صحفي عراقي يسلط الضوء على “كتاب مذكرات مام جلال”

نشرت صحيفة العرب اللندنية تقريرا للصحفي العراقي وارد بدر السالم يتحدث فيه عن الكتاب الذي ألفه الصحفي المخضرم معد فياض والمتعلق بمذكرات عن الرئيس الراحل جلال طالباني بعنوان “مذكرات جلال طالباني، سنوات النار.. والثلج”.

وفيما يأتي نص التقرير:

لحظة بالغة التعقيد من تاريخ أكراد العراق الذين تخترق صفوفهم انقسامات حادّة ويواجهون التداعيات الخطرة للاستفتاء الذي جرى مؤخّرا حول انفصال إقليمهم عن العراق، توفي جلال الطالباني.

وكان لوفاة “مام جلال” تأثير كبير، رغم أنه كان غائبا لفترة طويلة عن الساحة بعد جلطة دماغية ألمّت به سنة 2012 نقل على إثرها إلى ألمانيا للعلاج.

ويتطلع كثيرون اليوم إلى مذكرات جلال الطالباني، لكن، صدر مؤخرا كتاب أعده معد فياض نقل فيه الكثير من التفاصيل، على لسان جلال الطالباني، وسرد تفاصيل أخرى بعضها كان شاهدا عليها خلال مناسبات كثيرة عاشها وبعضها الآخر رواها مقربون وشخصيات عرفت الطالباني عن قرب منها فؤاد معصوم رئيس العراق الحالي، ابن بلدته “كويسنجق” الذي لازمه منذ دراسته الابتدائية.

وبوفاته ترك الطالباني فراغا في الساحة الكردية والعراقية عموماً يصعب أن يملأه أحد. فمَن كان يدري أن ذلك الطالب والصحافي سيتبوأ يوماً رئاسة جمهورية العراق، وفي زمن مضطرب، قضى جزءاً منه في خلق النكات على نفسه، كي يمنع شيوع النكتة واستخدامها ضده، وبالفعل نجح في ذلك.

بغداد – الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني (12 نوفمبر 1933 – 3 أكتوبر 2017) شخصية وطنية لها تاريخها النضالي القديم والمعروف في الوسط السياسي العراقي.

نُسجت حياته السياسية من تعقيدات كثيرة في وسط متشابك ومشتبك على مدار عمره السياسي الطويل وفي أعقد المناطق حساسية في جغرافيتها وتاريخيتها وهي منطقة كردستان.

لم يظهر الطالباني، عبر تاريخه السياسي الطويل وفي مواقف كثيرة من الخمسينات من القرن الماضي حتى سقوط النظام عام 2003، بصورة البطل أو المنقذ على حد متابعاتنا له، بل ترسّخت صورة المقاتل المقاوم أكثر من غيرها من الصور.

ويستحضر هذه الصورة، وغيرها، الصحافي والإعلامي معد فياض، ضمن كتاب صدر، بعد أيام من وفاة الطالباني، عن دار سطور البغدادية بعنوان “مذكرات جلال الطالباني.. سنوات النار والثلج”؛ وهو عنوان إشكالي إلى حد ما يقع بين المذكرات والذكريات والتحرير الصحافي.

والتقى فياض بجلال الطالباني وتمكّن عبر سنتين من أن يستجمع صورة الرئيس والمقاتل والسياسي المخضرم بلقاءات صوتية مباشرة فيها قدر كبير من العفوية مثلما فيها قدر أكبر من التشخيصات التي قد لا يعرفها الكثيرون.

وأعدّ سيرة الطالباني انطلاقا من مجموعة لقاءات مباشرة مع الراحل توزعت بين السليمانية وبغداد حينما كان الطالباني رئيسا لجمهورية العراق، وهو أول رئيس كردي يصل إلى هذا المنصب منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة.

وشاء الكاتب أن يجمع “النار” و”الثلج” تحت سقف عنوان واحد وربما له ما يبرره على مستوى الكتاب وما ورد فيه من “ذكريات منتخبة” حينما عالج حياة الطالباني منذ الطفولة حتى رئاسته للعراق، قاطعا شوطا طويلا من ثلاثينات القرن الماضي حتى اليوم في سِفر تسجيلي – صوتي قاله الرئيس الراحل على مراحل متعاقبة توقفت عام 2011 بسبب مرض الطالباني.

