رمزية النخلة في رواية ( مرافئ الحب السبعة ) لعلي القاسمي

رمزية النخلة في رواية ( مرافئ الحب السبعة ) لعلي القاسمي
يتميز الرمز في الرواية , ببراعة فنية وفكرية , اضفت على الرواية مسحات جمالية ابداعية , تدل على ناصية الكبيرة في امتلاك مستلزمات دوافع الرمزوتوظيفه , نحو غايته المرامية بدواعي الايحاء والمغزى الدال في دلالته التعبيرية , التي جعلت من اغراض الترميز , حيزاً مهما في جمالية المتن الروائي , بذائقة الاقتناص المعبر بفائقة فذة . في روحية وجدانية وصوفية , تنتمي حروف ابجديتها الى الوطن , في الانتماء والهوية , في خوالج الحنين والشوق والاشتياق الملتهب والذي يفور بغليانه في الضلوع , في اريج واقحوان الوطن البعيد . لذلك كان استخدام ترميز النخلة , وشد اسمها الباسق بأسم الوطن , يفضي على الوطن هالة قدسية من الحب , ومن قدسية النخلة , التي تعتبر شجرة الله المقدسة , منذ بزوغ الحضارة والدين والتاريخ , فقد اكتسبت النخلة عبر هذه المراحل , عبق قدسي مبارك , في روضة المجد والقدسية .فنخلة الله على الارض , بأنها مانحة او واهبة العطاء والخصب والخير والبركة والطمأنينة والشفاء , وكما هي واهبة الشموخ الباسق والصمود والثبات والفحولة والرجولة . من هذا المنطلق فأن سمات الرمز تنطلق بدوافع فكرية تصب في خيمة الوطن الحبيب , فالمعنى في رؤيته الفكرية يستجيب تماماً , الى روعة الانتماء بصدق وجداني الى الجذر والاصل والاهل . وخاصة وان اسم العراق اقترن بأسم بلاد النخلة والنخيل . مثلما ارتبطت شجرة الارز في لبنان , ورمزية لبنان . هذه الاهمية تكون , مصدر الالهام في استخدام رمزية النخلة للوطن , بشكل متفاعل في بواعث الروح في المتن الروائي , في تجسيد الثالوث المقدس ( نخلة الله . نخلة وطني . نخلة أمي ) بروحية صوفية في عشق الوطن بالحنان والشوق , التي تتوسم اهداب وعيون الوطن البعيد . يعطي الصورة في هالة التعبد والصلاة للوطن والتقرب الروحي اليه , كما تجسدت في روحية الشخصية المحورية في الرواية ( سليم الهاشمي ) وهو يخوض غمار رحلة التغرب عن الوطن , في الغربة والمنفى والهجرة , لدوافع اجبارية وقسرية خارج عن ارادته , ان يبتعد عن الوطن لدوافع سياسية , وقفت عثرة في قطع الحبل الوصل عن الوطن , لكنها لم تستطع قطع الحبل السري للوطن . ان الغربة والتغرب جاءت بفعل المحاصرة والاختناق , من ممارسات السلطة الطاغية , في حنق وتكميم افواه اصحاب الرأي الحر , وارسالهم الى زنازين الموت والسجن . فلم تبق نافذة مفتوحة , سوى نافذة خطيرة المجازفة في طريق الغربة . هذه هي المظاهر الابداعية , في تقنياتها الفنية والفكرية . والرمز والترميز انشغل عليه المبدعون , في عطاءهم الابداعي . شعراً وسرداً . مثلا الكاتب الكبير ( نجيب محفوظ ) جسد الحارة في رواياته ترميزاً لمصر . الشاعر الكبير الجواهري جسد دجلة الخير ترميزاً للعراق عامة . الشاعر الكبير يحيى السماوي , جسد مدينته ( السماوة ) في ابداعته الشعرية رمزاً لكل العراق , والكثير غيرهم . والعلامة الاديب ( علي القاسمي ) لا يختلف عن الكبار, في توظيف في ترميز النخلة للوطن العراق , في خصائص ودلالات تعبيرية دالة في مدلولاتها , بعدة اوجه وصفات , ولكن كل هذه الدلالات التعبيرية , تؤكد انتمائها قلباً وقالباً , الى طين الوطن وترابه والى نخلة الله المقدسة في العراق , بعناوين كبيرة براقة , في منصاتها الضوئية , في هاجس روحي ملتهب بتفاعله المتنوع من الايحاء والمغزى البليغ .
