الرَّجُلُ صَّاحِب الكَلَبِ

الرَّجُلُ  صَّاحِب الكَلَبِ

قصة ــــ يوسف أبو الفوز

مجلة الثقافة الجديدة (بغداد)، العدد 394 تشرين الثاني 2017

 

بعد سهرة طيبة، في مساء صيفي ساحر، في احد نوادي مدينة عينكاوة، حيث توفرت لنا الفرصة لارتشاف كؤوس بيرة مثلجة، والتقطنا مجموعة من الصور التذكارية، كانرزكار اثنائها بمزاج لا يتناسب مع عمره، يتفنن في اختيار زاويا التصوير لتبدو في عمق المشهد فتيات، بملابس عصرية، ببنطلونات جينز ضيقة، وفانيلات قصيرة تكشف عن مقاطع مغرية من بطونهن اللدنة، يجلسن بأسترخاء نازعات احذيتهن يدخنن الناركيلة، بمشهد لا يمكن لفتاة شرقية ان تحلم به ولا حتى في أي بلد اوربي. قال رزكار :

ـ في مدن جنوب العراق ليس للنساء الا بيوتهن ليشعرن بشيء من الحرية. الله يكون في عونهن.

عدنا الى مركز مدينة اربيل منتشين بالفرح . طوال الطريق كنت امزح مع رزكار :

ـ لم ار سيارة واحدة توقفت عند اشارات الاحمر، حتى انت … يا متمدن، يا من عشت سنينا في اوربا،  فما الحكمة من وضع الاشارات الضوئية ؟

ويضحك صديقي، الذي عرفته سنوات النضال في الجبل وارتبطنا بعلاقة حميمة، حرصنا على تواصلها رغم تباعد المنافي. كان رزكار أجرأ مني في اتخاذ قرار العودة الى البلاد بعد سقوط النظام الديكتاتوري، وبشهادة الحقوق التي حصل عليها من المانيا، حصل على وظيفة مرموقة، وتزوج من أبنة عمه بعد ان رفضت زوجته الالمانية السابقة الالتحاق به الى كردستان، كانت التفجيرات حينها لا تغيب عن شاشات التلفزيونات العالمية، فصاحت به غاضبة :

ـ طلقني، اتريد ان تأخذني الى الموت؟

ومات الحب الذي ظنه ابديا. عاد الى اربيل تاركا لها أبنه، حاملا غصة سرعان ما نساها بعد لقاءه بأصغر بنات عمه. أمرأة فاتنة وطموحة، ولم تتوقف كثيرا عند فارق السن بينهما:

ـ اربعة عشر عاما، لا شي مقابل العشرين التي يكبر أبي فيها أمي وعاشا حياتهما سعداء جدا بالتفاهم والحب !

ظل رزكار محتفظا ببساطة وشهامة عرف بها، كانت تقربه دوما الى الناس. لم يفارقه تواضعه الذي قربني اليه منذ سنواتنا الاولى في الجبل، مما شدني للتمسك به اكثر. ضحك وقال :

ـ اشارات المرور؟! انت تحسب نفسك في أوربا، نحن هنا يا صاحبي بحاجة لاجيال جديدة حتى نتفهم مفردات الحضارة،  ويصبح كل ذلك جزءا من سلوكنا العام .

من الايام الاولى لي في مدينة أربيل رحت اتفحص بفضول شديد ما حولي. زالت الديكتاتورية وزالت حروب الابادة ضد الشعب الكردي ، اذا لم يصعد حكام شوفينين من جديد الى سطح كراسي الحكم. هناك افاق لتقدم البلاد. ان تتحرك نحو مستقبل طالما حلم به الناس وقدموا لاجله تضحيات جسيمة. تأكدت بنفسي مما كان يقوله لي رزكار على  الهاتف :

ــ نعم، نحن بلد ديمقراطي كما تعلن احزابنا في الصحافة، لكنها ديمقراطية لا تشبه اي ديمقراطية في العالم ، تعال وراح تشوف بنفسك !