يعرف عن الطالباني أنه رئيس خفيف الظل يقول النكتة عن نفسه بل ويؤلفها عليه من دون أن يتردد أو يشعر بأن النكتة تنتقص من هيبته وشخصيته بل تزيده قربا من الآخرين وتزيد من شعبيته بين الأوساط الاجتماعية؛ لهذا كان يفضّل أن ينادَى بـ”مام جلال” من دون غيره من الألقاب.

وجاءت المذكرات بأسلوب “التحاور” بطريقة التسجيل الصوتي ثم “صياغتها”، كما يؤكد فياض “إذ أن هناك الكثير من الأسرار والمفاجآت التي باح بها.. وأخرى استطعت أن أستلّها بصعوبة وإلحاح”، بينما “أخفى بعضا منها ولم يرد على بعض الأسئلة لأسباب تتعلق بالحفاظ على تعهدات كان قد قطعها للآخرين، وهناك أحداث لو رواها لوضعتُ الآخرين في موقف محرج”.

وفي جملة عَرضية ورد في الكتاب أنّ جلال الطالباني “كان هو مَن يصنع أحداثه وهو مَن يخلق ظرفه”، نظن هذه الجملة صحيحة إلى حد كبير لو تابعنا الحياة التفصيلية للرئيس الراحل منذ بواكير حياته التي ابتعدت عن الجو الديني المتمثل بأسرته واتجهت إلى عالم السياسة الشائك والخطر بروح مقاتِلة لا ينقصها الإصرار.

الطالباني، المولود عام 1933، لا يتنصّل من نشأته الدينية المبكرة وكان مقدّرا له أن يكون “أحد شيوخ التَّكْيَة الطالبانية مثلما كان أجداده ووالده إلا أنه سلك طريق السياسة منذ وقت مبكر للغاية من عمر”.

هذا الطريق الطويل الذي كان ملغوما على مدار السنوات وما فيه من تقاطعات كثيرة هيأت الطالباني ذهنيا وأدبيا أن يسعى بدأب وصبر لأن يتقدم صفوف حزبه بالرغم من صغر سنه آنذاك، وأن يحمل على ظهره القضية الكردية في المحافل الدولية كلما أتيحت الفرصة له في ظروف سياسية كانت مهيأة له وبدعم لا ينكره على مدار التحاور من أن الاتحاد السوفييتي السابق كانت له الأولوية في مثل ذلك الدعم الكبير الذي لم يستطع إخفاءه، مثلما كان جمال عبدالناصر يؤيد بقوة التوجهات الكردية في ذلك الوقت للحصول على امتيازات استثنائية في حكم ذاتي أو فيدرالي هو بمثابة الاستحقاق الطبيعي للكرد.

لكن طالباني وعلى مدار هذه الذكريات لم يكن ثوريا رومانسيا حالما كغيره من القادة الكرد، بل كان واقعيا إلى درجة جيدة حينما يقرأ الأحداث المحيطة به “الحكومات العراقية للأسف كانت تتخيل أننا سننفصل عن العراق..” و”العراق وطننا وشعبنا وهذا بلدنا..” و”لم نفكر في استقلال كردستان عن العراق لأن ذلك غير ممكن..” و”الاستقلال عبارة عن خيال، خيال جميل..”، وبهذا الوضوح الذي قاله بعد 2003 بدا الرئيس جلال الطالباني أكثر وعيا لقضيته الكردية وأكثر صلة بالوطنية العراقية رغم ما فيها من سيئات كبيرة في الأوضاع الراهنة.

الطالباني وصدام الجرد السياسي والاجتماعي لهذه الذكريات واسع ومتشعب وقد يكون أكثره معروفا في الأدبيات السياسية، وكنا نبحث في الكتاب عما لم نسمعه أو نقرأه أو يتداوله الناس من سيرة شخصية لـ”مام جلال”.

بهذا الصدد يروي الطالباني الكثير مما لم يكن سائدا سياسيا أو اجتماعيا، فالطالباني “ليس من الأشخاص الذين يغيّرون الحقائق..” فطرته على ما يبدو أكسبته الكثير من الذكاء والفطنة، ومما قاله في ذكرياته أن صدام حسين أقام حفلا لعرسه على زوجته هيروخان في نادي الصيد وفي جزيرة الأعراس وأهدى زوجته سيارة. وزوجته التي انتمت إلى الأفكار الثورية الكردية مبكرا كانت تمارس أيضا دور المراسل الحربي. وتكتب موثقة المعارك وهي التي قالت “كنا نعيش في حقيبة سفر متحركة”.

