الله تعالى وما عليها الا التنفيذ ربما لحكمة لا يعلمها سواه سبحانه وتعالى، لم يكن السجن هو ما يخيفها، بل قلب الام داخلها يتمزق.. كيف ستمضي كل هذه السنين بعيداً عن ولدها محمد، وكيف تظل على قيد الحياة وهي محرومة من رؤياه؟ لكن شقيقتها الوحيدة جاءت لها بالحل، قالت لها شقيقتها وهي تزورها في السجن:
– لا تهتمي يا أختي.. يمكنني أن أحضر لك ابنك محمد ليزورك معي في السجن، انه مازال صغيراً لا يتعدى عمره ثلاث سنوات.
– صرخت فاين.. كلا.. لن يراني ابني أبداً في السجن، ولن أحكم عليه بعذاب مشاهدة أمه من خلف القضبان!..
– سألتها شقيقتها.. (ما الحل)؟
– تنهدت فاتن وقالت.. عليك يا أختي برعاية طفلي محمد انه مازال صغيراً ويمكنك بمرور الايام ان تقنعيه بأنك أمه.. فاذا مر عام أو اكثر نسيني.. في ذلك الوقت يمكنك ان تحضريه معك كل زيارة لأراه..
– سألتها شقيقتها.. لكن ماذا اقول له أثناء الزيارة لك؟
-فاتن.. قولي له انني صديقتك ولست أختك!
وهذه هو ما حدث بالضبط.. مرت الأيام والشهور وكبر محمد وأصبح صبياً يافعاً.. واقتنع تماماً بأن خالته التي ترعاه هي أمه، بل انه أحبها باحساس الابن، لكن أبداً لم يفهم سر تلك الزيارة الشهرية التي كانت أمه تصر على اصطحابه معها الى سجن النساء لزيارة احدى صديقاتها المسجونات.. ولم يفهم ابداً سر هذه السجينة المجهولة التي كانت طوال ساعات الزيارة.. تحدق فيه بنظرات غريبة.. وتربت على كتفه بحنان لا يفهمه؟.. كان الجميع يعلمون سر أم محمد.. اختها كانت تعلم.. كل المسجونات كن يعرفن.. الوحيد الذي لم يعرف سر أم محمد هو محمد نفسه!..
ومرت السنوات.. لم ينقطع محمد عن زيارة تلك المرأة المجهولة بسجن النساء، لكن السر لم يظل سراً.. وفي ليلة تسبق صباح يوم الزيارة الشهرية.. وبينما كان محمد يعبث في بعض أوراق والده الراحل.. انتفض واقفاً وأخذ يترنح.. وكأن الارض تميد من تحت قدميه.. ان السر لم يعد سراً!..
مشهد انساني يعجز اعظم المؤلفين والمخرجين عن كتابته وتصويره!، مشهد أبكى كل الذين كانوا في سجن النساء.. حتى الحراس.. سالت من أعينهم الدموع.. ما ان فتح الباب الحديدي الضخم، ليدخل الزوار الى قاعات السجن حتى اندفع من بينهم شاب في ربيع العمر، يجري نحو السجينة التي تقدمت بها الاعوام، وهزمها الظلم والسجن… اندفع نحوها ليحضرها بقوة… وليغمر وجهها ويديها… بل وليركع ليقبل قدميها مغموسة بالدهشة والانفعال همست أم محمد: لماذا يا ولدي؟
جاءها الرد على لسان محمد، الذي كان مازال يحتضنها في الحال:
-قال.. لأنك أمي.. أمي الحقيقية.

د. معتز محيي عبد الحميد

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here