وجاء لير بنفسه. مدن كردستان تغرق في النزعات الاستهلاكية مع توقف العملية الانتاجية. الفلاح يهجر قريته ويتحول الى شرطي. رواتب تجري من اماكن مختلفة من خزينة الدولة. بنايات فنادق ترتفع عالية، وزبالة بضائع دول الجوار تملأ الاسواق، ويظهر سياسي في التلفزيون متأنقا بربطة عنق فاقعة اللون، وجهه ينضح بالعرق ،  ليصرخ بالناس :

ـ سنحول البلاد الى دبي جديدة !

ويعفط  رزكار كلما تذكر ذلك :

ـ نعم ، سنكون دبي اخرى بأستيراد الخادمات الآسيويات !

رزكار ناقم على كل شيء، وكل مرة أهاتفه اتوقع ان يقول لي بأنه سيعود الى المانيا فورا. نصحني بعدم الاستعجال بالعودة :

ـ كان قراري صائبا ولكن يبدو مستعجلا. حاول ان تستفيد من تجربتي، رتب امورك كلها بشكل محكم قبل ان تحزم حقائبك.

وها أنا قادم لاستطلاع الامور من جديد . قابلت كذا مسؤول. سمعت وعودا بالتوظيف. تركت سيرتي الذاتية على اكثر من طاولة، بقي لي عدة ايام لاعود حيث اقيم في اوربا المترفة التي صار البعض من معارفنا يكرهنا  لمجرد اقامتنا هناك :

ـ انتم ، متنعمون في اوربا، لا تعرفون حجم معاناتنا هنا، فكفوا عن اطلاق الملاحظات والانتقادات، ان ايدينا في النار وايديكم في الرماد !

مرت السيارة ببيوت فارهة ، قال رزكار وهو يشير بيده :

ـ فقراء الناس سمو هذا الحي “حي الحرامية “، فهنا يقيم موظفون كبار وقادة سياسيون ورجال اعمال!

يمكن لمس الفرق بين هذا الحي ومناطق اخرى يسكنها فقراء الناس من ملاحظة نظافة الشوارع ونوع الارصفة. حين تجاوزنا “حي الحرامية “بقليل، ترك السيارة احد معارف رزكار ممن رافقونا في سهرتنا، بينما واصلنا الطريق. اصر رزكار، رغم معارضة زوجته واهلها، ان يبقى في البيت الذي تركه لهم ابيه في المنطقة الشعبية، اشترى حصة اخيه بثمن مناسب ورمم البيت ليكون واحدا من بيوت الحي النظيفة والبارزة :

ـ هنا بين بسطاء الناس اتعلم كل يوم ان لا انسى نفسي واتكبر على الاخرين، وسينشأ ابنائي على منوالنا .

انعطفت السيارة بنا عند دكان مفتوح رغم ابتعاد الليل عن منتصفه، نزلت زوجة رزكار اشترت شيئا ما وعادت وهي تتذمر من غلاء الاسعار. خلالها مص رزكار نفسين من سيكارة مطفأة اشعلها بسرعة قبل عودة زوجته التي طالما عاركته على اصراره على الاستمرار في التدخين. فجأة لمحت الكلب.  كلب منزلي من نوع أمريكي، بشعر ابيض قصير، ولمة شعر عند الرأس كأنها لمة اسد. على رقبته تلمع خرز فسفورية يتدلى منها قطعة معدنية مربعة، خمنت انها رقم هاتف صاحب الكلب. اعرف مثل هذا المشهد جيدا في الديار الاوربية. انه مشهد يومي عادي. لم ار وجه صاحب الكلب جيدا. كان يسير محني الظهر بخطوات قصيرة متسارعة ليلحق بالكلب الذي كان يتشمم كل شيء امامه بشراهة. خمنت ان هذه من مظاهر حمى الاستهلاك في المدينة. هواتف نقالة اخر موديل، ملابس اخر صرعة، سيارات فارهة، مولات فارهة،  خادمات اسيوية … وكلاب من كل الانواع! ما ان تحركت السيارة، وحاذينا الكلب، حتى رايت رزكار يرفع يده بالتحية، التي رد عليها صاحب الكلب بحرارة وراح يواصل هز يده رغم