1 – النخلة المقدسة : واهبة ومانحة العطاء والحب والصفاء والخير والبركة والطمأنينة مانحة الشفاء للمرضى بالتبرك بقربها , وقد استغل العلامة الاديب ببراعة فكرية ناضجة , توظيف الموروث الشعبي , في زيارة العتبات والمعابد المقدسة لتبرك للشفاء . فحين اصيب ( سليم الهاشمي ) وهو طفلاً بمرض الحمى , اخذته امه الى باحة البيت وفرشت الفراش تحت ظل الشجرة الباسقة , طلباً للشفاء من مرض الحمى ( عندما تصيبني الحمى في طفولتي , كانت أمي تضمني الى صدرها , وتحملني بين ذراعيها , تأخذني من غرفتي الى باحة الدار , تمددني على فراش وثير هناك تحت نخلتنا الباسقة , كنت اتمدد في ظل النخلة , واتطلع الى الاعلى , تفتح النخلة صدرها , وتكشف عذقيها الناهدين المحملين برطب اصفر لاهث كالذهب ) ص13 .
2 – النخلة فاتحة اريج الحب والحنان والشوق والانتماء الى هوية الوطن وربطه بالحبل السري للوطن . فحين ضاق الخناق والمحاصرة على ( سليم الهاشمي ) من عيون العسس , في موجات الارهاب العاصفة والهوجاء , من السلطة الطاغية الارهابية , في شد الخناق على اصحاب الرأي الحر , لتكميم افواههم وزجهم في متاهاة السجون والموت والتعذيب , فكل الطرق مسدودة , إلا طريق المخاطرة والمجازفة . في طريق الهجرة عن الوطن والرحيل القسري عنه . حمل ( سليم ) في حقيبته وهو يستعد للرحيل عن الوطن , حمل حفنة تراب , واحدى سعفات نخلة الدار , وشال أمه , وتسلل من داره قبل قبيل الفجر , وحتى الطيور مازالت تغط في نومها , عرف انه في الوداع الاخير للوطن والاهل , دون تذكرة رجوع ( وانا أجرجر خطوي المكابر عبر الجسر , لن ارى بلدي بعد اليوم , ولن أرى أهلي , ولن أرى طلابي , سيفقدني النخل وفرسي واهلي وطلابي ) ص17 .
3 – النخلة : عنفوان الرمز في الانتماء الى الوطن وهويته وارضه واهله . رمزية الشوق والاشتياق , بمثابة الجسر الوصل الى الحبل السري للوطن , الذي يدب في عروقه وروحه , وفي صلاته وعبادته . وفي لحظات الوداع في مطار بيروت , للسفر الى امريكا للدراسة والهجرة , في عملية انقاذ له , حتى لا يكون صيدة سهلة لمخابرات السلطة الطاغية , كما اغتالت رفيقه ( زكي ) في احد الايام الممطرة في بيروت . وفي وداعه مع ابيه , الذي تلى عليه وصيته البليغة , قبيل رحيله الى امريكا ( ستعبر , يابني . الى الضفة الاخرى وسترى وجوهاً جديدة , واشجاراً مختلفة وستناديك اصوات متنوعة , ولكن . ولكن لاتنسى اهلك ونخيلك على شاطئ الفرات , لتبقى ظلال سعف النخيل على عينك , كأهدابك , ولتبق اهازيجنا على شفتيك كرحيقك …………………….. سنحمل النسيم سلاماً اليك . سنتمتم بأسمك في صلواتنا , داعين الله ان يحفظك ويردك الينا , سالماً غانماً ) ص77 . فيرد عليه بحنان وألم ( كيف انسى يا أبي تربة أهلي , وماء الفرات , ونخلة أمي ؟ فقد تشربت بها روحي , وسرت في دمي , ونبض قلبي , وهل يحيا المرء بلا قلب ؟ كيف يا أبي انسى وطني ؟ ) ص77 .

