نتائج بحث عن محافظات الجنوب طلبهُ العبادي..المخدّرات تُغرق محافظات الجنوب

المدى تنفرد بنشر نتائج بحث عن محافظات الجنوب طلبهُ العبادي..المخدّرات تُغرق محافظات الجنوب

 بغداد/ خضر الياس ناهض

بدأت القضية مطلع العام الجاري، عندما قرأ رئيس الوزراء حيدر العبادي تقارير بعثتها ثلاث من محافظات الجنوب نصت على أنَّ هذه المحافظات قد “أُغرقت بالمخدّرات”. كانت التقارير المُرسلة من ذي قار وميسان والبصرة صادمة بالنسبة لرئيس الوزراء الذي كان منشغلاً بترتيبات إعلان تحرير مدينة الموصل ــ التي حوّلها داعش الى “عاصمة لخلافته”. كُتب في التقارير التي ارتأت الحكومة التكتّم عليها أنَّ المحافظات الثلاث تحوّلت الى ممر ومنتج ومستورد للمواد المخدّرة، ومنها مادة الكريستال وحبوب الكبتاكون التي أصبحت متوافرة في كل مكان.

قبل 3 أشهر من التقارير استقبل العبادي، محافظ ميسان علي دواي الذي اشتكى من زيادة سطوة العشائر في المحافظة، وقال إنها تملك العديد من الأسلحة المتوسطة، وبدأت تهدد الأمن في المحافظة.
حينها اكتفى مكتب العبادي بإصدار بيان أشار الى كل شيء تقريباً إلاّ قضية المخدّرات، وجاء فيه إنَّ “الطرفين بحثا الأوضاع العامّة في المحافظة والجوانب الخدمية والمشاريع والوضع الأمني فيها، وتوفير كل متطلبات عمل الشركات الاستثمارية والحدّ من النزاعات العشائرية التي تزعزع الأمن في المحافظة”. وبعد أسبوع من ذلك اللقاء، توجّه العبادي الى ميسان على رأس قوة عسكرية وُصفت بـ”الكبيرة”، كان هدفها المُعلن الحدّ من النزاعات العشائرية.
وقال العبادي، إنَّ زيارته التي استغرقت يوماً كاملاً جاءت تلبية لدعوة من المحافظ، ومن أجل التعرف على مشاكل المواطنين، وإنه اجتمع مع مجلس المحافظة والتقى وجهاء ورؤساء عشائر، وقال إن “العشائر مطالبة بمساعدة القوات الأمنية على حفظ الأمن”.
بعد الزيارة، اكتفت القوة التي ذهبت مع رئيس الوزراء بعملية بسيطة ثم جرى التكتّم على هذا الملف.
على المستوى غير المعلن، كلّف العبادي، الأمين العام لمجلس الوزراء مهدي العلاق، بإجراء بحث علمي للتقصي عن حقيقة التقارير التي تلقّاها. وبدوره كلّف العلاق باحثين من أساتذة الجامعات وموظفتين في مجلس الوزراء ومدير مستشفى ابن رشد، بإجراء البحث المطلوب على أن يكون هو المُشرف عليه.
أنجز الباحثون، الذين لم يرغبوا بالكشف عن أسمائهم، البحث خلال أربعة أشهر. (المدى) حصلت على نسخة من هذا البحث الذي بقي طي الكتمان، وضمَّ العديد من اللقاءات مع المحافظين ونوّابهم ومدراء السجون وما يقارب 435 مدمناً وتاجر مخدّرات في سجون المحافظات الثلاث.
ووضع الفريق البحثي ما يقارب 35 توصية، منها إعلان حالة الحرب الشاملة على المخدّرات والارتقاء بمواجهة الظاهرة إلى مستوى مكافحة الإرهاب.
ويقول رئيس الفريق في حديث لـ (المدى)، إنَّ “العبادي وافق مباشرة على التوصيات وهي الآن حيّز التنفيذ”.
وعن كواليس هذه القضية، يقول رئيس الفريق، إنَّ “العلاق اتصل بنا وكلّفنا ببحث قضية المخدّرات في المحافظات الثلاث”. ويوضح البروفيسور في علم الاجتماع، أنَّ “العبادي أطلع على تقارير ميدانية وردتهُ من بعض المحافظات، تشير الى انتشار تعاطي المخدّرات من قبل شرائح المجتمع المختلفة، ووجّه بتشكيل فريق بحثي يضمُّ أساتذة وباحثين من وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي والصحّة ومن الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ومدير مستشفى ابن رشد”.
ويستذكر الأستاذ الجامعي كيف استقبل محافظ ميسان الوفد قائلاً “كنت أتوقع أن تأتوا على رأس فوج عسكري يؤمّن الحدود ويمنع دخول المخدّرات!”.
وعند السؤال عن القوة العسكرية التي ذهبت مع العبادي، قال رئيس الفريق البحثي “بحسب معلوماتي أنها انسحبت بعد أيام من عودة رئيس الوزراء وانتقلت إلى الموصل لتعزيز القوات التي كانت تقاتل هناك”. وبحسب كلام قيل إنّه دار بين رئيس الوزراء ومحافظ ميسان، ولم يتسنَ لـ(المدى) التأكّد من صحته، فإنَّ المحافظ دوّاي خاطب العبادي قائلاً “الحك النه.. تره المحافظة تحوّلت إلى منتج مخدّرات”.
وأفاد رئيس الفريق بأن أكثر المواد المخدّرة فتكاً بالشباب في محافظات الجنوب هي مادة الكريستال وحبوب الكبتاكون التي يسبّب تعاطيها آثاراً جانبية خطيرة.
اكتشف الفريق أنَّ الظاهرة بدأت بالتنامي في 2014 وتحديداً منذ سيطرة داعش على الأراضي العراقية على شكل سيناريو يهدف إلى إسقاط شمال بغداد وغربها بالإرهاب، وسيطرة المخدّرات على الجنوب. وتصاعد عدد المتعاطين في البصرة من 371 في 2014، الى 638 في 2016 و322 في الثلث الأول من العام الحالي، أي أنَّ عدد المتعاطين تضاعف 3 مرات. وفي ميسان كان 169 متعاطياً في 2015 وفي الثلث الأول من العام الحالي، بلغ عدد المتعاطين 165، أيّ أنَّ عدد المتعاطين في أربعة أشهر مقارب لعدد المتعاطين في كل أشهر عام 2015.
وفي ذي قار بلغ عدد المتعاطين في 2012 وعام 2014، وفي 2016 ارتفع عدد المدمنين إلى 2329.