ابتعادنا. كانت لحظات كافية لارى بوضوح وجه الرجل. خيل لي اني اعرفه، او قابلته في مكان ما. في اربيل او بغداد او في البصرة . خلال الاسبوعين الذين قضيتهما في اربيل، لم يترك رزكار مكانا لم يأخذني اليه. خيل لي ان الرجل صاحب الكلب كان هناك حين لعبنا البولينغ، ساعة تركتنا زوجة رزكار لتتبضع هي وأختها، واقترح رزكار “ان نحرك عضلاتنا قليلا”. وانه كان في بناية البريد حين سألت عن امكانيات ارسال بطاقات بريدية مباشرة الى اوربا.  اذكر في المقهى المجاور لسوق تصريف العملة حين شربنا فنجاني قهوة وجدنا ان احدهم قد دفعها بدلا عنا، وذكر لي رزكار اسمه. انه ذات الشخص . في كل مكان تجد نسخة منه. كأنه يتناسل من الظلال. استغرب رزكار كوني لا اميز شكله وليس لي معرفة بذلك، وهو الذي طالما تردد أسمه في الجبل وفي المدينة.  في اليوم التالي ، قال لي رزكار:

ـ نحن مدعوين عند صاحب الكلب ، ستسمع الكثير مما ينفعك لتفهم الحياة الجديدة هنا!

ـ أهو صديقك الان؟

ـ معارف وعلاقات مشتركة مع معارف أخرين. هو يظن أنه قد يحتاج محل عملي يوما، فيحرص على علاقته معي.

في الوقت المحدد، كنا هناك. كان بأبهى حلة. ملابس اوربية ناصعة الالوان . موسيقى كلاسيكية تصدح في الصالة المفروشة بالسجاد الوثير. من أول وصولنا دارت كؤوس النبيذ الاحمر. شربت على حذر. كانت زوجته ببنطلون جينز قصير الساقين وقميص عريض الاكمام وحرصت على سد فتحة الصدر بفانيلة قطنية مشابهة لقماش قميص زوجها. بدأ يحدثنا عن خصال كلبه ” بوبي” وجعله يرينا بعض الحركات التي دربه عليها، كان فخورا جدا لأن ” بوبي” يفهم الاوامر باكثر من لغة وينفذها :

ــ    هل تعلمون ان الكلاب التي تقود مكفوفي البصر تعتبر من المعجزات، ولذلك هي في اوربا غالية الثمن، فبعد ثلاث شهور من التدريب يمكن ان تعرف الطرق وإشارات المرور وأماكن عبور المشاة ومساكن أصحابها، بل وتعرف أماكن التسوق. والأغرب أنها تعرف أرقام الحافلات التي يركبها أصحابها، فتراها لا تقفز إلاّ في المركبة التي يريدها صاحبها، وتغادرها في المكان المطلوب تماماً، الا توافقوني في اعتبار هذا من المعجزات؟

وسرعان ما نسي موضوع الكلاب وراح يتحدث عن فكرة مشروع استثماري، فهو يريد بيع البيت ويجمع ما لديه ويشتري قطعة ارض خارج المدينة، يحولها الى بيت ساحر على طراز بيوت النبلاء في القرن التاسع عشر. زيارات وحفلات بمواعيد ثابتة. مكتب تجاري للاستيراد والتصدير. استثمار قطعة ارض باشجار الزيتون. كان يرسم مستقبلا مشرقا لما يفكر به. يحرك يديه ويرسم خطوطا وهمية. يؤشر عند نقطة في الفراغ ويذكر بأنها بئر مياه ارتوازي :

ـ الارض غنية، تحتاج لمن يجهد نفسه في استثمارها .

تركت الزوجة حقيبة يدوية لها بالقرب من مقعدي حيث اجلس. لم أكن ميالا للأكل. تناولت طبق سلاطة خفيف، وجدتني ورزكار نمتدح الطعام اكثر من مرة ارضاءا للزوجة . اعتذرت زوجة رزكار عن مصاحبتنا، زمت شفتيها وقالت لزوجها بصوت خافت لكني سمعته :

ـ اكره المبالغات و … !