4 – النخلة رمز الانتماء الروحي والتباهي , وفاتحة الفرح والابتهاج : في فرحة غامرة بالابتهاج , وصل طرد بريدي من احد اخوانه , يضم مجموعة كبيرة من علب التمر , المحشو باللوز والفستق , وراح يوزعهُ على مجموعة من احبته المقربين اليه , وتنهال عليه الاسئلة , حول المذاق الطيب والحلو في الفاكهة اللذيذة , يعطي الانشراح النفسي , ويؤكد عدم وجود التمر العراقي , في الاسواق الامريكية , لكنه سيعطي حصة منه حين تصله , رغم حاجته الروحية للتمر القصوى ( فكل تمرة منه اضعها في فمي , تحمل عبق العراق , ونسيم نخلة , أمي , وليس بأمكان التمر الامريكي ان ينتج ذات المفعول , فهناك علاقة روحية بيني وبين التمر , دون ألوان الطعام الاخرى , فالتمر ثمرة نخلة الله , نخلة دارنا . نخلة أمي ) ص115 .
5 – النخلة رمز الصمود والثبات , رمز القوة في وجه عوادي الزمن واعاصيره الغبراء , تقف النخلة بكل شموخ باسق في وجه الاعاصير الصفراء . لكن ( سليم ) يدين نفسه , بألم وتوجع وحزن , بأنه لم يقف صامداً امام الهجمة الارهابية , لم يقف كالنخلة الواقفة بشموخها الجسور , تموت وهي واقفة . لذلك اختار طريق الهروب , من أهله ووطنه ومن نخلة الله , خوفاً على حياته من الارهاب الظالم . حين سمع بالخبرالمؤلم بوفاة أمه ( دعيني اسلكِ يا أمي الحبيبة . هل متِ كمداً على فراقي ؟ هذا ما يصوره الغرور لي , ولكنكِ تفعلينها يأ أمي , فأنا اعلم بشدة تعلقكِ بأطفالكِ , غير أني لا استحق ان يموت أحد من اجلي , فقد تركت أهلي وارضي خوفاً على حياتي , ولم اقف كما تقف النخلة العراقية في وجه الاعصار , تموت وهي واقفة , وهي في منبتها , بل انسقت هارباً بعيداً مثل قشة صغيرة . يا للعار ! ) ص187 .
6 – النخلة رمز القوة وكذلك رمز الضعف تبعاً لحالة العراق الفعلية . ان العلاقة الروحية بين العراق والنخلة , فحين يكون الوطن تنهشه الامراض والضعف والوهن , من افعال السلطة الطاغية والارهابية . حين تحول الحياة الى سجون وسراديب موت وتعذيب ,وحين تلعب رياح الارهاب والبطش والتنكيل والاضطهاد , وحين يحترق عراق بنار الارهاب , كأنه يحرق النخيل , وحين تتوالى الاخبار العراق المفزعة والمرعبة على ( سليم ) يحترق عذاباً ولوعة على رفاقه وعلى اهله وعلى ابناء الوطن عموماً ( رفاقي . اجيبوني , أصحيح ما أقرأ هذه الايام من اخبار مفزعة ؟ أصحيح ان بعضكم أختفى منذ مدة ؟ وان بعضكم يئن تحت سياط الجلادين , في اقبية السجون ؟ وان بعضكم لفظ أنفاسه تحت التعذيب ؟ أصحيح ان النخيل احترق ؟ وان العنادل لم تعد تعرف التغريد ؟ أصحيح ان النهر جف وان الارض اجردت ؟ أصحيح ان هذه الجرائم تقترف اليوم في العراق بأسم العراق ؟ ) ص185 .
×× رواية مرافئ الحب السبعة . علي القاسمي
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here