كيف دخلت المخدّرات؟
وحدّد البحث الذي يتكون من 109 صفحات، طرق توريد المخدّرات، فهي تأتي من منفذين، الأول عبر الحدود الإيرانية، والآخر عبر شراء المخدّرات من قيادات وعناصر داعش الذين سيطروا على مناطق شاسعة من العراق في 2014.
وقال متعاطون التقاهم الفريق البحثي “نتسلّم المواد المهرّبة من التجار الإيرانيين”، وأوضحوا أنَّ “عمليات إدخال المخدّرات الى العراق تأتي أيضاً عن طريق الزوّار الإيرانيين أثناء الزيارات الدينية”. واستدرك المتعاطون كلامهم قائلين إنَّ “المخدّرات التي يجلبها الزوّار الإيرانيون معهم تكون لأغراض المتاجرة لتغطية تكاليف السفر”. وأوضحوا “هناك مواد أولية موجودة في العراق، وهي أرخص ثمناً ممّا في الدول المجاورة، إذ يجري تجميعها وتهريبها إلى إيران بعدها يتم طبخها في إيران ويعاد إرسالها الى العراق لتوزّع بشكل واسع”.
أشار المبحوثون الى أنَّ الممرات المائية هي أهمّ الطرق الرئيسة لتهريب المخدّرات.. وأهمّ المسالك في محافظة ميسان: طريق هور الحويزة ومنطقة الصخرة والبيضة في ناحية العزيز. وطريق هور أم النعاج ونهر العز مروراً بالجبايش في محافظة ذي قار. وطريق هور العظيم مروراً بناحية العزيز باتجاه منطقة الصيكل وإلى ناحية الإصلاح في محافظة ذي قار، منطقة الشيب باتجاه المشرح. أما في محافظة البصرة، فإنَّ أهمّ المنافذ هي الشلامجة، وشط العرب (الفاو، السيبة، المعامر، الفداغية والدويب).
فضلاً عن ذلك، هناك ممّرات بريّة تنقل هذه المواد، ويقول سائق سيارة حمل، إنه نقل 500 كيلو غرام من مادة الحشيش وتم الإمساك بسيارته. وأضاف السائق “لا أعرف عنوان الشخص الذي قام بتأجيري، وحتى أجهل أسمه، إذ قام بإغرائي بمبلغ عالٍ جداً لنقل البضاعة، وأنا أعرف أنَّ هذه المادة حشيش ممنوعة، وأنها كانت معدّة للتهريب خارج العراق عبر وسيط آخر”.
أصبح البلد الذي كان مصنّفاً على أنه نظيف من المخدّرات حتى 2003، دولة عبور واستهلاك وإنتاج للمخدّرات، وصار الانتشار “عنقودياً” كما تسمّيه العلوم الاجتماعية، فبمجرد أنَّ يتم توريط شخص ما يكون نصف أصدقائه وأقربائه وجيرانه قد اصبحوا من المدمنين.
أما عن التجارة مع داعش، فيعلّق أحد أعضاء الفريق قائلاً: إنَّ “عناصر داعش يتعاطون المخدرات خلال تنفيذ العمليات الانتحارية، وهو ما وفّر منفذاً للتجار للتعامل مع داعش وشراء المخدّرات”.
ويقول متعاطون: إنَّ تجار هذه المواد عمدوا الى تجنيد الأطفال والنساء لتوزيع بضاعتهم عبر سياسة “توريط” تقضي بمنح ما يساوي “شمّتين” مجانيتين من مادة الكريستال الى الطفل أو المرأة، وهي كمية كافية لجعل الشخص مدمناً.
ولا يملك الأطفال والنساء المال لشراء المخدّرات، خصوصاً وإنَّ سعر الغرام الواحد يبلغ 50 – 60 ألف دينار، ما يدفعهم للموافقة على المتاجرة بها مع الجيران والأصدقاء.
تجّار معتقلون.. ومدارس “للحشيش”
وأكد التجّار المعتقلون، إنَّ “بعض المنتسبين (ضباطاً ومراتب) لهم باعٌ طويل في تجارة وترويج هذه المواد”، وأكدوا “وجود تنسيق بين بعض الضباط ومصادرهم التي تقوم بعمليات التوزيع بشكل علني”.
واعترف بعض تجار البصرة بأن “هناك مفوضاً في دائرة مكافحة المخدّرات هو من قام بتوزيع المخدّر عليهم”.. وألقي القبض على المفوض وهو يقضي الآن مدّة عقوبته في السجن نفسه.
ويستخدم مروّجو المواد المخدّرة طرق إقناع تناسب كل فئة عمرية أو اجتماعية، فالمتزوج يتم اغراؤه بقدرة المادة المخدّرة على تنمية طاقاته الجنسية ومنه تنتقل لزوجته، إذ يتم تزويدهم في بداية الأمر بعيّنات مجانية، وبعد الإدمان عليها يتم إقناعه ببيع كمية قليلة منها لتغطية مصاريف جرعته، وهكذا تنتشر من خلال سلسلة من العلاقات الاجتماعية.
أما الشباب ولا سيما الطلبة منهم، فيتمّ اقناعهم بقدرة المخدّرات على جعلهم يسهرون لأيام بالإضافة إلى تزويدهم بطاقات عالية من النشاط والحيوية.
وأشّر البحث وجود شبهات كثيرة بخصوص ارتباط المقاهي، لا سيما المقاهي التي تقدّم الأركيلة، بتعاطي المخدّرات، كما أنَّ هناك بعض المدارس الثانوية يتم فيها تداول المخدّرات بين طلبتها. ويرى نصف المبحوثين، أنَّ الحصول على المخدّر في المحافظات الثلاث سهلٌ، وأنهم يحصلون عليه من بعض الصيدليات والمذاخر والتجّار وجهات مجهولة.
وعند زيارات الفريق، كان الحديث عن المخدّرات في أحياء البصرة الفقيرة مثل (البكرية ــ الحيانية ــ التنومة) أمراً طبيعياً.
وقبل إتمام البحث، كان أفراد من الفريق يجلسون في أحد مقاهي شط العرب، عندما صاح شابٌ يجلس بجانبهم متحدثاً مع رفاقه قائلاً: إنَّ “هاي (هذه) الأركيلة بعد ما تفيد (لا تنفع).. خلي نروح نحشش أحسن (لنذهب نتناول المخدّرات)”.
هذا الكلام صدم الفريق، وبعد إنجاز بحثهم كتبوا أنَّ “البصرة تحوّلت إلى مملكة كريستال”.