ويروي الطالباني قصة تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني (1975) الذي سخر منه صدام حسين لكنه فيما بعد اضطر أن يتحاور مع قادته، هذا الكيان الذي دعمته سوريا وليبيا بالمال والتسليح، إضافة إلى دعم الاتحاد السوفييتي الدائم بشرط أن يظل قتالا مستمرا مع الجيش العراقي.

وكان من بين الأهداف إسقاط النظام البعثي “كنا نحاول باستمرار تغيير النظام حتى سألني عزة الدوري مرة بشرفك هل هناك محاولة انقلابية لم تشتركوا فيها؟ فأجبته: لا والله نحن شاركنا في كل المحاولات الانقلابية ضدكم”.

ويكشف الطالباني آخر محاولة انقلابية على نظام البعث “كانت قبل سقوط النظام بفترة قليلة حيث كان معنا بعض الضباط في الجيش، وكان منهم عبدالكريم الحمداني ومعه أحد الأخوة من قبلنا بالتنسيق مع قوة عسكرية كانت موجودة في بغداد، لكن المحاولة اكتشفت وأعدم الحمداني”.

كما يروي الكثير من التفاصيل المثيرة مع صدام حسين التي كانت تتوخى وقف القتال بين الأكراد والجيش العراقي، وكيف أنّ صدام حاول تحييدهم أثناء الحرب العراقية الإيرانية ليضمن استقرار المنطقة الشمالية، لكن الأخير كان مناورا ولم يلتزم بالكثير من تعهداته “وأن إحدى أخطر نقاط ضعف صدام حسين هو أنه كان يفكر في كسب الجيران مقابل عدم إعطاء الأكراد حقوقهم المشروعة”.

ويقول الطالباني إن صدام قال بوضوح للوفد الكردي بشأن قضية كركوك “أنا لا أقول إن كركوك ليست كردية، ولا أقول إنها عربية، كركرك ليست عربية، لكنها مدينة عراقية، وأنا أعرف أن كركوك ستكون العامل الاقتصادي لانفصالكم..”.

ويضيف لكن صدام حسين “كان يعتبرني رجلا خطيرا جدا فقد جرت من قبل أجهزته الأمنية محاولات كثيرة لاغتيالي. وكان كلما صدر عفو عن المطلوبين أو السجناء يستثنيني من هذا العفو ويرفق بياناته بجملة: إلا العميل الخائن جلال الطالباني”.

وشاءت الأقدار أن يكون بدوره رئيسا للعراق مثلما كان صدام. فعندما أصبح الحكم بالعراق بعد 2003 على أساس المحاصصة، كان لا بدّ من أن تكون المناصب بين الكرد على أساس المحاصصة أيضا، وهنا برز السؤال: مَن يكون مناسباً لها مسعود البارزاني أم جلال الطالباني؟ غير أن مختلف الأحزاب العراقية كانت تعي جيدا أن المنصب مفصّل على قياس الطالباني، إذا كان لا بد أن يكون الرئيس كردياً، فله صلات وتأثير على الجميع، فموقع رئاسة الجمهورية كانت قوته بقوة الطالباني لا بالمركز نفسه، فمن المعلوم أن الدستور العراقي سلّم السلطة الفعلية لرئيس الوزراء، وهذا هو الخطأ الذي شعر به الجميع عندما تفرد حزب الدعوة الإسلامية به، فما كان الطالباني يختص به بشخصه لم يستطع خليفته الخروج عن النص المُقيد لرئيس الجمهورية وصلاحياته الشكلية.

انشقاقات حزبية يكشف الطالباني المزيد من الانشقاقات في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لا سيما انشقاق نوشيروان مصطفى النائب السابق للأمين العام للاتحاد وتشكيله حركة التغيير التي صار لها حضور واضح على الساحة الكردية ونواب في البرلمان “هو انشقاق سلمي، لكنه تحول إلى عدائي..” ونوشيروان ذاته بدأ يتذمر من هذه الحركة – كما يروي الطالباني- وطلب كوجبة أولى عشرة ملايين دولار وعقارا في السليمانية لتأسيس معهد استراتيجي للدراسات العلمية لكنه “أسس شركة باسمه وأسس محطة قضائية وأصدر جريدة.. وراح يهاجمنا بفلوسنا”.

هذه بعض الذكريات التي حملها الكتاب وهي كثيرة ومتجانسة في سياقاتها التي جاء بها الكتاب مرفقة بملحقات ولقاءات صحافية جرت مع الرئيس الراحل جلال الطالباني، ليصبح الكتاب كله عبارة عن ذكريات أو استذكارات من دون أن يكون مذكرات كتبها بنفسه مام جلال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here