وبلعت الكلمة التالية لكني فهمتها.

لم أشأ ان اخرب لرزكار فرحته بلقائي، ولا اتدخل في برنامجه الذي رسمه لي . في اول يوم وصلت أربيل وجدت انه حجز  صالة كاملة في مطعم وكان هناك اكثر من عشرة مدعوين. كان يريد ان يقول لهم شيئا. لانه حين وقف في صدر الطاولة تحت هواء المكيف الذي كان يطلق صوتا كالصفير، قال وهو يوزع نظراته بمعنى خاص :

ـ يسرني ان تشاركوني احتفائي بصديق حقيقي لم يفكر يوما في خذلاني !

وبحثت في الوجوه ، من منهم عليه ان يفهم ان الحفلة اساسا اقيمت له لكي يسمع من رزكار هذه العبارة ؟ لم المّح حتى لرزكار بأنه يستغل وجودي لتمرير رسائل ما  لاخرين . تركته على

سجيته. وحين قادني الى  بيت صاحب الكلب، وسألني قبلها عن الاكل المفضل ليعده لنا مضيفنا، قلت له :

ـ  مثلما يعجبك !

ما ان تم رفع الصحون، ودارت فناجين الشاي والقهوة ، حتى وجدت زوجة صاحب الكلب تجلس الى جانبي :

ـ قالوا لي انك تعيش في … !

وكدت ان ابتسم، اذ ادرك انها تعرف جيدا اين اقيم ، فلم هذا التصنع في الجهل ؟ فقلت لها :

ـ نعم ، منذ ستة عشر عاما.

زحزت نفسها بأتجاهي، ومالت علي بحيث لامس كتفها ذراعي :

ـ اخبرني بصراحة، من خلال تجربتك، ايهما افضل الحياة في السويد او الدانمارك او عندكم؟

ولمحت زوجها، صاحب الكلب، يشرئب بأذانه نحونا، يحاول ان يتسمع حديثنا، وخمنت انه لا يسمع شيئا من الحديث الذي يدلي به رزكار عن قضية ما . لم تتركني اجيب على سؤالها الاول ، حتى الحقته بسؤال اخر:

ـ  هل صحيح ان معاملة “لم الشمل” في السويد تكون اسرع ؟

وحرت على أي سؤال اقدم الجواب؟ زحزحت فنجان القهوة امامي محاولا لم أشتات فكري لاجيب، لكنها التصقت بي اكثر وقالت بصوت هامس لا اظن احدا غيري يسمعه :

ـ لا يغرك كل هذا الكلام عن المشاريع المستقبلية، انا وزوجي مطلقان عمليا منذ سنة، هو يعيش ويعاشر كلبه اكثر مني، القضية مجرد توقيع اوراق ويكون كل منا حر بحياته الجديدة. أنا امراة عملية، قررت البحث عن مشروع زواج سريع ومناسب في احد الدول الاوربية للانتقال الى هناك، لا استطيع تحمل خداع المهربين ولا اختلاق قصص الاضطهاد من اجل اللجوء. لي معارف في السويد اوصيتهم بالبحث لي عن عريس مناسب. أرجوك ضع الامر في بالك ان كان يمكن ان تساعدني!

نظر رزكار بأتجاهي وهو يرى صاحب الكلب شاردا لا يستمع اليه ونظراته موجهة اليّ. كان وجهه  ممتقعا، يبدو انه فهم كل شيء قالته لي زوجته. نهض فجأة، فتح زجاجة نبيذ جديدة وصب في  الكؤوس، ورفع كأسه :

ـ صحة المستقبل !

عينكاوة

12 حزيران 2012

 

*  النص من مخطوط ” بعيداً عن البنادق” ، المعد للنشر، يجتهد لتسليط الضوء على حياة الانصار ما بعد نهاية حركة الكفاح المسلح، ورصد امالهم وذكرياتهم وخيباتهم وطموحاتهم .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here