كريستال ودعارة
واقترنت بعض عمليات تعاطي النساء للمخدّرات بانحرافات أخلاقية، إذ تساعد مادة الكريستال في زيادة الطاقة الجنسية، ومع توفر فرص اختلاط تحدث الدعارة. وتقول معتقلة بصرية عمرها 24 عاماً، وهي متزوجة من شخص يتاجر ويتعاطى المخدّرات، “إنني من أسرة تمارس البغاء كمهنة، حيث هجر والدي الأسرة منذ زمن، وأمي تمارس البغاء وزوجي يتاجر ويتعاطى مادة الكريستال”، مضيفة أنَّ “زوجي أقنعني بتناول الكريستال لأنه منشّط جنسي”.
وأضافت أنَّ “زوجي أوقعني بمصيدة الانحراف، حيث كان يتردد ومعه مجموعة من أصدقائه لتناول مادة المخدّر في البيت، وبعدها أمارس الجنس مع رفاقه واحداً تلو الآخر”.
وتوضّح “حاولت إغواء مجموعة من الشابات من صديقاتي اللواتي تعرفت عليهن، وقد تمكنت من ذلك”.
وقالت نزيلتان في سجن الناصرية الإصلاحي، إنهما تقومان بعملية الدعارة إضافة إلى التعاطي والترويج.
وفي ميسان، قالت سجينة من مواليد 1993، تسكن في الزبير، وهي متزوجة ولها طفلتان، إنَّ “زوجها هجرها، وبعدها تعرفت على مجموعة من الصديقات في المنطقة التي تعيش فيها، وهن يتعاطين المخدّرات مما أوقعنها في شباك الانحراف”.
وأضافت السجينة “تعرفت على شخص (عقيد في الجيش) وكان يتاجر بالمخدّرات ويتعاطاها، وكنت أذهب إليه واتعاطى الكريستال معه”، مبينة “بعد مدّة، بدأت باصطحاب صديقاتي وقام العقيد بإحضار مجموعة من الشباب المدمن أيضاً من سكنة المنطقة ومارسنا الدعارة”.
في غضون ذلك، قالت معتقلة أخرى من ميسان، إنها تزوجت من رجل زواج متعة، وحملت منه، وكانت تتعاطى المخدّر معه وهو من علّمها على التعاطي ومن ثمّ الإدمان. وأضافت “كنت أشعر بنشوة في المعاشرة الزوجية عند تعاطي المخدّر”، موضحة “أصبح المخدّر يجري بدمي”، وكانت تتناول يومياً “ما يقارب 1 غرام”، وتعتمد على تجارة الكريستال “للحصول على 50 – 60 ألف دينار يومياً لشراء حصتها”.

السجون مصانع التجّار
تقول معتقلة بصرية “تزوجت من شخص كان بداية الأمر يبيع الحبوب، وعملت معه في بيع الحبوب منذ عام 2000، وعند انتشار مادة الكريستال وزيادة الطلب عليها وانتشارها بين الشباب، اتجهت لترويج هذه المادة، وتحديداً بعد عام 2013، ومنها بدأت بتعاطي المخدّر مع زوجي”. وتضيف المرأة التي كانت تسكن في منزل في الحيانية “لو توفرت لي فرصة الخروج من السجن، سأعود الى سابق عهدي في الترويج والتعاطي”.
وتضيف “كان قد ألقي القبض عليَّ عام 2014، وخرجت أثناء العفو الذي صدر سابقاً، ثم تمّ إلقاء القبض على زوجي واعترف عليّ”. ويقول أحد الباحثين خلال حديثه مع (المدى): “سألنا أحد المبحوثين: كم مدمناً تعرفه في حيّكم، وكم عدد المعتقلين؟، فأجاب: ما يقارب 15 ولم يعتقل أحد غيري”. وهذا يؤشر أنَّ عدد المدمنين غير المعتقلين أكثر بكثير من الذين كُشف أمرهم واعتقلوا.
ويؤكد الفريق البحثي، ضرورة “فصل المتعاطين عن التجّار داخل السجون، إذ تمارس عمليات تدريب وتوريط محكمة يستخدمها التجّار للإيقاع بالمتعاطين”. وقد أظهرت معطيات الدراسة والمقابلات وجود الكثير من العائدين للجريمة والانتقال من التعاطي إلى المتاجرة.

عشائر تتاجر بالكريستال
ويعلّق رئيس الفريق البحثي على النزاعات العشائرية التي شكا منها محافظ ميسان خلال لقائه بالعبادي، قائلاً: إنَّ “نزاعات عشائرية تحدث على طرق توريد المخدّرات وخصوصاً الكريستال الذي يباع الكيلوغرام الواحد منه بـ35 مليون دينار.. كانت العشائر تتنازع باستخدام كل أنواع الأسلحة من أجل ممرات المخدّرات”.
ويذكر أحد الباحثين لـ(المدى) قائلاً: إنَّ “عنصر أمن في ميسان نجح بإيقاف تاجر مخدرات كان يحمل مادة الكريستال، إلاّ أنَّ عشيرة التاجر قاضت الشرطي وأخذت منه 60 مليوناً كفصل عشائري”.
ومن ضمن نتائج البحث، إنَّ الكريستال من أكثر المواد المستعملة في التعاطي، إذ قال 210 مشمولين بالدراسة إنهم يتناولونه، و153 مبحوثاً يتناولون الحبوب المخدّرة، و13 يتعاطون الكوكائين. كما أنَّ أكثر من نصف المبحوثين يتناولون المخدّر عبر السوائل، والباقون يتعاطونه عبر الاستنشاق أو الحقن.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here